نصوص أدبية

مَراثٍ: عدنان الظاهر

أوَترحلينَ وبيتيَ فوقَ الهمومِ يعومُ

تَقاذّفهُ الريحُ أنّى تشاءُ كبيتِ الشَعَرْ

سألتُكِ أُمّاهُ أنْ لا تغيبي 

سألتُ لماذا التسرّعُ في السَفَرِ المُنتَظرْ ؟

أَترحلُ والدةٌ عن بنيها وما حانَ آنُ القضا والقَدَرْ

أَتتركُ أُمٌّ رضيعاً لها

قُبيلَ الفِطامِ على صدرِها جائِعاً يُحتّضَرْ ؟

أَسيدتي كيف هانَ عليكِ الرحيلُ …

وهل مِنْ حياةٍ خِلافَ غيابكِ

هل مِنْ سرورٍ وهل مِن سَفَرْ ؟ 

أَتستسلمينَ لداعي الفناءِ كآلهةٍ من تُرابٍ

وتمضينَ عجلى كباقي البَشَرْ ؟

أَأُمّاهُ ليتكِ ما غبتِ عنّي

فبعدكِ تأتي الليالي

وبعدكِ تمضي الليالي

وهيهاتَ بعدكِ يأتي القَمَرْ.

 

صلاةُ الوالدة

قيامُكِ في الفجرِ قبلَ إنبلاجِ النهارِ

وهَمسُكِ إذْ تصبَغينَ الوضوءَ يُقرِّبُ منّي الشذى

والمُنى وهديلَ الحمائمِ فوقَ الشَجَرْ

صلاتُكِ ها لم تزلْ حيّةً في رؤايَ

تمدّينَ قامتَكِ بعد السجودِ كمدِّ وجَزْرِ مياهِ البَحَرْ

ومثلِ صلاةِ المسيحِ حلولاً

دمٌ يتساقطُ من وجههِ والعذابُ

كما

يتساقطُ

صخْرٌ

على

مُنحَدَرْ

تُدحرِّجهُ قُدرةٌ في الخفاءِ.

   

يوم الدفن

أُسائلُ نِسوةَ جيراننا

إذْ يَعُدنَ مع الليلِ من مجلسٍ للعزاءِ

أَوالدتي وحدَها لم تَعُدْ

معَكُنَّ، أما رجعتْ بعدُ والدتي يا نساءُ ؟؟!!

أَفما شقّقتْ ساعةَ الحُزنِ أثوابَها

أَفما لَطَمتْ وجهَها، رأسَها عارياً والصَدِرْ ؟

 

أَموكبُها والجلالُ المهيبُ على أرؤس الحزنِ مدَّ البَصَرْ

أُشيّعهُ والدموعُ جوارٍ على إثرها

فهلْ أُصدِّقُ ـ يا ناسُ ـ شؤمَ الخَبَرْ ؟

 

يؤوبُ المُشيِّعُ إلاّ أنا …

أظلُّ

على

قبرِها

واقفاً

أنتظرْ !!

                                

بدر شاكر السيّاب

1-   تمثالٌ على نهر

هل أنحو منحى تمثالَ السيّابِ

يتأبّطُ جسراً للمطرِ الساقطِ في مقهى العشّارِ

ويقلِّدُ في أقسى ساعاتِ الإفلاسِ

طبيعةَ أسفارِ الجاحظِ لا تسقطُ إلاّ

في ملكوتِ رفوفِ خطيرِ الأفكارِ.

 

الصخرُ المنحوتُ ملائكةٌ ملأى بالحمّى

تكفرُ بالنخلةِ والبصرةِ والزنجِ وبالأسحارِ (1)

صَدئتْ أبوابُ الغيمِ فلا

ركبٌ يسري أو يقطعُ مرحلةً أخرى

بعدكَ أو يحدو صوتاً فَردا

في فُلْكِ بحورِ الأشعارِ

لا مركبةٌ تنتظرُ الوحيَ أميراً

أو مَلِكاً ضِلّيلاً في بوّابةِ عِشتارِ.

