نصوص أدبية

رواية صفحات من سيرة المبروكة (2)

الليل ملك له ولعبيده، فما أن ترخي العتمة سدولها حتى تظهر خيله في الطرقات .. عبيد يعتلون صهوات الجياد، تتدلى سيوفهم المرصعة، وأحينا بنادقهم الطويلة .. أما كرابيجهم فتطال كل من تصادف وجوده أمامهم .

كان والدي يحذرنا من الاقتراب إليهم، أو التعرض لهم بكلمة أو فعل، من دون أن يبدي لنا الأسباب لكن الرسائل كانت تصل لما فيها من خوف واضح، إلى أن صحت البلدة ذات صبح ولا أثر للوالي أو عبيده فيها .. هكذا وكأن الأرض انشقت وابتلعتهم، مما أثار استهجان الناس وحيرتهم وفجر سيلا من الأسئلة والتقولات . البعض تحدث عن استدعاء من قبل البلاط العالي، والبعض همس محدثا عن مؤامرة قادها العبيد ضد سيدهم، وقلة هم من عرفوا بواطن الأمور .  لكن الجميع سعدوا بهذه النهاية التي لم يتوقعوها، دون أن تعنيهم الطريقة التي غار بها، مع أن الطريقة بدأت بالتكشف يوما بعد يوم، وراحت تشيع في البلدة، كانت في البداية همسأ، ثم أصبحت مواويل تغنى في الأفراح، ومع ذلك فإني أزعم بأنني من أوائل العارفين بتفاصيل الحكاية منذ أن أسدلت  الستارة على حيثياتها، والفضل في ذلك يرجع إلى أفعى كانت تفح في مكان ما من ثنايا السطح الطيني الذي أرقد تحته، كنت أسعى جاهدا للإمساك بغفوة تريحني من حالة الأرق التي أطبقت علي من دون داع، فوصلني فحيحها .. حاولت أكثر من مرة تجاهلها ولكن أحاديث أمي عن مردة الجن الذين يسكنون البيوت على شكل أفاع وقطط سوداء، طيرت النوم من عيني وأشعرتني بالكثير من الخوف والتخيلات : ماذا لو عادت هذه الأفعى إلى هيئتها الأولى وانتصبت عفريتا قدماه في الأرض ورأسه في السماء ..؟ ماذا لو تواطأت مع روح رحمة وجاءت تمارس طقوسها في الانتقام؟.. هل سألقى نفس المصير الذي لقيته زوجة أبيها، أم يحل بي ما حل للشيخ محمود؟.

صوت المزلاج الذي أن ممزقا هدأة الليل، أعاد لي طمأنينة كنت أفتقدها قبل لحظات وسعال أبي المعبق برائحة التبغ أضفى علي مسحة أمان .

ـ حليمة .. نادى بصوت منهك .

ـ نعم يا أبو حسين .، ردت أمي وهي تطرد بقايا نعاس علقت بجفونها .

ـ هاتي السراج .

ـ يا إلهي !!، شهقت أمي مذعورة .

قفزت من مكاني مذعورا واندفعت تجاه غرفة أبي، حضوري المفاجئ جعله يمسك عن الكلام، بينما نظراته راحت تتوزع بيني وبين أمي في لحظة صمت، جعلتني أكتشف ما في وجه أبي من كدمات، وما بيده من دماء .

ـ ارجع لفراشك يا ولد .

ـ من شو هذا يا با؟

ـ  وأنا راجع للبيت تعثرت .

انسحبت إلى مخدعي ونظرات أمي الفزعة تتابعني، بينما كلام أبي أصبح همسا بالكاد أسمعه .

- هاتي حفنة سكن من الفرن ألف فيها الجرح .

- يا عفو الله !! .

- اسكتي يا حرمة .

جلبة أحدثها سعي أمي في فناء البيت وتمتماتها كانت تشبه إلى حد  كبير فحيح الأفعى الذي انقطع على نحو مفاجئ، ليفسح المجال أمام خيالات أعادت الرعب إلى نفسي مرة أخرى، فلا أدري من أين جاء ذلك الهاجس ولا أعلم كيف قادني إلى الربط بين غياب الأفعى والحادث الذي أصاب أبي .

هل عادت إلي هيئتها الأولى وأصبحت عفريتا انقض على أبي لسبب أجهله؟  أمي تقول وكذلك المبروك، أن الأفاعي لا تؤذي من لا يؤذيها، ولكن كيف لي أن أعرف حقيقة ما يفح فوق رأسي؟ وقد سبق أن شاهدت المبروك ذات مرة وهو يحوط بالتلاوة والتعاويذ، حول كومة حطب خلف دار أبي محفوظ، اختبأت بداخلها أفعى، فحرمت نساء داره من الاقتراب ناحية الفرن، إلى أن جاء المبروك وتمكن من إخراجها بلا عناء، حذر الصبية اللذين تحلقوا حوله من الاقتراب إليها، أو قذفها بأي من الطوب الذي تسلحوا به، بينما ظل يسوسها بتجل غريب وهو يردد قائلا :  سيري يا مبروكة .، مشيرا بيده ناحية صريف الصبر على الجهة المقابلة والأفعى تزحف ببطء ودلال دون أن يرهبها شيء .

