نصوص أدبية
رواية "صفحات من سيرة المبروكة" (1)
قلت: زوّر
قال: لا
فقلت: أنكر ..
صمت حينها ولم يرد، فكدت أبكي من فرط الأسى .. عندها تركني وانصرف، فعدت أسترجع تفاصيل الحكاية من جديد، أتتبع خيوطها، أمسك بها حينا وتفلت من بين أصابعي أحيانا كثيرة .. أستعين بالراوي رغم شكي بجدوى ذلك، فتناوشني الصور .. تتقاطع أمام ناظري .. تتداخل مولدة صورا أخرى .
يزداد تأزمي .. فالراوي لا زال يناصبني العداء، وكلما حاولت الاستعانة به .. مطّ لسانه مستهزئا، وأحيانا يتلاشى من أمامي كالدخان، أما حين يوغل في استفزازي فيتشظى إلى آلاف الألسنة، كل لسان برواية، وكل رواية تدحض أختها والحقيقة سراب ألهث خلفه بلا معنى .. حينها يعاودني نفس السؤال .
هل حقا صدقني القول، أم أراد إسماعي ما أريد؟ .
سؤال ظلّ يحاصرني بلا كلل .. كأنما يهزأ بي، أو يدفعني للشك في الرواية كالآخرين، رغم ثقتي العالية بصدق ما قال، فلا زلت أرى ذلك في وميض عينيه .. في خلجات وجهه .. في نبرات صوته المتهدج، وهو يستذكر بعضا من ماض تناثر بين ثنايا السنين الغابرة .. بعضا من ذكرى جدي الذي تنكر له كثيرون .. وجلهم آثر الصمت .
لا زلت أرى العبرات تتراقص في مقلتيه كلما اقترب من بواطن الحكاية .. لكن الأمر يختلف تماما حين تستدرجه فصولها إلى اللحظة التي يروي فيها قصة جدي مع الوالي .. يعتدل في جلسته وتتبدل نبرته لتبدو أكثر ثقة وشبابا، كأنما عادت به السنون بضع عقود إلى الوراء .
ـ كنت يومها على وجه بلوغ .
يزفر بها مستهلا حديثه، ثم يصمت لبرهة من الوقت، كأنما يستعيد فيها أنفاسه المنهكة بعد هذا الجهد الكبير، أو يوطن النفس من خلالها لما هو آت، فلا تدع للعوارض شاردة ..
كنت أرعى الغنم وقتها " من هنا يحلو له أن يبدأ دوما، ثم يتابع مكملا .. لم يكن لنا من شيء سوى ذلك .. هذه البيارات لم تكن قد غرست بعد، رغم أن القرى من حولنا قد عرفت طريقها إليها قبلنا بسنين .. نصحو مع خيوط الفجر الأولى، وأحيانا كثيرة قبلها، يلازمني صوت أبي متقاطعا مع صوت المؤذن: يا حليمة، نبّهي الولد .. الشمس بتقلي البيض ..
والشمس تطل على استحياء من خلف التلال الرابضة شرقي البلدة .. ترسل خيوطها الذهبية، فتكسو الأجساد الذابلة دفئا سلبه الفقر وأبقى لها خرقا بالكاد تستر عوراتها .. تسابقنا الأغنام إلى الربوع المفروشة بالكلأ المندى بالطل .. تتقافز .. تتناطح معلنة عن فحولة مبكرة، ونحن نتابع المشهد من تحت سدرة هي الوحيدة في المكان .. نفترش الأرض تحتها، نفرد صررا أعدتها أمهاتنا على عجل، فيجزم من رآها بأنها جلبت من مكان واحد .. خبز وبصل، وفي بعض الأحيان حبات زيتون، أو قطعة جبن يكاد صاحبها أن ينفرد بها خلسة عن أعين الآخرين، ولكن هيهات أن ينجح في ذلك .. فما أن يكشف المستور حتى تمتد الأيدي، تتقاطع فوقها ثم ينتهي الأمر، فيخرج ابن فهيمة من جلبابه لفائف تبغ سرقها من كيس أبيه،أثناء انشغاله بالتهيؤ لصلاة الفجر .. يشعل إحداها، فينبعث الدخان مغريا بعضنا لطلب مجّة، لكن الخوف من الوشاية كان يمنعنا من ذلك،على عكس ابن فهيمة الذي لم يكن يشغله مثل هذا الأمر .. لا لشيء سوى أن الواشي سيدفع ثمنا باهظا إن هو فعل .
