نصوص أدبية

المرثية الخامسة / بهجت عباس

هم أكثرُ تشرّداً حتّى منّـا، المُساقون اضطراراً

منذ بَدء حياتهم، لأجل مَنْ، ولحبِّ مَنْ

يُضغَطُ عليهم بإرادة غير قانعـةٍ أبداً ؟ بلْ

تضغط عليهم، تَـثـنـيهم، تَـلويهم وتُـؤرجحهم.

تَـقـذفُهم وتُمسِكُـهم ثانيةً ؛ كما لو أنّهم يسقطون خلال

هواء مُـدهَنٍ مصقول على السّجادة الرقيقة المُتَهرَّئـة

 من قفزاتهم اللانهائيّة، هذه السّجادة الضّائعة في المجال،

مُلقاة هنا مثل ضمادة، كما لو أنَّ ضواحِيَ السّماء

رَضَّـتِ الأرضَ.

ونادراً أن يظهر هناك،

منتصباً، الحرفُ الأول الكبير  Dلـ Dastehns...**

ولكنْ حتّى الرجالُ الأقوياء تقَذفـهم القبضة ُالعائـدة ُ

إلى الأعلى مرّةً أخرى للمرح، مثـلَ أغسطس الجبّار*** على

المائدة مُحطِّـماً الإناءَ القصديرَ.

 

آه وحول هذا

المركز، وردةُ المُشاهَـدة ِ:

تـُزهِـرُ وتتساقط أوراقها. وحول هذا المِدَك،

المِدقّة، التي لـُقـِّحَتْ منْ غبار طَلعها المـُزهِـر، تخصَّبتْ ثانيةً

إلى فواكه كاذبة للضَّـجَـر دون علمها أبداً-، لامـعـةً 

بغشاء رقيقٍ مُهلهل ضجَراً ذا بَسمةٍ خفيفةٍ خادعة.

 

هنا: الذّابـلُ، رافعُ الأثـقـال المُتَغـضِّن،

الكهلُ الذي لا يزال يُطـبِّـل الآن،  

تقلّص في جلده القويّ، كما لو احتوى

جلده رَجُـلَـيْنِ منْ قـبلُ، واحد اضطجع في

فناء الكنيسة، وهذا تجاوز عمرَ الآخَر، أصمّ ُ

وأحياناً مُبلبَـلُ الذِّهن  يعيش في الجلد الذي ترمَّـلَ .

ولكنَّ الفتى، الرجلَ، كما لو كان ابنَ رقبةٍ وراهبة :

متين ٌومعبأ بقوة من عضلاتٍ وبراءة .

 

أه أنـتم،

الذين استَـلمـكم العَذابُ كَـلُـعبـةٍ يوماً ما، عندما كان

صغيراً، في واحدة من فترات نقاهـته الطويـلة .

 

أنتَ الذي يسقط كلَّ يـومٍ مائةَ مرّةٍ

بالضّـربةِ التي لا تعرفها

إلاّ أثمار فجّـة من الشجرة النّـاشئـةِ مِنْ حركة

مُشاعةٍ (أسرعَ من ماء، في دقائقَ معدوداتٍ،

لديها الربيع والصيف والخريف) -

تسقط وتصطدم على القبر :

أحياناً، خلال فترة استراحة قصيرة، تتصاعد نظرة حبٍّ

على وجهكَ إلى أمِّـك التي ندرَ عطفُهـا ؛ ولكنّها، النظرةَ

الخجولَ المُحاولِـةَ بِجُهـدٍ، تُضيعُ نفسَها في جسدكَ،

الذي يستهلـكها لذاته... ومرّةَ أخرى

يصفق الرّجل بيديْه للـقَـفْـزِ، وتماماً

قبلَ أنْ يصلَ ألـمٌ قرب قلبك الخافق دوماً، يتسارع

احتراقُ أخمَصيْ قدميْـكَ قبل خَـفـْقـَتـِه، قانصـاً

دمـعَـتـيْـنِ طريَّـتَـيْـنِ إلى عينـيْـكَ .                                                                         

ومع هذا، لا تزال ابتسامتُـك عمياءَ .

 

يا مَـلَـكُ ! أه خذها، اقطفها، العُشـبة َالشّافـية َ

المُزهِـرة َالصّغيرة .

اصنعْ مَـزهرية ًلتحفظها ! ضعْها بين الأفراح التي

لا تزال غيرَ مكشوفةٍ لنا . مجِّدها في جـرَّةٍ جميلة

بنقشٍ زهريٍّ منسابٍ :

                           “ بسمة المهرِّج” 

ثمَّ أنتِ، يا عزيزتي،

أنتِ التي قَـفـزتْ عاليـاً من المباهجِ الأكثـرِ خلابةً بصمت،

لربّما تكون أهدابُـك سعيدةً لكِ -،

أو فوق نهـديْـكِ الفتـيِّـيْنِ الصّلبـيْن يُحِسّ السِّـلـكُ المعدنيُّ

الأخضرُ أنّه مدلّل تماماً وليس بحاجة إلى أيَّ شيء .

 

أنتِ،

مثلُ فاكهة السّكينة المُـتَـكـدِّسة الموضوعة بطريقة مُختلفة

دوماً على ميزان التعادل المُتَأرجح، تماماً تحت الكَـتـفـين،

للجمهـور .

