نصوص أدبية

موعد مع الجسر / جاسم الصافي

وقت تجمد نبضه في كهف النسيان وابتلع من عمره الكثير حتي شاخت ذاكرته. سنين وهو يستجدي السؤال عن أمكنة كان يالفها....انه القدر يقرع أجراس الانتباه في صندوقه المتورم بالأحداث........... حين حبسه في جسد كمسخ كافكا، ووجد الكل يشير نحو عجزه، فيصرخ بهم من أعماقه بصوت غوركي: (الإنسان لا يستحق الشفقة بل الاحترام) ..........كان ممسكا عكازه يرتكز عليها حتي تثقب الأرض لثقله... ويقفز الخطوة تلو الأخري. إن القدر ركله وتركه هكذا مشوها وشاهدا علي ما جري. لماذا لم يكن هناك حيث الجسر مع البقية؟ لا أن يترك هكذا يغص بالذكري وتصفعه عيون الآخرين مشفقة أو مستهينة. أوقفته المشاهد حينها وتذكر قول صديقه وعيناه الزرقاوان تختزلان كل صداقتهم بحزن بعيد، يبين عمر الزمن الذي أقعده معه في غرفة الطوارئ.

- نحن لا نتسامح مع ............. لأنه حاضر في كل ما يجري لحظتها، يسري دافئا بدفء دماء لتوها تسيل، يسري مع دموع الأيتام وعرق المجندين ودماء العذاري إن مسها الغاصبون .............. يبدأ حضوره بخوف وقشعريرة، بدندنة محزنة، يرقص جميعهم حوله فينقر من حبات القلب كعزف العود، ينقر علي أعلي نوتة وتنساب ريشته فوق الأوتار مسرعة كالنزف. هذا هو ركض القدر حين يتخبط في زحمة أهوائه. ظل الصديق صامتا حتي أحس إن الدمع لن يتوقف، لذا خرج مسرعا كي لا يراه وهو يبكي انه لا ينوي العوده الي سابق عهده هذا ما أحس به الصديق أعادة الكرة ذات مرة قائلا له:

- إن ما تعتقده خرافة أو حلم، دعه يعبر ولا تجعله يعترض في كل تفاصيل حياتك، آن لك أن تستفيق، أن تترك همومك وخيالك علي هذا السرير وتفصل بين الواقع وما أنت عليه، فلست أول أو آخر من بترت ساقه أو فقد حبيبه، كن معنا، لا تتوهم أكثر وتحمل همومك الصخرية علي أكف زجاجية..

حينها أجابه وهو ممسك رأسه بين يديه، كأنه يخاف أن يسقط وابتسامة الاستياء واضحة عليه.

- رائع أن تكون هكذا. منذ متي وأنت تفهم الأمور بهذه الطريقه؟ منذ متي تركت أحلاما كنا نرقصها وأفكارا كانت تكبر قبلنا وأياما نصفها حتي اكتملت لنا عمرا؟ أقولها لك كلا، إن الحقيقة لم تعد علي حالها مطلقة، إنها متميعة مع فهمك اليوم.

كان يتكلم وعيناه تتلالأن بوضوح تلك الكلمه، وأكمل حديثه: لقد قالت لي ذلك أمها كما تشهد ساقي المبتورة وأنت...وهو يشير بإصبعه نحو الصديق: تعلم ذلك لقد أمسكت يدها العجينية، قبلت وجه الشمس بشفاهها النارية، شكوت لها، احتضنتني بهمومي.كانت دافئة كاله أدمجت روحه بروح العبيد وراح يتلوي من مطالبهم، وحين رددت لي قصائدي نظرت الي. سالتني:

- لماذا تكون كقصائدك حزينا هكذا؟

وقتها قلت لها.

-أنا..أنا معك لا اعرف الحزن، رغم إنه يولد ويكبر معنا، وحين نموت نورثه لمن بعدنا. أنا معك اطرد كل وفود يومي ولا اعلم بمَ أقيس فرحي ومناي، وتنتصب كل الأمور كمترادفات ترتطم من فوقي ومن تحتي، وحتي لو عصفت بكل ما حولي، أبقي أنا الثابت أمام كل المتغيرات لأنك جذري نحو عمق الوجود، فأنا اعرف الحزن ولكن بطريقة سهلة حين يكون طعما أتذوق به أفراحي أو عكازا تنتصب عليه أمالي.

نعم، إنها السبيل كي أكون والا لأصبحت مهموما موصلا للضجر. والآن يا صاحبي هل تستطيع هضم الحقيقة التي وصفتها لك من قبل؟ ولأنك لم تعشها تكفر بها باستمرار، أما بالنسبة لي، فهي الحقيقة الوحيدة في هذا الكون: إن الحياة تأكسدنا تتراكم علينا حتي نرضخ والحل الوحيد هو أن نقفز فوق كل هذا، ليكون سطرا عابرا إمام الحقيقة أو فرضا نرضي به واقعنا... اليست هذه من الحقيقة يا صاحبي لابد أن تكون كذلك والا لختمت بمن قبلنا وانطوي البحث عنها بقي صديقه مسندا رأسه الي زجاج الشباك ومن ثم انتفض.

