نصوص أدبية

شمـــــس في الغُبــــــار / فرج ياسين

 أمضي إلى الغرفات، وأبحث عن تلك الصورة القديمة . أمسح وجهها الملبد بطبقات الغبار المطبوعة فوق بعضها، منذ أعوام لم تمسها يدٌ ولم ترمقها عين إذ كنا نقف أنا وبيداء وعالية، وفي أقصى الصورة . بعيداً في العمق، أقبل مثل سحابة دخان . طالعاً من ظلمة الدهليز المفضي  إلى الأقسام الدراسية بشعره الطويل، وابتسامته المفتعلة، وربطة العنق المخرّمة القصيرة التي تعيد إلى الذهن مفارقات أزياء أوائل السبعينات . كيف لك أن تنسى؟ جاعلاً خلف ظهره تماماً قاعة الإدريسي، وراسماً خطوة صغيرة بمجرد ظهور بساط أوراق الخريف الساقطة حديثاً تحت قدميه وليس بينهما ! هل كان يحمل كتاباً؟ ببنطال أسود وسترة مخططة . ابتسامته وحدها تملأ الفضاءات كلها بحيث أن أجرامنا الثلاثة ما كانت ستلوح إلا لأنها خلفية تافهة، مقحمة إقحاماً في المقدمة، أطرافنا الطوال الشوهاء يبلها الضوء المتقطر من شآبيب ظلال الأغصان فوقنا . وضحكة بيداء الدائرية الشبيهة بحدوة مغلقة، فضلاً عن زمن التقاط الصورة . الساعة الثالثة والنصف ؛ يا إلهي ! ساعة كان يخيل لي أن التعب ليس مجرد عارض يومي . بل عاهة ولادية . ثم وقف بيننا، فالتفتت عالية إلى جهة الحديقة . كان عدد من الزملاء ينتظرون تحت الشمس ويحملون أكواب الشاي . قالت : هل نشرب؟ ولم أعترض . لكنه قال: لا . ثم انقضى كل شيء . ولم يتبق لي إلا ارتشاف الشاي من أفواه الزملاء البعيدين .

بعد عام أو عامين هل تراه غادر قشرته الصخرية والتف حول رقبة عالية ثم ذهب بها إلى سريره؟

التقى بها مصادفة، عند باب مؤسسة السياحة أو جريدة النور أو على رصيف نظيف في شارع السعدون . رآها تمضي مسرعة تحف بها هالات عطرها، عندما نفخ وراء شعرها (يقولون من هذا الغريب بأرضنا؟..) فالتفتت ورأته . كيف لها أن تخفي إغراء ظهوره مرة أخرى؟ ثم أخذها إلى مكتبه في مؤسسة السياحة أو جريدة النور . أو اقتادها لمشاهدة أحد معارض الفن التشكيلي، وهناك اتفقا على كل شيء . وبعد شهر واحد تزوجا ! إنني أقطع الآن بأن كل وشائجها مع بيداء قد تقوضت منذ أن رفعت سماعة الهاتف لتقول لها بخيلاء فتاة مرغوبة، بأنها التقته وآل بينهما الأمر إلى اتفاق سريع أفضى بهما إلى القفص . وأنت تعرف بيداء، لو كان – هو – قطعة حلوى رماها طفل في قمامة، لسارعت إلى التقاطها . ولما اضطرت إلى مسحها بكمها قبل أن تضعها في فمها، وتمعن في سحقها بين أسنانها مستغرقة بكل زخّة لعاب تمر من لهاتها إلى جوفها المحرور .

أتكون هي التي حظيت به وليس عالية؟ ولم لا . التقيا مصادفة أيضاً . ذهب إلى معرض لبيع السيارات وجاءت هي برفقة زميلتها في الدائرة . قريبة صاحب المعرض أو خطيبته . من أجل استبدال سيارتها القديمة، ثم رأته . بقامته السامقة وشعره المفروق، وكل تلك القصائد الحارة التي تنثها مجرد نظرته . أبصرت به فتوقفت ذاهلة . سقطت الحقيبة من يدها ثم لكزت صديقتها وهمست في أذنها . هل ترين ذلك الجبل؟ أنني أعرفه . ثم تقترب منه وتمس قذاله بأصبعها الناعم الرقيق (من أين يجيء الحزن إلي وأنت معي) فيضجان بالضحك، ضحكهما المجلجل القديم . بعد ذلك يمسك بكفيها، يهصرهما ثم يفلتهما ويبتعد قليلاً ليرنو إليها بجماع وجهه . تتفصد جبهته وترقص أعطافه ثم يضربان موعداً ويلتقيان، يمكثان هكذا أياماً وشهوراً ثم يقول لنفسه أخيراً لقد أصبحت رجلاً في الثلاثين .

