نصوص أدبية

صديقي الأبلق / عبد الفتاح المطلبي

 لكنني عندما كنت أحرن وأعاند مثل أيّ حمار في أسقاعنا يهددونني بالعصا تارة والتقريع المرّ دون محاولة منهم لفهم دوافعي وأسباب حرني وهؤلاء الذين لا يريدون أن يفهموا أو يتفهموا أسبابي، هم أهلي، إنهم لا يكرهونني، يفعلون ذلك عندما يكرهون أنفسهم، صرح بذلك مرة أبي عندما هزّ عصاه بوجهي ثم أذاقني لسعتها، لا لشيء إلا لأنني رفضت الذهاب ليلا إلى دكان شولي لشراء تبغه المفضل وكانت على ناصية الجادة كلبة بيت قاسم السابط التي لا تنام، لعن نفسه وشتم آباءه ندما، هكذا هي الأمور..، مرةً وكان الوقت شتاءاً عندما برك حمارعبود في الطين وكنت واقفا على ناصية الشارع الطيني، انهال عليه يضربه بعصاه اليابسة حتى أفقده القدرة على رفع رقبته الطويلة فتمرغ في الطين، عند ذاك بكيت واجه عبود حماره الممدد في الوحل بعد إن عجزت عصاه عن تحريكه يخاطبه بلهجة الشامت المقتدر:< أتدرك شيئا من عبر الماضي أيها الوغد، (عندما ربطوهم بالحبال وسحلوهم على إسفلت الشارع الحار) وانت تتمرد والله سأسحلك أنت أيضا، كنت صغير السن وبكيت عندما تخيلت إنني ذلك الحمار، شاهد عبود دموعي التي تقطر على خدي الصغير وأنا أنظر لحماره الممدد في الوحل فراح يبكي هو أيضا ثم ألقى بنفسه على حماره وراح يسترضيه حتى صار عبود لا يُميز عن حماره من الطين، منذ تلك اللحظة تعاطفت مع الحمير وكنت معجبا بصبرها على البلاء، لذلك فأنا لم أخطط لذهابي إلى بستان ( حسن دمعه) وكان قد مر على اضطهاد حمار عبود عشرون سنة عندما اصطحبني عباس للذهاب إلى هناك لجني التمر، يعلم عباس إنني (صاعود)* نخل متميز لقد اختبرني عندما حطت وحدتنا العسكرية رحالها في بستان من بساتين (الدير) تمهيدا لأعادة تنظيمها، آه يا لتلك الأيام لقد عثنا بالبستان وعبثنا فيه أيما عبث، كنا نتبارى أي منا يصعد النخل أسرع ؟ أي منا يستطيع قطع العراجين وكسر السعف الأخضر، الغريب في الأمر إن أصحاب البساتين كانوا يبتسمون لنا ونحن نفعل ذلك، كاتوا يكشرون بوجه أي غريب ينتهك نخلاتهم البعيده عنا ولكنهم يبتسمون للجنود وهم يخربون بساتينهم ولما انتهى تنظيم وحدتنا العسكرية كان البستان بلقعا ينتشر فيه الخراب ويغزوه اليبس،الآن عندما انتهت الحرب لم نجد عملا ، كان كسادا فاحشا، لذلك رأى عباس اللبق إنها فرصة سانحة للحصول على بعض النقود، أمي التي تشبه العصا اليابسة المقطوعة من شجرة عجفاء وأختي التي أدركتها العنوسة ينتظران مني ما يسد الرمق، لذلك كان يوما متميزا رحت فيه أثير إعجاب الشيخ حسن دمعه الذي لم يتردد في إبداء إعجابه بي، قال: أنت تذكرني بشبابي (عفيه)*و أردفها بعفية أخرى،ما أثار انتباهي جودة بستان الشيخ حسن دمعه، وخلوه من آثار عبث الجنود أيعقل أن الجنود لم يمروا من هنا؟، جلسنا في الليل الصيفي نحتسي الشاي الحار ونتبادل الحديث كانت أحاديث شتى يحدثنا بها عباس اللبق والشيخ حسن دمعه حتى انتهى بنا الحديث إلى الحمير عندها تحدثت، أخبرتهم عن مأساة حمار عبود وعن حبي للحمير وانحيازي الفطري لها، ثم اردفت، آه ..آه أمنيتي أن أمتلك حمارا أبلقا، فرك الشيخ لحيته وقال (إجاك)* الحمار الأبلق، انتهىقطاف التمر وأخذت حماري الجائزة من الشيخ وعدت راكبا عليه إلى بيتنا المهلهل ذلك البيت الذي ورثته عن أبي رحمه الله إذ كان ذا شأن في الحكومة فقد كان حارسا ليليا في المدرسة ولولا الحرب لكنت حارسا أيضا، في الليل قالت أمي كيف ستتدبر علفه وعلفك انت تحصل علية بشق النفس، قلت: هذا الحمار سيأكل وسيطعمنا يا أمي وكان خزينا من الأفكار الناضجه حول مشروع أمنيتي التي تحققت توا يملأ رأسي، في الصباح تدبرت عربة لحماري ضمن شروط واتفاقات مع مالكها، ها أنا أصبح شخصا مهما صاحب عربه وحمار أبلق، أتظن إن ذلك هين، الحرب أكلتنا والحصار سحقنا، ليس لأي من الشباب أن يمتلك عربة وحمارا أبلق، حتى الذين امتلكوا عربة وحمارا لم تكن حميرهم ُبلقاَ، الحمار الأبلق مرغوب في (علوة الخضار)، ما أن يروه حتى يستأجرونني، الحقيقة كل الفضل لحماري، هو أجلب للرزق مني، اخترت مكانا لأريح فيه حماري وساقيّ مقابل أكبر مكتب لتسويق الفاكهة والخضار مكتب (العزيزانت) لم يكن أحد لينتبه لغرضي المشبوه وراء اختياري لهذا المكان، كان ذلك لسببين فهذا المكتب يتعامل مع الحكومه يزود ثكنة الجيش بأرزاق الجنود والسبب الثاني ، كان مكبا للفاكهة والخضار التالفة، يرتع فيها حماري الذي سمن قليلا مقابل هزالي مما جعلني أفكر جديا بمشاركته بغنائمه رحت أبحث وسكيني بيدي عن أنصاف تفاحات وأنصاف باذنجان وبعض البطاطا نصف الفاسدة وأشياء أخرى، صرت أرجع لأمي بهذه الغنيمة، عدلت أمي قدورها وفكرنا أن نشتري طباخا غازيا بدل (الجولة)* وكان رفاها لم يعهده بيت أمي من قبل .