أين، أه أين ذاك المكان- الذي أحمله في قلبي-،

حيث ما زالوا عاجـزيـن منذ مدّة طويلة، وسقطوا بعيداً أحدُهم

عن الآخر، كحيوانات غيرِ متناظرة في العِشْرة - ؛

حيث الأوزانُ لا تزال ثقيـلةً ؛

حيث لا تزال من عِصِيِّـهم الدَّوّارة دون جدوى

تتأرجح الأطباق....

 

وفَجأةَ في هذا اللامكان المُتعِب، فَجأة في

في هذا الموقع الذي لا يوصَف، حيث النقيّ القليل

جدّاً يتحوَّل بغموض-، يقفز إلى ذلك

الفارغ الكثير جدّاً .

حيث الحساب عديدُ الأرقـام يصير صفراً .

 

السّاحاتُ، أه السّاحاتُ في باريس ؛ مشهد لانهائي،

حيثُ مُصَمِّمة القبّعات مدام لامورت****، تلفّ وتضفِـر

طرقَ الأرضِ المُضطربة، شرائطَ لانهائيّةً، مبتدعةً

منها أقواساً جديدة، كَشكَشاً، أزهاراً، علاماتٍ،

أثماراً صناعيةً -، كلّها مصبوغة زيْـفـاً،- لقبّعات

المصير الشِّتويّة الرَّخيصة .

 

يا مَـلَـكُ : لو كان ثمَّةَ مكانٌ لا نعرف عنه شيئاً، وهناك

على سجّادة تفوق الوصفَ، سيُظهِـرُ المُحبّـونَ الذين

لم يستطيعوا إنجازَه هنا، الأشكالَ الجريئةَ للقوّة الدّافـعة

لقلوبهم، أبراجَ سرورهم، سلالمَهم المستندة بعضُها

على بعض مدّة طويلة حيث لم توجَدْ أرضٌ قطّ مُزَلزِلةٌ،-

ولو استطاعوا عملَ كلِّ هذا، أمامَ حلقاتِ المشاهدين حولَهمْ،

الموتى الصّامتين الذين لا حصرَ لهم :

هل سيقذف هؤلاء إذاً المُدَّخـرَ أبداً، المَخفِيَّ دوماً،

الذي لا نعرفه، آخِـرَ نقودِ السّعادةِ الصّالحةِ إلى الأبد إلى

الزّوجين المبتسميْن حقّاً على السّجّادة الهادئـة ؟

 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

 

* Frau Hertha K?nig  كانت مالكة للوحة بيكاسو La Famille des Saltimbanque

    التي كان ريلكه معجباً بها. طلب منها أن تسمح له بالسّكن في بيتها أثناء

غيابها عن البيت في صيف 1915، فسمحت له. أقام في بيتها مدة أربعة أشهر

      تحت لوحة ( بيكاسو العظيم ) كما كان يسميه ريلكه.

** Dastehn تعني ( واقف هنا ). كانت الفرقة واقفة بين المشاهدين مشكِّلةً حرف D 

  ***فريدريش أوغسطس القويّ Friedrich Augustus der Starke (1670 – 1733)

أمير سكسونيا (ألمانيا) وملك بولونيا. ولد في درسدن وتوفي في وارشو. كان ينتزع

إعجاب حاشيته وزائريه باستعراضه قوته الجسدية وذلك بثَـنْـيه إناءَ القصدير

وكسر نعل الحصان بيديه.

**** مدام لامورت : الموت

   

شرح المرثية بإيجاز

ذكّرت لوحة بيكاسو Les Saltimbanques  ومعناها (المهرّجون الجوّالون) الذين يقدمون ألعاباً أكروباتيكية، ريلكه بباريس التي لم يستطع الذهاب إليها لوجود الحرب العالمية الأولى. فالمهرجون

الجوالون، رمزاً لطبيعة البشر القلقة المتنقلة، يعرضون ألعابهم بامتعاض، رغم إرادتهم، وفرقتهم واقفة مشكلة حرف D، وهم يؤدّون عملاً يعاملهم كأغسطس الجبار للأواني القصدير . هذه المجموعة تشبه مركز الوردة حيث المشاهدون هم بتلات تويجها الذي يحيط بالمِدقّـة، والغبار المُـثـار نتيجة فعالياتهم هو غبار الطلع . ولكن مشاهدة الحاضرين سطحية والضجر أو الملل يكتنفهم أخيراً .

هؤلاء المهرجون (الأكروباتيكيون) يشكلون شجرة مؤقتة بأجسامهم والفتى غير المحبوب فيهم يقفز عالياً على القمة ويبتسم دامع العينين . والفتاة أهملت أيضاً، فهي تـُخفي أنوثتها المتفتحة عن أعين الجماهير . يتخيل الشاعر فشل المهرجين بادئ الأمر، ولكن بطريقة غامضة يصلون إلى أهدافهم بنجاح تام . وعلى النقيض من هذا تكون باريس معرضاً للموت، حيث يشبهها بمدام لامورت (الموت) صانعة أنواع القبعات المزيفة.

 

ترجمة د. بهجت عباس

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1536 الثلاثاء 05/10/2010)

 

في نصوص اليوم