نصوص أدبية
هوس محموم / زيد الحمداني
وفي كل مرة احث فيها الخطى الى تلك الاماكن اوهم نفسي باني ذاهب للتعرف على عمارة تلك المحال وطرائق عيش الناس فيها. كانت اسباب تجوالي تلك اشبه بكتاب عنوانه يرمز للزهد و باطنه يحكي عن نزوات نفس بشرية مغلومه.
حملتني اوهام المعرفة والاستكشاف تلك في ظهيرة يوم صيفي لاهب الى محلة القيمرية التي اعتدت على الطواف في ازقتها مرورا بالجامع الاموي ووصولا الى سوق الحميدية ومن ثم اخذ الباص الى حيث اسكن في احدى البيوت القريبه من سفوح جبل قاسيون. حين وصلت الى القيمرية في ذلك اليوم كان العطش قد بلغ مني ذروته فلجأت الى محل الحاج الحمصاني بائع الليموناضه، كنت اجلس على كرسي خشبي امام باب دكانه وارتشف رشفات متوتره من كأس الليمون المثلج.
- الله يرحم ايام زمان كانت النسوة يخشين السيروسط الطريق حتى وهن منتقبات.
كان يود مجاذبتي اطراف الحديث كعادته مع غالبية زبائنه ولكن لم تكن عندي ادنى رغبه في انتهاك متعة التحديق وسرقة تلك الدقائق النادره التي تشهد مرور كم هائل من الفتيات العائدات من مدارسهن والدخول في نقاش مع الحاج الحمصاني الذي كان يقف خلف منضدته الخشبية ويقطع بسكينه الحادة جموع لاتحصى من ثمارالليمون.
اعطيت للحاج ثمن كاس العصير وواصلت التجوال في تلك الازقه التي كلما ازداد ضيقها ازدادت في نفسي شراهة الرؤية والتلصص على تفاصيل تلك الاجساد النسوية البضه التي كانت تمر على بعد بضع خطوات مني. صور كثيره مرت بي فاقت في كثرتها قدرتي على خزنها وحفظها في ذاكرة انهكتها عشرات بل مئات التخيلات والقصص الموهومه، آه كم اتمنى لو تمضي بي السنون الى العمر الذي تخمد فيه كل مآربي فقد باتت رغباتي الدفينة كسياط غليظه تلهب ظهري ولا يرجى لهذه الرغبات نهاية الا بتكسر تلك السياط.
في رحلة التلصص تلك كانت الابواب المغلقه باهمال تستهويني بجنون فلربما المح خلف تلك الابواب ضالتي. واصلت السير والتحديق على المارة -او بوصف اصدق- المارة من النسوة، وفجأة لمحت باب خشبية لمنزل لايكاد يرى مدخله من كثرة اغصان الشجر الملتفه حول المدخل، شاهدت بنت صغيره تدفع الباب وتدخل تاركة اياه نصف مفتوح، اقتربت من المنزل بضع خطوات، سمعت اصوات غناء وضحكات نسوة تاتي من الداخل، ابطأت في سيري وحاولت ان اختلق عذرا لذلك، تظاهرت بأني اقوم بربط احزمة حذائي واخذت اختلس النظر الى الداخل، خمس او ست نسوة يجلسن متحلقات حول بعضهن البعض وتضرب احداهن بالدف وتغني الاخريات بصوت مسموع:
"يا قضامه مغبره ويا قضامه ناعمه
جوزي لما غبرها كنت انا نايمه
شوف عيني شوف
شوف روحي شوف
شوف حركاتي الناعمة"
وكمن غيب عن الوعي بجلسة للتنويم المغناطيسي، اخذت اقترب من باب الدار واحدق بشراسة اليهن، انشغالهن بالغناء والتصفيق اغراني بمواصلة التلصص، ياالهي ماهذا الذي ارى، المرأه التي تضرب الدف كانت تجلس على كرسي خشبي قصير نوعما و قد انحسر فستانها الابيض كاشفا عن ساق بيضاء ممتلئة بعض الشيء كانت كافية لاستثارة الذئب الجائع القابع في اعماق نفسي، فبدأت اشعر بانياب الرغبه تنمو ومخالب الشهوة تطول و اخذت اقترب من حظيرة النساء اكثر واكثر حتى ادخلت راسي بالفرجه بين الباب والجدار، مرت ثواني معدوده حتى افقت على صراخ اصوات اولاءك النسوة:
- حرامي... حرامي... حرامي
ادركت حينها اني في ورطة، صراخ النسوة وهن ينظرن الي افزع الذئب الجائع الذي كان يسكن في داخلي وجعله يفر كفأره تلاحقها جموع من القطط الجائعة، واخذت اجري بسرعة كبيرة لا يقوى عليها الا حرامي متمرس في السطو على البيوت الآمنة!