 

ما هذا الوهمُ المرسومُ بأصباغِ الأقدارِ

ما هذا الهمُّ يُغلِّفُ أقنعةَ الموتى

بالجوعِ المُزدَوِجَ الأسوارِ

ويغوصُ إلى ما تحتَ خطوطِ الفَقْرِ الحمراءِ ؟؟

هل حتفُكَ يا بدرُ مسيرةُ أقدارٍ عمياءِ

وحنوطُكَ في صدرِ غريبِ العلِّةِ مثلي

يذروهُ الحلاّجُ رماداً في دِجلةَ خيرِ الأنهارِ (2) ؟؟

 

2-   القيامة

قُمْ…

قُمْ وأقرأْ من وَجَعٍ في الصدرِ عميقِ الأغوارِ

آياتٍ تنضحُ بالشكوى شِعرا

وارفعْ روحكَ ناراً تتغذى

من طَورِ إلهِ الأطوارِ

تقدحُ فيها بشراً من حَطَبٍ

مُذْ بابلَ مختوماً باللعنةِ والبلوى

أخرسَ  { كالمُومسِ أعمى } (3)

مؤوداً ذكراً أو أُنثى حيّا

قربانَ حروبِ إلهِ اليمنِ القَمَري.

 

هل أسمعُ فيكَ نشيدَ السَحَرِ الأسمى

يترددُ في أعلى طَبَقاتِ مقامِ الأمطارِ

يأتي المَربَدَ أحياناً صيفا

فأنا مُختارُ الغربةِ منفيُّ الدفةِ والمرسى

والمركبُ في دجلةَ غرقانُ.

 

3-   جيكور والهور

الشعرُ منارةُ قُدّاسٍ في دِيرِ الرُهبانِ

أو شطحةُ صوفيٍّ يتدرجُ في سُلِّمِ طياتِ الإيمانِ

مُريداً حيناً

وحلولاً ما بين النفسِ الأمّارةِ بالسوءِ الحيرى

وغموضِ مغارةِ روحِ الإنسانِ

فاصدحْ بالرئةِ التعبى (4)

مثلُكَ لا يخشى طارقةَ العقبى

عقباكَ هي الأدمى فينا والأشقى :

أنْ تلفُظَ أنفاسَكَ أيّوباً في الأرضِ الأخرى (5)

مفيّاً وغريبَ الهيئةِ والساحلِ والخلجانِ (6).

 

هل كانت جيكورُ نبؤةَ مكّةَ  في عصرِ الأوثانِ

نزلتْ سومرَ أو أرضَ الكلدانِ

أو كانت شِعراً من ذَهَبٍ

ينمو بالثورةِ في حلفاءِ الأهوارِ

وسلاماً لحمائمَ [ غيلانَ ] (7) وأطفالِ الوركاءِ ؟؟

 

.................

هوامش /

1 ـ (عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السَحَر)… مطلع قصيدة " أُنشودة المطر " للشاعر السيّاب.

2 ـ قال الشاعر أبو العلاء المعرّي :

شَرِبنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماءٍ       وزُرنا أشرفَ الشجرِ النخيلا

3 ـ (المومس العمياء) قصيدة معروفة للسياب.

4 ـ (من أيّما رئةٍ من أي قيثارِ) … من قصيدة " بورت سعيد " للسياب.

5 ـ (سِفر أيوب)… قصيدة للشاعر السياب.

6 ـ (غريبٌ على الخليج)… قصيدة للسياب.

7 ـ قصيدة (الأسلحة والأطفال)… و (غيلان) هو الإبن الأكبر للشاعر.

......................................