- ألا نبدأ خطوتنا الخرقاء الأخيرة نحو تدمير العلاقة؟ فتقول له نعم، ثم يأخذها إلى السرير .

******************

استلقى منفرداً مع المدفأة والصمت والحمى، أشبك كفي حول رأسي، مريحاً ظهري على وسادتين، وضعتهما الواحدة فوق الأخرى . جاداً في إخفاء كلمات الطبيب بالتدخين والثرثرة مع النفس . مع ذلك الجزء المأهول بالظلال البعيدة، التي أفرخت بثوراً وشروخاً وتجعدات، تلاشت وراء حمّاها صورة الفتى الذي كنته . تراودني هيئته لحظة بعد أخرى . في مثل تناوب المويجات على شاطئ من الصلصال. حزوز رفيعة تتلامح فيها مسطحات صافية . مكتوب فوقها : لقد كنت هنا – ثم تعتم اللوحة وتغيم . تأخذني الرجفة . فأسحب الغطاء فوق عيني . إذ يتاح لي أن أراه مرة بعد مرة، وهو يهبط المدرج المفضي إلى الأقسام الدراسية وقدرّت أن اللقطة سوف تطاله أيضاً . لابد أن يلوح في الخلفية المشمسة وبذلك تكون الصورة له وليست لي . هل كان يحمل كتاب اللا منتمي . شناشيل ابنة الجلبي أم مجلة الكلمة؟ ولكنه لم يكتب شعراً بعد ذلك أبداً . منذ عام 1975 لم أقرأ له شعراً منشوراً . أألقى بكتاب الشعر والتجربة جانباً وعاف كتب المتنبي والسياب، ولا نكنستن هيوز وبوشكين؟ هل سافر من أجل إكمال دراسته؟ . قرر أن يصير أكاديمياً . أما كان يليق به ذلك؟ فجأة فكر بتطوير بحثه الصغير عن التبكيت في مطولات الشعراء المداحين، أراد أن يخلص إلى النتيجة ذاتها . تلك التي أعلنها أمام زملائه ولكن – هذه المرة – موثقة ومحصنّة . وليست مجرد إحدى شطحات هاو غير مسؤول . ثم لكي يجعل منها الإكسير الذي سوف يرفعه إلى المنصات الإينوسيّة البراقة في الصفوف الجامعية ! هارفارد أم السوربون، موسكو أم جامعة محمد الخامس، بطلعته الفاتنة والربيع الثر الذي يضوع من عينيه . كم زميلة شقراء أو سمراء صعقها فوح كبريائه الساخن، دون أن تنال منه قلامةً أو مضغةً أو رشفةً مما يودعه في دماء ضحاياه . لاشك أنه تسلّى عن ذكرى بيداء وعالية . هجر لعبه الاستفزازية القديمة . لا كر ولا فر في العالم الذي لا يمنح بمّنة ولا يمنع بتحريم . هناك ستكون الأرض والسماء والهواء والضوء لائقة به !

****************

لم أزل وحيداً مع المدفأة والصمت والحمى، أشبك كفي حول رأسي، وأريح ظهري على وسادتين، وضعتهما الواحدة فوق الأخرى . يضطجع النور الشاحب المتحلّب من ثقوب الستائر البيض ألواحاً مخرمة فوق الجدران . وغامت أشياء الحجرة حتى لم تعد ترى . ثم عنّ لي أن أغادر الفراش فحجلت عبر الممر المفروش إلى الحمام . كنت مقروراً مرتعد الأوصال . في رأسي يدوّم فراغ أسود ثقيل . فباغتني الوجه في المرآة المثبتة على الجدار فوق المغسلة، أول ما رأيت قذالاً كثا أشيب مبعثراً، أوشك على الخروج من الإطار . فتراجعت خطوة إلى الخلف والتفت لكي أرى . فسمعت همساً أجش مدوياً ذا صدى كالعويل : من أنت؟ قلت لنفسي : أأنت الذي نطق هذه الكلمة، يا للعار ! لقد شهدت هدم مدينة برمتها حجارة حجارة ولم أشعر بفظاعة الهدم كما شعرت به تلك اللحظة ( ما الذي قد صنعت بنفسك؟ ) . ثم أغمضت عيني وزحفت إلى الفراش مجدداً . وأخفيت رأسي بمصباحيه المطفأين . مكثت زمناً قبل أن يبدأ الدفء بسط أذرعه فوق لوح الفراغ الأسود الثقيل . وفي أحد الأروقة التي تسلل إليها الضوء . رأيت الصورة من جديد . إنها ما تزال في قماطها، منذ أعوام لم تمسسها يد ولم ترمقها عين . وما كان سيسلمني ذلك التذكر العميق إلى غير ما ارتسم في بؤبؤي عيني حال مشاهدتي تلك الصورة الفاجعة في المرآة . من ذا يغامر بالاعتراف أمام نفسه بأنه يرتضي فراق ما يجب فراقه . ألسنا نصور أنفسنا والناس والأشياء لأننا نعترف بانقضائها؟