2
بعد ان تيقنت من ابتعادي عن ذلك المنزل الحلم، صرت ابحث عن محل اجلس فيه والتقط انفاسي، دخلت لمقهى تراثي قديم يرتاده عدد من السواح الغربيين، جلست على طاولة صغيرة في مدخل المقهى وبمكان يسمح لي بمتابعة الداخل والخارج، طلبت من النادل شاي اخضر بالنعناع، اخرجت كراستي الصغيره التي احتفظ فيها بجيب سترتي اينما ذهبت وشرعت بتدوين بعض الافكار التي اخطط لمناقشتها وعرضها في مقالتي القادمه، فانا اكتب عمودا اسبوعيا في احدى المجلات الثقافية. نعم كاتب ومتلصص!
حين جاءني كوب الشاي التفتت الي وبنحو مفاجئ سائحه كانت تجلس هي ورفيقها –اضنهما فرنسيان- على طاولة قريبة مني وقالت لي بانجليزية ذات لكنة ركيكة:
- عذرا على تطفلي ولكني تعجبت لانك تطلب شايا اخضر، بلدكم بلد القهوه السوداء والشاي الاسود.
لم استطع منع نفسي من الابتسام في وجه تلك السائحه الشقراء التي منحني فضولها الشجاعة لتبرير ملاحظتها الفطنة:
- آنستي كل شئ حزين في بلادي حتى المشروبات. انفجرت هي ورفيقها بالضحك ودفعا ثمن ماشربا وتركا القهوه.
عدت لكراستي وحاولت ان اكتب بعض السطور من مقالتي القادمة ولكن صورة النسوة وهن يتمايلن ويغنين على اصوات الدف داخل ذلك المنزل عادت الى مخيلتي وسلبتني مقدرتي على الكتابة، تبا تبا! لو كانت معي الان الف ممحاة فلن اقوى على ازالة الخيالات التي ترتسم على ورقة كراستي البيضاء، اختلاسي النظر اليهن اختلس مني حبر قلمي.
بعد ان يأست من قدرتي على الكتابة تركت المقهى وواصلة السير في الشارع المحاذي للجامع الاموي، احب هذا الطريق جدا وكنت اتمتع كثيرا وانا اصعد او اهبط درجتين او ثلاث كل بضعة امتار اقطعها، فالطريق لم يكن بمستو واحد وفيه صعود ونزول دائمين فرضته تضاريس الارض في هذا الشارع. كانت تستوقفني محلات الانتيكا المتناثره على الجهة المقابلة للمسجد، حيث لم اعرف مكانا في دمشق يمتلأ بالسواح كهذه المكان. لون بشرة السائحات الشقر كان في وفاق تام مع الوان المصوغات والتحف المذهبة التي تعرضها تلك المحال، الذهب هناك كان في التحف والاجساد، ياويلي من يخرجني من جب النساء هذا؟!
3
انتهى بي ذلك الطريق المحموم الى ساحة كبيرة يشترك فيها الجامع الاموي مع بقايا معبد جوبيتيرالاغريقي، كانت جموع من المصلين تتدافع للدخول الى الجامع، وقفت لبرهة في تلك الساحة اتامل كيف جمع التاريخ هذان الضدان، واخذت تترائى امامي صور حوريات زيوس بزيهن الاثيني الباذخ وهن يصدحن يترانيم الحب والخلود بين اعمدة ذلك المعبد، حقا مااغرب تحولات الزمان التي اشركت اناشيد الاغريق مع صلوات العابدين !