ـ انك لأتعلم ما اعنيه، فأنت ما أبقيت لي شيئا أو منفذا الي واقعك، أنت تهرب منه بحصان طائر لم تلامس أقدامه أرضنا. قاطعه مجيبا

ـ هذا لأنك لأتملك شيا مما اسمعه. وهو يشير بإصغاء نحو البعيد فيقول: أنه هناك حيث ذاك العالم.

تقدم الصديق نحوه وجلس علي السرير وهو يقول له.

ـ لماذا إذا أنا وحدي من تكلمه لماذا؟... أنا من هذه الأرض لست من المريخ الذي تنحدر منه سلالتك. انك تبتعد عنهم وعني، عن كل ما حولك، ولكن الي أين الي أين لا اعلم...........

أفاق حين تهشمت بلورة الذكري، وهو يحول كوم اللحم المنهكة من العكاز الي قدمه و يصغي الي شيء بعيد، شيء يبتدئ عزفه بالضرب علي أوتار العود بقسوة تصم أذانه ويستمر حتي يحترق ما بداخله فتدنو نشوة، الالم بغيوم سماوية تعبث في حواسه ويحلق الي حيث يجلس هو هناك وهو يري الأسود والأبيض كما في أحلامه وكوابيسه، ليتعري أمام حزنـــــــــــه تنهال عليه سياط التعب ليري. نعم، إنه هــــــــــــو من يراها... رؤوس تتطاير. تحملها ريح العصف الي البعيد. الي أين؟ الي البعيد، فتلتحق بها ضفائر. أصابع ابتسامات تطير مع اعتقادها السابق وقطع من اللحم صغيرة تنبض بالحياة رؤوس لازال لديها الوقت كي تتكلم واكف بقيت ممسكة علي الأشياء، والقضبان الكونكريتية تطرز طراوة الأجساد، فهو قدر ينظر بغباء لما حوله، حينها يصبح كل شي كخرق بالية بفعل الانفجار فتمتزج الدماء بكل الالوان.. الوان مجنونة تخترع مزجا في كل حين وتعبث، تعبث حتي تقذف شهوة بلون الاحتراق. وحده هو الصمت واقفا لجنبه يسطو علي سمعه ويراقبان سرعة وجنون الأشياء ويسمعان صراخها الأخرس الذي لن يستفيق منــــــــــــــه أحد...........

كان قد ترك رسالة لصديقه واصفا بها عجزه وخراب روحه وصعوبة إن يبقي وفي أخرها يقول له:

( كل ما احتاجه ذبابه لتملا إزعاجي أكثر مما ينبغي فانتحر)

أحس الخدر يسري في ساقه اليتيمة وبدأ يتخشب والعرق ينضح من كل أنحاء جسمه حتي وصل خراب الجسر. كانت العصافير تبني أعشاشها. هناك وقف وهو يري دماره وغشاوة الدمع تحجب عنه باقي الأشياء الا وجه النهر، فهو يرسم له أشكالا تثقب رأسه برصاص الذكري قالت له:

_ لماذا تنظر الي هكذا؟ إني أتحرج من نظراتك هذه، إنها لصوصية تبقيني مقيدة،ابحث عن مهرب منها وتصبح يدي زائدة لا اعلم أين القي بها، أنت تقتحمني حتي أسراري المخجلة..........

عيناه تتسعان لصور الماضي وهي تبتسم حين تمر به، عذبة تداعب إحساسه بغريزة بدائية يجهلها، فلكل دين يضع الرب فروضه وواجبات لعبادته الا هذه الأحاسيس تكتشف صلواته يوما بعد يوم، فهي تولد فينا بالفطرة لا نتكلف عناء البحث عنها لأنك تكون مقشرة أمامنا كالمحار.............. أبكته وهي تمر عليه نسمة تقبل ماء النهر وتستفز أنفاسه بعطرها لتساله: أتذكرني؟ لكنه عبثا حاول أن يبقيها ليتأكد حينها، فضجيج العزف اخذ ينقر مرة أخري في سمعه. هذه المرة العود يطبل بإيقاع قبلي، فاندفع هو الي جرف النهر وواصل مسيره في الماء، ومرت من بين ساقه والعكاز خصلة شعر، تذكر أنها مازالت هنا في عمق النهر حتي وصل الماء ما فوق ركبته وهو مازال يري وجوه كان قد ودعها مع ساقه وإشكالا هلامية ترجعه الي سحب الدخان التي تلطخ ذاك المكان بزينة المتشردين ورذيلة الباقين. كان العزف يداعب أذنه باستخفاف حتي أخذت تتكسر رؤاه وتنقسم الأشياء من حوله فتتوقف، انه نداء الأزل لنهايات البشر، وهو يتنفس رائحة الشواء الآدمية التي تبخر المكان بذكر ما جري فتطعم تذمره بالرغبة والإقدام للنهاية، فهي الحقيقة التي يتركها البشر راقدة في قعر الخوف المستوطن فيهم منذ القدم. تقدم أكثر فأكثر ورفع عكازه عاليا ورمي بها وراءه الي اليابسة، أختل توازنه وقعد علي عجيزته في الماء لكنـــــــــــــه لم ينهض بل تمدد حتي اختــــــفي أخر شيء من جـــسده......

وبقيت تلك العصافير تغرد بعد ما أضناها التعب وهي فرحة باكتمال أعشاشها.

 

[email protected]

 

 

 

 

في نصوص اليوم