نصوص أدبية
وجفت الذكريات / طلال معروف نجم
وطوال سنوات الغربة الموحشات .. الطويلات جدا، كان يمني نفسه بالعودة يوما .. حتما سيعود ليستكملا سويا رحلة الذكريات . فذكرياته في بغداد مزدحمة لاتضاهيها ذكريات مدن الاحبة، القاهرة وطرابلس و اسطنبول ولندن والمنامة . في هذه المدن لطالما احب وأخفق .. وبكى بكاء طفل فقد لعبته . قد يكون اودع قلبه في مدينة من هذه المدن، على امل ان تعثر محبوبته عليه، مع ايمانه بأنها حتى لو عثرت على قلبه، ستدوسه كما داست كل شئ عزيز عليه . بات يخجل ان ينطق بأسمها .. فقط يقرأه بصمت على لوحات اعلانات المحال التي تستخدم اسم محبوبته بشكل ملفت للنظر، كما لو انهم يشاركونه غبطته بهذا الاسم . اكتفى بذلك وهو يجوب مدينة عمان، وقد زين اسمها اكثر من محل مجوهرات او سوق اومكتبة، لابل راح يجدها في اكثر الوجوه التي تمر من امامه، كما لو ان كل بنات الدنيا هي .
وفجأة ما يلبث ان يصحو من هذا الحلم، فيرنو الى وطنه القريب جدا منه . حيث كل الذكريات معطلة بانتظار عودته . فيشهق وتندفع شهقته الى صدره، كما لو انها سكاكين ماكنة لفرم اللحم،راحت تتدحرج الى اعماقه . ويصرخ بألم : كيف سأسعد بك يا عراق، وقد فقدت فيك كل شئ .. كيف بمقدوري ان أمخر شوارع بغداد لاصل دار "واصل"، فأعزي زوجه واطفاله بوفاته، والدبابات الامريكية تملأ الشوارع؟ . ويضيف متسائلا بمزيج من الالم والحسرة : هل سأضع يدي على عيني عشرات الكيلومترات هي المسافة بين شرقي بغداد وحي العامرية، لأتحاشى النظر الى قوات الاحتلال، حيث يسكن رفيق العمر والذكريات وسنوات العمل السياسي والفكري؟ وتذكر هنا يوم ان ضرب العدو الامريكي ملجأ العامرية عام 1990 .
كان الوصول الى العامرية وقتذاك امر في غاية الصعوبة، حيث الفوضى تعم شوارع بغداد، والمواصلات لاتسد حاجة مدينة تربو على الخمسة ملايين نسمة . كانت رحلة كلفته ركوب اكثر من واسطة نقل . وما ان وجد نفسه في شارع العمل الشعبي الذي يفصل جانبي الحي، حتى شاهد عشرات اللافتات القماشية السوداء، تعلن عن تأبين عشرات ضحايا ملجأ العامرية . واطبق على عينيه في التو واللحظة، مخافة ان يعثر على اسم واصل بين هذه اللافتات . ومشى في الشارع الذي يؤدي الى بيته، وقد طأطأ برأسه الى الارض، لايلتفت يمينا ولايسارا، وتمنى لو ان صاروخا يقذف به الساعة الى بيت واصل، بدلا من خطواته التي اصبحت في ثقلها خطوات سلحفاة . هاهو الان امام البيت، الاانه احس بالخوف، وتراجع عن قرع الجرس . وانتبه الى دار شقيق واصل الملاصق، واقترب من باب الحديقة، حيث المطبخ قريب من الباب، واصاخ السمع فأذا به بسمع ضحكات تنطلق من اهل الدار، هنا تنفس الصعداء، وتحرك شطر دار واصل فامتلكته الجرأة وقرع جرس الدار ... لحظات وقد سمع صوتا من جوف البيت يقول.
ـ بابا هذا عمو
فأنفرجت اساريره فسيد الدار بخير اذا . وتمتم في نفسه : الحمد لله . الحمد لله
*
كانا اكثر من صديقين . لابل اكثرمن رابطة شقيقين . اسرارهما في القلب، لايسبر غورها لاقريب ولاصديق .وعلى خلاف واصل، كانت له صولات وجولات في عالم النساء . ويذكر ان احدى صديقاته وتدعى " لمى"، كانت تجد في واصل خصما لها، لابل شريكا في قلبه هو ولطالما قالت له بجدية : آه من واصل فهو ضرتي . كان يحاول ان ينهي اي لقاء معها، متى ما أزف موعده مع واصل، ويتذرع بانه على موعد مهم مع شخصية سياسية اواجتماعية.الا انها تبادره بيقين .
ـ انه موعدك المقدس مع واصل .
*
لم تفرقهما الايام ابدا .. حتى العمل السياسي لم يستطع ان يصدع هذه العلاقة .. كان واصل من رموز السلطة، وتسنى له ان يكون ضابطا كبيرا في الجبش . اما هو فقد نبذ الفكر الماركسي الذي التصق به في سنوات عمره الاولى، وآثر ان يبتعد عن لعبة الاحزاب . حتى حزب السلطة لم يستطع ان يتعامل معه يوما . الا انه ظل امينا على افكاره القومية واليسارية ومناصرة الشعوب المناهضة للامبريالية العالمية . ويوم قرر ان يهجر الوطن،كانت الحرب العراقية الايرانية، قد باعدت بينه وبين صيق العمر، لتواجد هذا الصديق في جبهات القتال طوال السنوات الثماني من عمر هذه الحرب . لهذا أحس ان بمقدوره الان ان يهجر في آن واحد الوطن وواصل، بعد ان اقتنع بأنه لايملك شيئا في وطنه غير حفنة من الذكريات، قد تذوب في مدن الغربة . كان مؤمنا بأن الضنك في الوطن غربة، والمال في الغربة وطن، تعلمها من الامام علي (رض)، ولطالما رددها وهو يجوب كل المدن والبلدان . ويوم جاءه صوت من بغداد عبر الهاتف يبلغه بوفاة واصل، اقتنع بأنه سوف لن يعود الى الوطن . فهو اذ استطاع ان يهجر الوطن وواصل دفعة واحدة . انى له اليوم ان يعود وقد فقد الوطن وواصل في آن واحد؟ . انى له ان يحتمل الدبابات الامريكية وهي تقلق حتى اسفلت شوارع بغداد الحبيبة؟ . اي ذكريات سينبش عنها؟ . من سيكون صاحبه انذاك وقد بهت كل شئ؟ . هنا تفكر مليا وما لبث ان تمتم : وداعا يا صديق العمر ... لقد حظيت بمالم أحظ به ابدا، فقد لفك تراب العراق العبق .
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1536 الثلاثاء 05/10/2010)