نكهة التبغ تغري أحد الرعاة من البدو المخيمين خلف التلال المقابلة على طلب مجة، يستهجن ابن فهيمة في بادئ الأمر الطلب، إذ لم يسبق له أن رآه يدخن من قبل .. والشيء الوحيد الذي يضعه بين شفتيه ناي لا يفارقه أبدا ..
ناوله لفافة .. أشعلها .. مج نفسا عميقا فجحظت عيناه وكاد أن يغشى عليه إثر دوامة سعال حادة، جعلته يلقي بها بعيدا غير عابئ بنظرات ابن فهيمة، الذي انقلبت سحنته فجأة واستشاط غضبا لمرأى اللفافة وهي تطير في الهواء.
ـ مجنون !!
صاح في وجهه بحدة، ثم انطلق خلفها .. التقطها من بين الأعشاب .. انتزع رأسها المشتعل، ودسها في جيبه.
ـ علامك يا علي ؟ .،قال الراعي مستهجنا تصرفه .
ـ لو كنت تعرف قيمتها ما رميتها في الهوا .
ـ قتلتني يا رجل .
لم يعقب بشيء، واكتفى بالاستلقاء على ظهره يمج من لفافته أنفاسا متعاقبة، يتابع حلقات دخانها المنبعثة من فمه بشرود واضح، إلى أن أيقظه حنين الناي بقربه، فأدرك حينها أن الفتيات بدأن بالورود على عين الماء القريبة .. اعتدل في جلسته ورفع عقيرته بالغناء ..
مع طير السما لبعث سلامي للي سهـرني وطير منـامي
دخلك يا ولف ظلك قدامي تيموت العدا أو يرحــلونا
يمضي النهار من دون أن ندري .. ومع أول خيط يكسو الأفق بحمرته تبدأ رحلة الإياب .. تسابقنا الأغنام بأجراسها وعجيجها، ويسوقنا الليل بردائه الموحش وريحه المشبعة برائحة الخبز المنبعثة من أفران القرية، فتوقظ فينا عدوا كان غافيا إلى حين .. تشرأب الحواس لدرجة أن ابن فهيمة قال ذات مرة مداعبا: " طابخين كرشة يا شباب .. "
ـ كرشة يا ابن فهيمة .. قول دقة .. زعتر . عقب ابن عمته بتهكم .
ـ دقة يا ابن أبو دقة .. ولك شم هه .
ثم سحب نفسا عميقا، تبين على أثره في اليوم التالي أنة كان صادق الحدس..
ـ قلت لك يا ابن أبو دقة كرشة .
و فرد صرته تتوسطها خمس قطع .. الواحدة منها بحجم حبة ليمون كبيرة .. تقاطعت الأيدي فوقها، فاختفت في لمح البصر .. عندها صاح ابن فهيمة مفجوعا: زادي يا أولاد الكلب..
ـ زادك معنا .
ـ خبز ودقة يا أولاد الـ ..
يوم نحس حط عليه، فلم تصدح عقيرته بالغناء، وعجزت شبابة الراعي البدوي عن تحريك بواعثه، أو إثارة شجونه،الأمر الذي جعله يسأل مستوضحا: علامك يا علي ؟
ـ أكلوا زادي .
ـ الزاد كثير يا رجل .
ـ زاد .. أي زاد ؟. هو بعد الكرشة بقي زاد ؟
ـ اخس ! يا بطيني ..
قالها الراعي بازدراء .. وانصرف تلاحقه نظرات على الحانقة، بينما نحن نراقب الموقف عن بعد، خشية أن يبدر عن أي منا ما يثير غضبته المستفزة أصلا بسببنا، فيقع مالا تحمد عقباه .. إلى أن بدأ الجوع يأخذ منه مأخذه، تسحب كقط يشتم طريقه صوب الفريسة، تحسس الصرر .. قلبها وحين اطمأن إلى غياب الرقيب، التهم ما بها من بقايا طعام، حينها صحنا بصوت واحد: اخس ! يا بطيني .