كنت ألحظ رجليّْ المكتب يتكلمان ويشيران إليَّ، لكنني قررت أن لا أتأثر بما يفعلان ربما يتآمران على طردي من المكان، لم أنم تلك الليلة والظنون تأخذني بعيدا، دعوات أمي في صلاتها أن يديم هذا الرزق لا تنقطع وفي الصباح أرسل  صاحب المكتب أحد رجاله يطلبني، أرسلني في مشوار عمل، أجزل لي العطاء عاملني برقة متناهية وفي نهاية اليوم أعطاني كيسا مملوءا بخضار طازجة

 

(عندما غادر العلوة مع حماره الأبلق كان صاحب المكتب يحذر رجاله ويحثهم على الإنتباه لأخطار متوقعة قد يتسبب بها صاحب الحمارالأبلق قال: أتذكرون يوم أودى الحمال الأعرج بصاحب مكتب الزنبقة ولم تنفعه صلته بال...، لقد كان الملعون ضابطا في الأمن، لذلك فالحذر واجب ولو أن الرجل لم، قاطعه أحدهم، لا خوف إلا من هؤلاء، لا تعلم ما يخفون ، سأسأل عنه مفوض كاظم غدا ، فغدا موعده لإستلام إكراميته، أردف صاحب المكتب أرجوكم إعتنوا به لحين انجلاء الغبرة

في الصباح لم يأت المفوض كاظم وعند التحري عن سبب تأخره قيل لهم نقل إلى مدينة أخرى،،.).....................

تحسنت حالي ولم أعد أشارك حماري الأبلق غنائمه، صرت أجلس مع عمال المكتب وأتحدث أحيانا مع صاحب المكتب، لكنني استجليت الأمر واكتشفته وراق لي أن امثل هذا الدور وليحدث ما يحدث، بعد ستتة أشهر بنيت حجرة لي من الطابوق ودهنت نافذتها بلون نوافذ المدرسة التي كان أبي حارسا بها، لم تعد أمي كالعصا بل سمنت قليلا، تزوجت أختي من قريب لنا قد توفيت امرأته منذ مدة، لكنني لا زلت ودودا مع حماري الأبلق وهو كذلك بعد إن تنازلت له عن حصتي من الغنيمة وأنا أعلم جيدا أنه لم يمنحني وده دون مقابل، لا شيء أبدا لا شيء دون مقابل حتى لو كان من حمار.

 

..............

*صاعود- متسلق

*سحل- جرّه سحبا على الأرض

*عفية- كلمة تشجيع واطراء

*(اجاك) بمعنى اعطيتك

*جولة –موقد نفطي صغير

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1528 الاثنين 27/09/2010)

 

 

في نصوص اليوم