لا ادري لم شعرت بحاجة عميقة لدخول المسجد والصلاة، وقفت لبرهة امام المدخل المقابل لتلك الساحه، تسمرت قدماي وكأنها مقيده باطنان من الحديد، لدي رغبة في البكاء لساعات، مالذي يحصل معي؟! في الصباح كنت اتلضى من الم الاشتهاء والرغبة والان اتلضى من الم الذنب والاحساس بأني اخادع الله.
اقتربت من باب الجامع المفتوح على مصراعيه واسندت راسي اليه لعله يعينني على حمل اثقالي، اصبحت احدق بلا غايه في الباحه الداخليه، وبعد عدة ثوان ابصرت مجموعة من النسوة بلباسهن الشرعي يمشين نحو الموضأ الذي يتوسط باحة الجامع، ذهلت لاني تصورت انهن سيكشفن عن سيقانهن واذرعهن للوضوء، ولكنهن مررن بجنب الموضأ وتحدثت احداهن مع شخص يبدو من لباسه انه من خدام الجامع، ادركت حينها انهن توجهن للموضأ للاستفسار عن مواضع وضوء النساء
- استغفر الله... استغفر الله... استغفر الله. انت في بيت الله ايها المعتوه وتشغلك تلك النزعات البهيميه!! كانت نفسي تلومني بعنف لم اقوى على رده.
حين صرت داخل قاعة الصلاة الواسعه بدات ابحث عن فرجة بين المصلين لاحشر نفسي وسط صفوفهم، اشعر بقشعريرة برد تجتاحني واعلم اني سالقى الدفأ بينهم. لم اكن كذابا ولا منافقا بصلاتي ابدا، فانا حين ارتكب خطيئتي في جنح الظلام لا ابكي عليها امام اعين الناس ابدا. ولا ارجو ايضا تزكية رحلاتي التلصصية بهذه الركعات، لا لا، وانما اعتدت على محاربة قلقي وشكي وجنوني وخبلي وأرقي الدائم بهذه الصلوات المرتجله بين الفينة والفينة.
4
احسست بأني لا املك وسيلة لاتقاء هوسي وشبقي اللامتناهي الا بالانزواء في زاوية او مسجد وحجب تلك الشهوات عن ناظري، ولكن حتى و ان اعتكفت في مسجد او زاوية لربما لن انجو من رؤية مصليات قد يأتين لاداء صلاة او سماع ذكر وهن ملتفعات بعباءات تكشف عن كعوب ارجلهن التي تشعل في دمي غلمة هوجاء .
تركت الجامع وتوجهت نحو سوق الحميدية. بعد ان اجتزت اعمدة معبد جوبيتيروصلت الى سوق المسكية للكتب، حاولت تصفح بعض الكتب المعروضة باهمال على مساند خشبية قد تجاوزعمرها عمرالبائع العجوز الذي كان يقف خلفها، لاول مرة اشعر بفقدان تام لشهية القراءة، تركت المسكية الى داخل السوق الكبير، مرة اخرى يزدحم مشهد الرؤية امام ناظري باعداد لاحصر لها لنساء بمختلف الالوان والهيئات، تخمة النظر افسدت قدرتي على التمييز واصبح لجميعهن الهئية ذاتها. صرت ارى لهن نفس السيقان والنهود والارداف، و?طمست في ذهني ملامح الوجوه والتعابير. آه كم انا متخوم من تلك الصور الخادعه واود ان اتقأيها! اغمضت عيني وتوقفت عن المشي لثواني قليله حاولت فيها اجتثاث الخيالات المؤلمه من ذاكرتي المكتظه بالوهم.
آخر الدواء الكي، ولكني لا اقوى على كي عيوني، لذا لابد أن الجمها كما يلجم الفرسان خيولهم، فواصلت سيري داخل السوق مصوبا بصري باتجاه الارض ومغالبا رغبة جامحه لاختلاس نظرات ولو خاطفه الى من يملكن تلك الاقدام الناعمة التي صارت تمر كأحلام ملونه امام بصري المطرق نحو الارض.
