نصوص أدبية
الحظ يبتسم مرة واحدة / طلال معروف نجم
رسمت شارة الصليب على صدرها . وفجأة سمعت صوتا خافتا يقول .
ـ هل تعرفين هذا الرجل ياسيدتي ؟ .
فأجابته بآلية .
ـ كلا
وأستدارت الى صاحب الصوت، فأذا به القس الذي راح يقترب منها بتؤدة واضاف قائلا .
ـ خلت ان يكون قريبا لك فقد أطلت الوقوف امامه بخشوع وصمت .
فقالت بلا اكتراث
ـ كأن بي انشددت اليه
وهمت بترك الكنيسة، الا ان راهبة خرجت من جوف الكنيسة استأذنتها بالتريث قائلة .
ـ هل لي بأسمك وعنوانك او رقم هاتفك ياسيدتي رجاءا
وارتسمت على وجه السيدة آمارات الاستغراب والتعجب وبادرتها متسائلة .
ـ لماذا ؟
فأجابتها الراهبة مبتسمة .
ـ انه الخير بأذن الرب ياسيدتي .
وشارك القس الراهبة في الطلب، فما كان منها الا ان قالت " اليزابث ولسن 11 كنك ستريت " . ثم تحركت شطر باب الكنيسة . وما ان اصبحت في الشارع حتى ازداد استغرابها، الا ان هموم اولادها، وضنك الحال، انساها كل شئ ... راجعت ما في حقيبتها من نقود، فلم تجد الا 50 بنسا، فشعرت بالجزع والحيرة، فعليها ان تبتاع حليبا لصغيرتها، وبعض الأكل للابنة الاخرى التي تبلغ من العمر عشر سنوات . ولفحتها موجة من البرد سرت الى اوصال جسدها المتعب المهموم . فتمتمت في سرها " اللعنة على برد لندن " . وحثت الخطى سريعا الى منزلها، الذي لايبعد كثيرا عن الكنيسة . وما ان فتحت باب المنزل، حتى وصل اسماعها صراخ طفلتها .. فهتفت بتذمر " جائعة يا صغيرتي لقد جئتك بالحليب " .
*
في اليوم التالي، سمعت صوت جرس المنزل، فهرعت تفتح الباب، فأذا بها بمواجهة سيد محترم يحمل بيده حقيبة رجل اعمال . بادرها قبل ان تنبس بحرف قائلا .
ـ عمت صباحا سيدتي . هل هذا هو منزل السيدة اليزابث ولسن ؟
اجابته في التو
ـ عمت صباحا ايها السيد أنا من تريد
فطلب منها الدخول الى المنزل، للحديث عن امر هام يخصها . فأستدركت وقالت بأدب جم.
ـ تفضل ايها المحترم
وأضافت بتأفف
ـ ان منزلي لايليق بك ياسيدي
ـ لاعليك
قال ذلك وهو يحرك بيديه بشئ من عدم الاكتراث . وما لبث ان اتخذ له أقرب كرسي صادفه. وقبل ان تهم له بعبارة تفضل . انذاك طلب منها الجلوس بمواجهته وهو يقول
ـ أرجو ان تركزي معي لما سأ قوله لك، وأومأ بأصبعه اليها مضيفا
ـ وهل تتذكرين الرجل الميت في الكنيسة صباح أمس ؟
أجابت بشئ من الخوف
ـ نعم .. وما شأني به، لقد صليت عليه ثم تركت الكنيسة لاغوص في حياتي الصعبة والشائكة.
ـ انا محامي هذا الرجل
قال ذلك وأضاف مبتسما لها يحاول من خلالها ان يهدئ من روعها . وأضاف
ـ لقد ترك وصية تخصك انت بالذات
فردت بشئ من الذهول
ـ لم ألتق به يوما .
انذاك اخبرها بأن الرجل قد اوصى بترك 43 مليون باون استرليني لاول شخص يقف ويصلى على جثمانه في الكنيسة . وأنت الشخص الذي حظي بما اوصى به الرجل،وارجو ان تستعدي لاجراءات تنفيذ الوصية وتسليمك المبلغ بالكامل .
لم تحر جوابا ... ولفها صمت خالها المحامي قد غابت عن الدنيا . وجالت بفكرها الى المستقبل .. فمن حقها ان ترسم لمستقبلها .. فهي لاتحلم، فكل الاحلام واصعبها ستتحقق بهذا المبلغ الضخم . وتذكرت ان عندها الان من الملايين، يفوق ما غنمته العصابة التي سطت على قطار بريد لندن بعشرات المرات . فطفقت تضحك فيما راحت تربت على يدي المحامي وتشكره بحرارة وغبطة . تود الساعة لو تنهال عليه بالقبل . لولا تهيبها من شخصه المحترم .