                          

مقبرةُ الغرباء

(رثاء الجواهري محمد مهدي)

 

 يا شاعرَ مرثاتي

هل أنكَ حقاً في فَلَكِ الشِعرى

تنظُمُ شِعراً لبنيكَ التعبى

إذْ طالَ الإدمانُ على أفيونِ المنفى ؟؟

إنزلْ…

فالشارعُ بعدكَ خالٍ

لا شِعرٌ يهتزُّ الجسرُ بهِ غَضَباً أو حُزنا

يتعالى فوقَ سطوحِ (الكرخ ِ) كثورةِ بِركانِ.

يا شاعرَ مأساةِ الإنسانِ

يا صوتَ قرونٍ ما زالت تتكلّمُ شِعراً بالفصحى

لتخاطبَ أحياءَ الموتى

ماذا لو قمتَ قليلاً جدّا

لتزورَ حمائمَ دجلةَ خجلى

غاصتْ بعدكَ من قهرٍ في الطينِ

بستانكَ لا أُمٌّ ترعاها

لا نارٌ تتوهجُ في ظُلمةِ (كانونِ)

ـ هل تتذكرُ وثبةَ كانونا  ؟؟

إضربْ دجلةَ بالسوطِ المسحورِ وبوقِ الإنذارِ

كي تعبرَ موجاتُ النفيِّ تباعاً

أفواجاً أفواجا

وتهدِّمَ أحجارَ الأسوارِ

إنفخْ في الصُورِ

فبغدادُ مُهتَّكةُ الأزرارِ وبوبؤُ عينيها جمرا

يتلظّى في غضبِ النيرانِ

تنتظرُ البشرى وتكِّلمُ موتاها أنْ قوموا .

 

من يوقدُ في العَتمةِ قنديلا

بعدكَ، من يكسرُ قيدَ حديدِ الجلاّدِ

(سلامٌ على مُثقَلٍ بالقيودِ)

من يعبرُ جسراً للوثبةِ أو نهرا

أو يوقدُ ناراً في دربِ شهيدٍ أو دارِ

ويمدُّ يداً للسابحِ ضدَّ قطارِ التيّارِ

(سلامٌ على سابحٍ ماهرِ) ؟؟!!

 

بغدادُ مُطأطئةُ الهامةِ ثكلى

وعيونٌ داميةٌ تبكي

وملوكُ [ بني العبّاسِ ] سُكارى

تركوا بغدادَ وناموا

في مبغىً تركيٍّ أو حانِ

تركوها تتعرى…

في موكبِ عَرضِ سلاحِ الأعداءِ.

 

                          

دموعُ السماوي

أيلول ـ أكتوبر 1998

(كنتُ أميلُ كثيراً إلى البكاء وأنا صغير، ولحد الآن وأنا أقتربُ من الستين / الشاعر والصديق المرحوم عزيز السماوي).

 

(دلللولْ  يُمّهْ دلللولْ)

(عدوّكْ عليلْ وساكنْ الجولْ).

 

أُمّي وأنا في مهدي

تلهجُ بالشكوى

وتغني للريفِ مقامَ النوحِ على أيكِ

تبكي ليلاً وأنا أُصغي :

لماذا تبكي أُمّي… لماذا تبكي ؟؟

تندبُ حظاً يتعثّرُ من مهديَ حتى لَحدي…

 

ماذا لو كفّتْ أُمّي

تركتْ طحنَ الروحِ وجرشِ الضيمِ

ماذا لو جفَّ البحرُ بأحداقِ العلقمِ والسُمِّ

ماذا لو سكتَ الحزنُ النابحُ فيها دهرا

مُذْ سومرَ حتى ما بعدَ السابعِ من نيسانِ ؟؟

 

قال المِكُ الضلَيلُ :

(فقلتُ له لا تبكِ عينُكَ إنمّا     نحاولُ مُلكاً أو نموتُ فنُعذَرا)

 

هل حقّاً نملكُ شيئا ؟؟

لا يملكُ مثلُك أو مثلي إلاّ

مملكةَ الظُلمةِ في الدنيا والأخرى

ومَلاكاً للرحمةِ يأتينا من نارِ جهنمَ بالسلوى.