5
لا أ?حب? النهايات ابدا، ولكني في تلك الساعة احببت وصولي الى نهاية السوق حيث اعتدت على استقلال الباص من هناك عائدا الى مسكني. شعرت بوهن وحمى تسري في جميع انحاء جسدي، لذا لم انتظر وصول الباص واخترت ان اركب سيارة اجرة.
بعد ان القيت السلام عليه جلست في المقعد المحاذي لمقعده، واخذت اتأمل لحيته البيضاء التي تخطها بضع شعرات سود خجوله ووجه الذي يحمل قسمات حادة كأنها تعابير لحوذي من روسيا القصيرية اخطأ المكان والزمان فجاء الى الشام ليصبح سائقا لسيارة اجرة تجوب شوارعها ليل نهار. بعد دقائق عدة من انطلاقنا وقبل اجتيازنا لاحدى الاشارات الضوئية مرت على الرصيف القريب من تلك الاشارة فتاة ترتدي سروالا ضيقا جدا اكاد اجزم بانها حين ولدت كان ملاصقا لجسدها وصار ينمو ويكبر معها، ابصرت تعابير الاستياء على وجه السائق واحسست حينها برغبة كي اقص عليه ماصار معي في رحلتي اليوم، ولكنه كان اسرع مني في ابتداء الكلام:
- لا حول ولا قوة الا بالله... اسال الله الستر والهداية لكل اولادنا و بناتنا
لا ادري لمَ لم ?تعجبني نبرته المهاودة في التعليق على لباس الفتاة مما حفزني على ابداء رأيي بدون اي تحفظ او مجاملة:
- فساد الاخلاق والتعري قد اجتاح مدينتنا واصبح كافعى تنفث السم في كل اتجاه ولا مهرب منها الا باعتزال تلك الفتن، مادمنا لا نستطيع فرض اللباس المحتشم على اولاءك النسوة الطائشات لابد من الفرارمنهن، النساء اصل كل شر ياعم والعزلة هي الدواء.
سكت الرجل وضل يقود سيارته بنفس الهدوء الذي كلمني به وقبل وصولنا الى الشارع المؤدي الى البيت، قطع جدار الصمت الذي كان يلتفع به وبدا وكانه يقص علي حكاية من حكايا الف ليلة وليله:
- كان هناك في مامضى من الازمان عابد زاهد يعيش في جبل قاسيون، ليله صلاة وعباده ونهاره تضرع ودعاء، بركاته كانت مقصدا لكل اهل الجبل، وفي احد الايام احس برغبة لزيارة اخ وحيد له كان يقطن في ضاحية من ضواحي الشام ويعمل اسكافيا في احدى اسواقها، اراد ذلك العابد ان يحمل لاخيه هدية فلم يجد عنده مايهدى، غير سلة من السلال التي كان يصنعها من لحاء الشجر، فملائها بماء عذب من احدى ينابيع الجبل وحمل السلة ونزل الى الشام، فجعل الناس يتعجبون من بركة ذلك الشيخ الذي يحمل في سلته ماءا، سبحان الله، بركات العباد لا اول ولا اخر لها، حين وصل الى محل اخيه، ترك السلة عند الباب واحتضن اخاه بقوه وقبله بين عينيه وجلس ينتظر ان يكمل اخاه عمله الذي كان يصلح خفا لاحدى النسوة وبعد ان اتم عمله ناول الخف لامرأه كانت تجلس على كرسي في زاوية المحل و حين لبسته كشفت عن نصف ساقها تقريبا، وقعت عينا ذلك العابد على تلك الساق، فسال الماء من السلة وامتصته الارض سريعا.
اعطيت سائقي العجوز الاجره مضاعفة، فهو قد اوصلني ووعظني! نزلت من السيارة قاصدا جبل قاسيون، فشبقي الابدي بطبوغرافيا تلك الاجساد الفتية لن اقضي عليه الا بزوال اخر امرأه في العالم او زوالي.
د.زيد الحمداني
24\10\
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1557 الثلاثاء 26/10/2010)