ثم أزحت الأغطية عن رأسي، ففاجأت نواظري ألواح الضوء المخرّم على الجدار . بحثت عن كأس الماء الموضوع فوق الأرض العارية بإزاء الفراش، رشفت قليلاً وتمضمضت ولم أشأ أن أبصق المجاجة المجرثمة فابتلعتها مصغياً إلى صوت الماء وهو يضل طريقه أمام السد الذي أشهرته لوزتاي الملتهبتان . ثم بدأ رأسي بالدوران وأطرافي بالتجمد، غير أن بصري ظل مصوبا إلى الجدار فلاح وجهه غائماً مثقّباً نائياً، فأسبلت جفني على مفرقعات وأزيز ودوي وغبار لطا بمسالك التنفس، وعلى دماء وفوضى، السلام عليك يا عالية ! هل شممت رائحة موته وأنت تتسلين بسقي أصص القرنفل الجديدة في حديقة منزلك الكبير؟

وكنت سأمضي مع الحمى متخيلاً مشهداً أكثر فظاعة لموته، لولا سماعي لجرس الباب فرفست الأغطية وأزحت الوسائد ثم شددت قامتي وخطوت إلى الفناء . وقبل أن أمس الرتاج سمعت زوجتي تتحدث إلى الطفلتين . ففتحت الباب ورأيت شفاه بيداء وعالية الصغيرتين : كيف أصبحت يا بابا؟ وأرادت زوجتي أن تأخذ بيدي . قالت أنت متعب جداً – هل رأيت وجهك في المرآة ثم فتحت حقيبتها واستلت صورة مطويّة مقصفة الحواف – قالت : يبدو أن الصغيرتين قد احتفظتا بها منذ ليلة أمس، لماذا أبقيت الصورة بين أيديهما؟ أخشى أن تكونا قد ثرثرتا بكل ما هذيت به في الليلة البارحة .

ولم أفهم شيئاً لكنني مددت يدي والتقطتُ الصورة من بين أصابعها، أعادت قائلة : إن جسدك كله يرتجف عليك الذهاب إلى الفراش، سأحضر بعد قليل . ثم ولجت البيت وسمعت نقرات حذائها على السلم، فأجلت النظر فيما يحيط بي . رأيت شمساً حبيسة مطبوعة في سحابة غبار معلقة فوق بيتنا، رغيفاً صقيلاً مهاناً بصفرته اللزجة . قلت لنفسي : ليس ثمة من يشتهي أن يمد يده ليقطف (دب القراد إليك فاسترخى ونام) . فدسسُت الصورة في جيبي ثم خطوت إلى الداخل . كان الفراش دافئاً والحجرة مضاءة بالألواح المطبوعة فوق الجدران عندماً فتحت الصورة ورأيت :

كنت أقف وحيداً في الساحة الخالية بشعري الطويل وابتسامتي المفتعلة، وربطة العنق المخرمة القصيرة، التي تعيد إلى الذهن مفارقات أزياء أوائل السبعينيات ، ارتدي بنطالاً وسترة مخططة وإلى الخلف مني تبدو المدرجات المفضية إلى الأقسام الدراسية، ثم المجاز المعتم أمام باب قاعة الإدريسي وكأن المصوّر تعمد أن يبرز ليس صورتي بل الفضاءات الخالية المحيطة بها .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مجموعة (واجهات براقة)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1525 الخميس 23/09/2010)

 

 

في نصوص اليوم