لم ندر من أين ولا كيف انهالت الشتائم من فمه.. ظل يطاردنا بطوبة وسبابة إلى أن أعياه التعب، فجلس تحت السدرة يلتقط أنفاسه، ثم وقف كالملدوغ موليا وجهه نحونا، وبنبرة واضحة، قال: من اليوم لا أنا منكم، ولا أنتم مني .
كان التهديد واضحا وصريحا ويعني في المقام الأول غياب الحماية عنا، فأبن فهيمة على سذاجته، قوي كثور، عنيد كبغل، يحتمل دعابتنا أحيانا، لكنه يبطش في أحيان أخرى، يده طرشة بزعم شيخ الكتاب، الذي حلف بالطلاق ثلاثا أن لا يعود للبلدة طالما بقي فيها هذا المخلوق، فظلت البلدة بلا شيخ ولا كتاب لبضع سنين، والحق يقال، فقد جنى علينا .. وجنينا على أنفسنا .. لم يحتمل شقاوتنا، ولم نحتمل لسع عصاه، كان يفد إلينا من خارج البلدة وينزل في ديوان جدك، رجل في الستين من عمره حاد الطباع .. عصبي المزاج، قلما تراه مبتسما، البعض أرجع ذلك إلى عقمه والبعض أرجعه إلى بخله .. لحوح في تحصيل أجرته لم يكن يقبل غير النقود بديلا على ندرتها في حينه، خمسة قروش عن كل رأس ومن لا يدفع يطرد، حتى وصل به الأمر إلى رفض شفاعة جدك لي عنده: صبرك على الولد يا شيخ محمود .. اليوم عسر وبكرا يسر .
ـ الولد فاشل يا شيخ إبراهيم ولا يصلح إلا لرعي الغنم،
أسرها جدك وقد علم أن لا سبيل أمامه سوى الدفع: اعتبر الأجرة عندي .
ـ إن كان ذلك فعلى بركة الله ..
غير أن أبي رفض الصفقة ولامني كثيرا على زج الشيخ إبراهيم في الموضوع من دون الرجوع إليه: كيف تحرج الشيخ قدام هذا الضلالي ..؟ من اليوم لا كتب ولا كتاب .
انتهى الأمر بالنسبة لي وكذلك كان حال ابن فهيمة وبعض الصبية من معسوري الحال مثلنا .. ولم يبق في الكتاب سوى قلة قليلة .. عزّ الأمر علينا رغم ما كان يحل بنا من بطش، لكن ابن فهيمة كان أكثرنا تأزما، ليس حبا في العلم والتعلم ولكن تحسرا على ما كان يقدمه للشيخ من رشاو يتقي بها شره: يا خسارة السمن والزبد اللي كنت أسرقه من وراء أمي .
ظل يرددها على مسامعنا بحرقة وألم،إلى أن قال ذات مرة: لازم أطفحه كل اللي أكله !
لم ندر يومها بما كان يفكر، لكنه فاجأنا ذات يوم، بأن طلب منا ملاقاته مع صلاة الفجر قرب المسجد، وبالفعل كان ما أراد .. وحين اطمأن إلى خلو الشارع من المارة، طلب مني أن أكمن خلف صريف الصبر المحاذي للشارع وأشار لابن عمته بفعل ذات الأمر في الصريف المقابل، ثم تناول عصا طويلة كان قد أحضرها معه ولف على رأسها خرقة مشبعة بالنفط، ثم أخرى بيضاء طويلة بحجم ثوب، ربما كانت لأمه ثبتها تحت الشعلة ورفعها إلى الأعلى داسا جسده فيها، ثم رفعها إلى الأعلى، فإذ به مارد يزيد طوله على عدة أمتار، عندها وصلنا سعال الشيخ محمود يسبق خطاه المتعثرة، فهمس ابن فهيمة بحذر: يله..جننوه .
