نصوص أدبية

صندوق البريد رقم (66) / عبد الفتاح المطلبي

عندما سمعت طرقا شديدا ظنت أن عواصف آذار وراء ذلك الصوت،اقتحم ستة من الرجال الغبر منزلها قالوا لها نريد ابنك حسن شريف كامل، ثم دون أن تنطق كلمة واحدة أخذوا إبنها الوحيد وابتلعهم الليل كما تقيأهم، استمرت في حالة من الصدمة لم تفق منها إلا عندما تعثرت بدكة الباب الذي يفضي إلى داخل الدار، التهمتها الحيرة ونسيت القواعد والأصول التي روعيت دائما في بيت المرحوم الحاج شريف كامل عندما وقع نظرها على التلفون الأسود الذي رسم عليه التاج الملكي ولم تتردد في الإتصال بقريبتها أم زكي ضابط الشرطة، ولو كان الوقت غير ملائم،صباح اليوم التالي وفي الساعة الحادية عشرةأفرج عن إبنهابعد جهد بذله  الرائد زكي، قال له يومها، إخف نفسك، لن أضمن الإفراج عنك في المرة القادمة التي ربما تكون غدا أو بعد غد، جلست الست فهيمة وابنتها وابنها في غرفة الجلوس وكان من العسير عليها أن تقرر الموافقة على الحل الوحيد الذي ينقذ إبنها من المصير المعروف الذي أعد للآلاف من الشباب الذين كتب على دفاتر نفوسهم بالقلم الأحمر(حسب الفقرة 4-ب) لكنها وافقت على مضض بعد إن أخبرهم الملازم زكي أن لا حل غير ذلك وأنه مستعد أن يوصله بأمان بسيارته إلى الحدود وهناك سيجد من يدبر الأمر معه،لذلك لم تنم تلك الليلة بعدإذ ودعته، قال لها تلك الليلة، انتظري شهر أو شهرين وسأرسل لك خطابا على صندوق بريدنا .

اضطرب البحر وكان تسع وستون هارب وهاربة من جحيم أوطانهم إلى فراديس مفترضة عبر المحيط الهادي،كانوا يقبعون في جوف عبارة ماليزية مهترئة لا تصلح لعبورالبحر الأحمر ولكنهم فضلوا المجازفة على تهديد السلطات الماليزية لهم بتسليمهم إلى سفارات بلدانهم إن لم يدفعوا ما ترتأي السلطات أن يدفعوه،كان حسن يبتلعه البحر وماكان في مخيلته المستسلمة لمصيرها سوى امنيته أن يصل إلى البر الأسترالي ليقذف بخطابه مخطوطا عليه ص.ب 66الى أي صندوق بريد هناك.

حل الخريف ولا زالت شجرة الرمان تنزع أوراقها ورقة بعد أخرى في حديقة بيت الست فهيمه، وقفت إزاء الشجرة تذكرت تلك الليلة التي غادر فيها حسن تحت خيمة الليل المعتمه، كانت شجرة الرمان تكتسي بلون أخضر زاه وها هي الآن عارية عن أوراقها حركت قدمها باتجاه الباب الخارجي، كانت الساعة العاشرة صباحا موعدها في كل مرة للذهاب إلى بناية البريد لتلقي بخطابها في فوهته قبل أن تدخل إلىصالة البريد فقد كان الخطاب لا يحمل عنوانا، مكتوب عليه إلى ولدي حسن شريف كامل، كان صندوق استلام الخطابات المرسلة خارج بناية البريد على كتف الرصيف وقبل أن تتجه إلى داخل الصالة تتفقد مفتاح الصندوق ثم تلج الى الصالة، تفتح الصندوق، تلقي نظرة طويلة إلى داخله ثم تغلقه بهدوء وتغادر،

الخريف يرحل تحت وطأة شتاء بارد وأمطار غزيرة لكن ذلك لم يثن الست فهيمة عن رحلتها المقدسة يوم الخميس، تقف لحظات صمت قرب صندوق استلام البريد المنتصب كشاهدة قبر على كتف الرصيف، تلقي بخطابها المعتاد في فوهته ثم تدعوالله في سرها أن يحفظ ابنها وتتجه كما في كل مرة الىصندوق بريدها ثم تغلقه بهدوء وتستدير لتمضي إلى بيتها...

اكتست شجرة الرمان في حديقة الست فهيمه بلون أخضر زاه، كانت الست فهيمه طريحة فراش المرض منذ اسبوع , همست في أذن ابنتها : والبريد؟ من يذهب إلى هناك؟ أظن إنني لا أقوى على ذلك، قالت ابنتها : لا عليك يا أمي سأذهب أنا هذه المرة وسألقي بخطابك إلى الصندوق وأفتح صندوق بريدنا كما تفعلين أنت في كل مرة..

قالت الست فهيمه لا لا .... لا حاجة لذهابك أنت أيضا وأردفت في سرها لم يبق لي غيرك ياابنتي، وبصوت واهن قالت ستتحسن حالتي وأذهب أنا ‘ وعلى كل حال سوف لن يغادر صندوق البريد هو الآخر.

في تلك الليلة كانت الست فهيمة ترى شبح ابنها حسن وهو يحثها على القدوم إليه وكلما يقترب منها شبح حسن تتوغل في غيبوبتها حتى احتضنته وأطلقت تنهيدة طويلة تصاحبها أنة مكتومة سمعتها ابنتها التي تنام قريبا منها، وفي الصباح لم تعد رحلة الخميس من هموم الست فهيمة، لم تزهر شجرة الرمان وتقصفت أوراق الشجيرات واستحال نبات الثيل إلى لون أصفر باهت، .

                      

 

 

 

في نصوص اليوم