نصوص أدبية
الرمــال لا تحـتفظ بما تخـطه الأنامـل / طــلال معروف نجم
ها أنت أصبحت بعيدا عنها مئات مئات الكيلومترات . وجر خطواته الثقيلة الملتصقة بالارض جرا عبر اروقة المطار . حقا ... استشعر الغربة رغم ايمانه بأن عمان ُتقرِبه كثيرا من حبيبة المدن بغداد . الا أنه زفر زفرة حالها كحزمة من العبرات المحرقة التي خلَص صدره منها .. وواصل الدب على ارض المطار لا يلوي على شئ، كما لو انه في محيط من الهدأة والسكينة . لا يسمع .. لا يرى .. ويتحرك بآلية وصورتها لا تفارقه البتة .. حتى كلماتها القاسية استحالت الساعة ترنيمات عندليب في روضة خلت من البشر . وغاص في الاعماق ... كمن راح يغوص في لجة من الماء، لو قدر ان احدا اقترب منه اللحظة، لشعر بنفحات غريق شارف الموت . وبآلية وضع حقيبة ملابسه على الطاولة امام موظف الجمارك . وقبل ان يهم بفتحها بادره الموظف قائلا :
ـ تفضل لا حاجة لذلك .
سحب الحقيبة إليه، وهو مستغرب لامر هذا الموظف الذي لم يفتحها، وقد عزا ذلك الى هيئته المحترمة ربما او اناقته المفرطة . لطالما كانت مزهوة بأناقته وشخصيته، ولطالما حثت والدها ان يقتدي بأناقته . ويوم أصرت على والدها ان يبتاع معطفا شتويا شبيها بمعطفه، بادرته بالسؤال وهي ترمق والدها بحذر ـ مارأيك يا أستاذ بمعطف بابا ؟
لم يرد ان يحرجها، واجابها دون ان تظهر على وجهه آمارات التهكم
ـ يكفي ان يقيه من البرد
*
كانت احلى ساعات يومه، لحظة ان تجلس امامه ليقوم بتدريسها . اعتاد ان يذهب مبكرا الى بيتها، اي قبل عودتها من الكلية . يرقب عودتها بشغف .. وينظر اليها بلهفة وهي تخرج من سيارتها، وتندفع شطره وهي تلهث وترمي حقيبتها وكتبها وكل شئ في يديها امامه على المكتب . ثم تستأذنه وتغيب في جوف البيت الكبير . فيما ينشغل هو في توظيب اغراضها على المكتب، ويروح يقلبها، ويفتش في كتبها، يقرأ كل خواطرها وشخبطاتها، كمن يبحث عن كنز، يمني نفسه بالعثور عليه يوما. وتطل عليه وهي تضرب على الارض بقبقابها الخشبي، بات يهيم على وقع صوته . تحط كوبا من الحليب الممزوج بالنسكافه وترتشف منه رشفة، وتتركه على المكتب وتغيب ثانية .. ومن مكان الرشفة وفي خلسة، يمرر لسانه ويرتشف هو الاخر رشفة، هي عنده رشفة الحياة الابدية . ويطول انتظاره، وهيهات ان يبدي تذمرا، فقلبه المتبول له بالمرصاد. وتطل ثانية وهي تحمل صينية عليها اطباق من الاكل، فقد اعتادت ان لا تأكل إلا وهو يشاركها الاكل . ما ان تفتح كراستها، حتى ينتبه الى انها على استعداد للدرس. ويغيب هو وقتذاك في عالم لا يفقه كنهه ... هو يتكلم وهي تكتب، ويختلط الدرس بمضغ الطعام .. ويتمنى في تلك اللحظات لو ان الدنيا تتوقف عن الجري، فتظل امامه تصيخ السمع تأتمر لاوامره .. تطيعه . حنى انها اعتادت ان لا تقرا شيئا أو تدرس إلا وهو قبالتها . ويومها قالت الام بتهكم :
ـ يوم ان غبت عنا بسبب مرضك، قلبت الدنيا رأسا على عقب، وفرضت علينا الهدوء المطبق بحجة عدم قدرتها على الفهم .
*
هكذا تعودت عليه، ولم تطق غيابه عن البيت . وفي صيف السنة الدراسية الثانية، كانت متخلفة في مادة علم النفس، وعلى العائلة ان تسافر الى القاهرة لحضور عرس إبنة الخالة، فأقترحت الام بما يشبه المزاح، ان يرافقهم هو الى مصر ليواصل تدريسها .
*
ها هو الان .. خارج المطار، وشهر يناير يكشر عن أنيابه، وصعد حافلة المطار التي تقله الى قلب العاصمة الاردنية، وهو يرتعد بردا ورهبة وقلقا . وما ان أخذ مكانه في الحافلة، حتى سرى الدفء الى اوصال جسده، كما لو انه هدأ، أو استشعر الطمأنينة فجأة . وتحركت الحافلة المكتظة بالركاب . كان الظلام قد خيم على الطريق، وحاول ان يتحسس الاماكن التى تمر بها الحافلة، كما لو انه يمر بها لاول مرة . وفجأة يسمع لغوا باللهجة الليبية، يصدر من ورائه، ليلتفت بلهفة من مرت بأنفه نفحة عبير تحمل انسام حبيب بعيد . وقال بفضول لعجوزين بلباسهما الوطني الليبي .
ـ اي مساعدة يمكن ان اقدمها لكما .
فأجابه الرجل
ـ نريد المستشفى التخصصي
اما هو فسأله بشغف
ـ أين في ليبيا ؟
فرد الليبي
ـ طرابلس حي قرقارش
هنا لاذ بالصمت واعتدل في جلسته بعد ان طلب من سائق الحافلة، انزالهما في اقرب محطة من المستشفى . فكم كان يتمنى لو كانا من الحي الذي تسكن فيه معذبته، لكان حتما قد شم فيهما عطرا عبق الحافلة، التي امتزجت فيها انفاس وروائح الركاب بالحرارة المنبعثة من أجهزة التدفئة واصبحت لا تطاق .
*
لاول مرة يعترف بأنها معذبته .. جلادته .. كان يستمتع بلسعات سوطها، الذي يسلخ جلده كل يوم . حدث هذا بعد ان عبرت الى السنة الثالثة، أحس بأنها اصبحت تتحرر من سطوته، أو من سحره .. أدرك بأنها نضجت ... كبرت .. وآمن بأن زميلا في عمرها قد شغلها عنه . أو ولهت به . أدرك بذلك يوم ان سألته : ماذا تعني كلمة دارلنك، فأجابها بحزن تعني : حبيبي . بعدها انهالت سياطها عليه دون توقف، طوال السنة الثالثة فسنة التخرج .
*
كم كانت ظالمة يوم ان أقامت حفلة تخرجها في مزرعة والدتها، دعت اليها كل اساتذة كلية الاعلام والفنون الا هو .. الا استاذها الاوحد. الا صانعها .. الا معلمها . الا ضحيتها .
*
توقفت حافلة المطار في منطقة العبدلي، وما ان نزل منها حتى صرخ في سره: الموت لك يا ... الا انه مالبث ان لطم على فيه، قبل ان ينطق بأسمها .
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1548 الاحد 17/10/2010)