 

لا تبكِ عزيزي…

لا تكشفْ أحشائي

جرّبتُ الداءَ أتاني أسودَ محمولاً من أُمّي

فاللونُ القاتمُ يطغى في المجرى.

 

إرفعْ كالنخلةِ رأسا

نحو سماواتِ بلادٍ خانتني

قطعتْ حبلاً في رَحِمٍ أقصاني

طحنتْ بالهجرِ عظاماً ناتئةً في صدري

لا ترفعُ أعلاماً في برٍّ أو بحرِ

تُنكِرُ أني مولودٌ فيها

وبأنّا كنا نبني بيتاً من رملِ

وبأنّا كنا نلهو صيفا

ونُقبِّلُ ـ إنْ جعنا ـ سَعَفاتِ نخيلِ الأهلِ.

(نخل السماوة يكول)

(( طرّتني سَمْرةْ ))

(سعف وكَرَبْ ظليتْ)

(ما بيَّ تَمْرةْ)

 

كلاّ…

أصرخُ كلاّ كلاّ كلاّ

هل تسمعُني ؟؟

هل يسمعُ شكوايَ عزيزٌ في منفى ؟؟

ما زالَ فسيلُ النخلِ يمدُّ ظِلالاً للأهلِ

يضربُ في طينةِ بابلَ جذراً أقوى من صخرِ

ويُظلُّ بيوتاً

وقفتْ يومَ الشدّةِ شامخةً ظهراً في صدرِ

ويمدُّ جسوراً ما بينَ النهرينِ

لعبورِ سفينةِ بحّارٍ ضلّتْ ما بينَ الساحلِ والرملِ

يبحثُ عن مأوىً مثلي أو مرسى

يسألُ صاحبةَ الحانةِ في الدنيا السفلى

عمّا يأتي بعدَ الموتِ

الحانةٌ ـ قالت ـ لا تسقي بحّاراً لا يرسو فيها

غادرها سِرّاً والمقهى

ماذا يأتي بعدَ الهجرةِ في الحاناتِ السفلى ؟؟

بَشَرٌ، قالتْ

يمتدُّ جذوعاً فوقَ نعوشٍ تمشي بالموتى

وسفائنُ قارونَ مُعطَّلةٌ تتهرأُ أخشاباً في مرسى.

(لا يا هلي الظِلاّمْ)

(ما رَحمْ عدكمْ)

(حنّوا عليَّ عادْ)

(موش آنه بنكمْ) ؟؟

ظلموني…

ظلموني حقّا

ظلموني حيّا ـ ميْتا

ما حنّوا

جعلوني ألهو وأحاولُ أن أنسى

وأُكلِّمُ أحجاراً صُمّاً بُكما

كي أدفعَ شيئاً يُقلقني عنّي

فأرى دمعاً ورماداً مشتعلاً يجري

تحتَ وِسادِ حرائقِ هجراني

لا أعتبُ بعد الآنَ، على مَنْ عَتبي

والدهرُ يسافرُ في مركبِ أحزاني ضدّي ؟؟

 

سلّمتُ المفتاحَ لصاحبةِ الحانِ فكانتْ

مثلي سكرى

تتلهّى بالجمرةِ في نارِ لساني

هل مرّتْ عَرَباتُ السُكَّرِ والعنبرِ والجيشُ الآشوري ؟؟

قالت كلاّ …

مرَّ المَلِكُ الضلَيلُ بتاجِ عروسةِ آبارِ النارِ

تتبعهُ عَرباتُ الموتِ وأسماءُ القتلى

ناتئةً تصرخُ ناموا تحت الأرضِ جياعاً ناموا

أو قوموا

حانَ الوقتُ وقامَ الموتى

قوموا

قوموا.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1553 الجمعة 22/10/2010)

 

في نصوص اليوم