*
اعتاد ان يذهب كل يوم أحد الى مدينة ريجموند القريبة من لندن، حيث يلتقي بصديقه المصري وجدي . جمعت بينهما الصداقة منذ ايامه في مصر . يعمل وجدي مضيفا في احد مطاعم الوجبات السريعة هناك . ينتظره حتى يفرغ من عمله، لينطلقا انذاك الى علب لندن الليلية . كما اعتاد ان يستقل الحافلة الحمراء ذات الطابقين، من همرسمث حتى ريجموند. سعادتان تغمرانه وهو يستقل الحافلة هذه، الاولى انه يصعد الى الطابق العلوي، حيث يرى كل شئ على جانبي الطريق، والثانية انها تذكره ببغداد الحبيبة، التي تستخدم هي الاخرى هذا النوع من الحافلات المميزة . كل مرة كانت الحافلة تمر من جانب المقبرة .. واسعة تزهو بالزهور وبالمستطيلات الخضراء وبالتنسيق الجميل، هي ايضا تشده وتذكره بمقبرة للجنود البريطانيين في حي الوزيرية ببغداد . كان صغيرا يصر على امه، على ان يقف قبالة المقبرة يطيل النظر اليها مشدودا الى جمال تنسيقها . كانت حقا شبيهة بالمقبرة التي ينظر اليها الان من شباك الحافلة . نفس الجمال في تنسيق الزهور . ونفس الصمت الذي يطبق على المقبرتين .
*
قرر ان يزور المقبرة الاحد القادم . فخرج من شقته صباح الاحد وحث الخطى الى المقبرة، التي لا تبعد عن حي همرسمث كثيرا . وما أن ولج بابها، شعر بأنه يرتد الى ايام الصغر . الى حي الوزيرية .. الحي الراقي الذي كان لا يسمع فيه الا هسيس الصمت . وتغريد العصافير البغدادية الشهيرة . وقصور المترفين التي تعبق زهورها الشوارع الهادئة . ومالبث ان هتف بصوت مسموع " انها بالضبط مقبرة الوزيرية " قدماه قادته الى قبر احاطت به الزهور بشكل ملفت للنظر .. توقف عنده ... وبفضول قرأ اللوحة التي تتصدر القبر، جاء فيها ان صاحبة القبر هي اليزابث ولسن . وان تأريخ الوفاة هو الخامس من ابريل عام 1980 .
لف الصمت اركان المقبرة . بالرغم من وجود الزوار بأعداد قليلة جدا . تناثروا في اماكن متفرقة. لم يصدر عنهم اي ضجيج . كأنهم يتهامسون . لا أحد قريبا منه اللحظة .. توقف عنده كل شئ . حتى الرغبة في التحرك تلاشت . كما لو انه آثر هذه الخلوة . وفجأة تناهى الى سمعه تحرك اوراق الشجر المتساقط على الارض ... لا حركة للريح الساعة . فألتفت مذعورا الى ورائه .. ليكون وجها لوجه أمام فتاة جميلة . اختلط فيها الجمال البريطاني بمسحة من الملامح الاسيوية، التي باتت سمة المرأة البريطانية في السنوات الاخيرة . بادرته بالقول
ـ هالو
لم يحر جوابا وعقدت الدهشة لسانه . فسألته بأستغراب
ـ هل تعرف هذه المرأة ؟
فأجاب بصوت يكاد ان يكون محبوسا في جوفه
ـ كلا ..
فأشارت الى القبر وهي تقول
ـ انها امي ماتت منذ عشر سنوات ولها قصة اغرب من الخيال
واصل صمته المقترن بالدهشة . اما هي فراحت تسرد له قصة حصول امها على مبلغ 43 مليون باون استرليني، لانها وقفت نفس وقفته هذه على جثمان رجل مسجى في الكنيسة، لم يحدث ان التقت به في حياتها . وقالت وآمارات الجد ترتسم على وجهها .
ـ قررت ومنذ عشر سنوات لو صادفت شخصا يطيل الوقوف ويصلي على قبر امي لدعوته الى كأس من الجعة او النبيذ المعتق في قصري بمنطقة جزك هاوس غاردن . توقفت عن الكلام هنيهة ثم اردفت متسائلة
ـ هل صليت عليها ؟
أجاب بشئ من الحيرة
ـ ولكنني مسلم
ـ من اي بلد انت ؟
سألت ذلك بشغف بدا واضحا على ملامحها . فعاجلها بالرد
ـ من بغداد
لطالما كان يستخدم بغداد بدلا من العراق، لايمانه بأن اسم بغداد اكثر شهرة من اسم العراق. لارتباطها بأذهان الغرب بقصص الف ليلة وليلة . وحرامي بغداد . قطعت شروده هذا وهي تتساءل بجدية
ـ هل ستلبي دعوتي هذه ؟
فضحك في سره وهو يقول لنفسه " ايعقل ان يرد انسان دعوة هذه المخلوقة الاخاذة " وهنا تذكر موعده الاسبوعي مع صديقه وجدي، إلا انه ما لبث ان قال " طز " ثم لحق بها وهو يردد " الحظ يبتسم مرة واحدة "
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1542 الاثنين 11/10/2010)