وما أن أصبح الشيخ العاثر بيننا،حتى أشعل ابن فهيمة الخرقة، وراح يرفعها ويخفضها والشيخ يحوقل ويتعذبل بفزع واضح، بينما قطع الطوب تتطاير صوبه من كلا الصريفين، فصرخ صرخة مدوية، خر على إثرها مغشيا عليه .. انصرفنا ومن خلفنا صوت المبروك يزلزل الأرجاء: حيّ ..
يبدو أن صرخة الشيخ قد أيقظته، ففزع من المسجد يستطلع الأمر، وحين رأى الجثة ممدة على قارعة الطريق، صاح مرة أخرى: حيّ، فاستدعى بها من كان قد سبقه إلى المسجد، جاء المؤذن والشيخ إبراهيم .. تحلقوا حول الجثة وانحنى المبروك واضعا أذنه قرب أنف الرجل، ثم صاح ثالثة: حيّ .
تململ الشيخ، فأتبعها المبروك برابعة .. ارتعد الشيخ .. اصطكت أسنانه، ردد بفزع واضح: عفريت .. عفريت .
ـ حيّ ..
انتشر الخبر في البلدة .. تحدث الناس عن عفريت يظهر في المكان بين فترة وأخرى .. يصول ويجول ولا يرحم من يقابله، لا لشيء سوى الانتقام لروح صاحبته، التي قتلت ظلما في نفس المكان، ولولا تدخل المبروك الذي جاء في اللحظة المناسبة، لواجه الشيخ مصيره المحتوم .
لا زلت أذكر تلك الواقعة .. كنت ابن سبع يومها، ألعب مع الصبية قرب المسجد وإذ بشاب في العشرين من عمره وإلى جواره فتاة، ربما كانت في مثل سنه، كانت بادية الاضطراب،لكنا لم نعط الأمر اهتماما، اعتقدنا أنهما في انتظار أحد ما .. وما أن خرج الناس من المسجد،حتى استل الشاب خنجرا وطعن به الفتاة عدة طعنات، سقطت على أثرها مضرجة بالدماء .. التف الناس حولها مذهولين، فصاح الشاب بملء فيه: يا أهل البلد ! اليوم عرضي أبيض، غسلت عار رحمة وما ظل لحد علي كلام .
حوقل الشيوخ وصدحت زغاريد من دار أبي إسماعيل والد الفتاة، وإسماعيل بدوره ترك المكان .. ترك البلدة وانقطعت أخباره من يومها، البعض قال أنه أصيب بالمس وهام على وجهه في بلاد الله الواسعة، والبعض قال إنه التحق بجيش السلطان ولم يظهر له أثر بعدها .
غير أن الذي ظهر بعد حين، هو براءة الفتاة، وتبين لاحقا أن من كادت لها في ليل، لم تكن سوى زوجة أبيها، رمتها بالفاحشة ظلما ودفعت ثمن فعلها، إذ لم يمض على موت الفتاة سوى بضع ليال،حتى تحدث الناس عن صراخ يزلزل الأرجاء ليلا في دار أبي إسماعيل، فالمرأة لا يغمض لها جفن، ثم ضاقت بها الدار، فأصبحت تهرب في الليالي مولولة: توبة يا خلق الله !
لم تنفع معها تعاويذ المبروك، ولم ترحمها قراءات المشايخ عند رأسها، إلى أن صحا الناس ذات يوم فوجدوها ميتة في نفس المكان، من بعدها سرت الحكاية في البلدة وراح الناس يتحدثون عن روح رحمة التي تتمثل ماردا في ذلك المكان، لدرجة أن الشيخ محمود الذي نجا بأعجوبة، أصبح محل متابعة من قبلهم، وحين استغل ابن فهيمة هذا الأمر وصارح الشيخ بفعلته استشاط غضبا، وراح يتوعده بالويل والثبور، لكن الأمر جاء بعكس ما أراد، فما أن عاتب الشيخ والده وبعض رجالات القرية، حتى لمعت عيونهم بنظرات ملؤها الشك .. الأمر الذي فهمه الشيخ ولم يحتمله، فحلف طلاقا بالثلاثة ألا يطأ القرية مادام فيها ابن فهيمة .
ومن يومها تبدل حالنا، أصبحنا بلا شيخ ولا كتاب .
يتبع
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1086 الاثنين 22/06/2009)