في الصباح التالي أيقظني صوت أمي المفزوع وأنات أبي المكلومة .

ـ أسرع وناد المبروك .

ـ شو اللي صار؟

ـ أسرع في الحال .

قفزت كالملدوغ تطاردني أنات أبي وتعابير وجه أمي المضطربة، كان الشارع خاليا إلا من بعض القاصدين إلى حقولهم وبعض النسوة المنهمكات في حمي أفرانهن، ريح باردة تلسعني ولا أتقيها بغير جلباب بال، تريثت قليلا لألتقط أنفاسي وبداخلي سؤال يتصاعد : كيف ألاقي المبروك في هذه الساعة؟

لم يكن لديه بيت بعينه، تارة يبيت في المسجد، وأخرى في ديوان جدك، وأحيانا في المقبرة وربما تجره قدماه في بعض الأوقات إلى خارج القرية، كأنما أمره مسير بقوة ما .. تعرفه القرية بصغيرها وكبيرها، لكنهم لا يعرفون له نسبا .. بعضهم قال أنه جاء مع الحجيج الآتين من بلاد المغرب وتاه عن ذويه، فظل من يومها في القرية، والبعض قال : أنه من بلاد الحجاز، غير أن أبي قال ذات مرة : عجيب هذا المبروك .. من يوم ما وعيت ع الدنيا وأنا أشوفه على هذا الحال، لا تبدل ولا تغير .

تذكرت يوم أن جاءنا المبروك قبل عام ونيف، شيخ في الستين من عمره طويل من دون انحناء، ممتلئ بدون ترهل، ذو لحية بيضاء تلامس صدره وتتخلل في كثير من الأحيان حبات الخرز التي تزين أكثر من عقد يتدلى من عنقه .. بشوش الوجه رغم العصا التي تلازمه  ويوظفها في أحيان كثيرة لتهديد الصبية الذين ينغصون عليه أحيانا، فيهددهم بقلبها أفعى تلدغهم تارة و تارة أخرى عفريتا يمسخهم .

جاء يومها لاهثا وصاح من عتبة الدار : حيّ، فارتجت جنباتها وتشبثت أنا وأخي بتلابيب أمي التي تشبثت بدورها في عامود السقيفة وهي تتمتم بصوت متقطع : دستور يا أسيادنا .

ـ قلت لك يا أبو حسين لا تؤذيها .

ـ آه يا مبروك .. رجلي يا مبروك .

يومها أراد أبي أن يوسع مكانا للحمار الذي اشتراه من صديق له، كانت الشمس توشك على المغيب والجو مشبع برطوبة خانقة، شمر أبي جلبابه وربطه على وسطه، ثم أخذ ينظف المكان من بقايا أشياء تراكمت فيه، وبينما هو كذلك إذ بصرخة تند عنه، رفع قدمه على إثرها  وهو يصيح من الألم : نادوا المبروك .

ـ مد رجلك يا أبو حسين .. بسم الله .

تشجعت للاقتراب .. وقفت بالباب وجلا، رأيت المبروك منكبا على قدم أبي يمص الدماء من جرحه، ثم يبصق بها بعيدا، وبين الحين والآخر يمسدها ويتمتم بأشياء لم أفهمها، ثم صاح بأمي كما لو كانت ملك يمينه : يا بنت .

ـ نعم يا سيدي .

ـ أعطيني خرقة .

ناولته أمي أحد أحزمتها،فالتقطه على عجل وراح يشد به قدم أبي، ثم التفت إليها مرة أخرى و قال : زغلول

ـ أيش !

ـ زغلول . كرر الاسم بحدة وامتعاض .

ـ  حاضر يا سيدي .. حاضر .

تبعها ناحية بنية الحمام، مدت يدها بداخل أحد الأعشاش، ثم أخرجت فرخا صغيرا راحت تتأمله بتردد، فانتزعه المبروك وبحركة سريعة من يده، فصل رأسه عن جسده، ثم راح ينتف ريشه وأمي تنظر إليه بخوف وذهول .. دس إصبعه في دبر الزغلول وشقه إلى نصفين، ألقى ما بداخله وقفل عائدا إلى الغرفة حيث أبي ما زال ممددا  يجوح من الألم .

ـ صبرك بالله شوي .

قالها المبروك وهو يبش في وجه أبي، ثم وضع الزغلول فوق الجرح ولفه بخرقة أخرى، أحضرتها أمي بناء على طلبه .

- نهيتك من قبل يا أبو حسين وما انتهيت .. كان سبتها في حالها .

- هو أنا شفتها أصلا .

- يمكن واحد من فراخها ..

- لعنه الله ما أنحسه .

- لا عليك، راح أحوط المكان حتى ترحل عنه .

-  أبدأ بفراخها أولا .

- اطمأن ..  راح يرحلوا معها  .

 

خرج قاصدا الحوش .. دار في المكان الذي أشار إليه أبي .. تمتم بأشياء تخللها رعده المشهور : حي، ثم مضى يلاحقه الصمت،

تكرر مجيئه في الأيام التالية، يقبل من عتبة الدار هاشا باشا، يمازحنا .. يستفسر من أمي عن حال أبي قبل أن يعرج على غرفته، أو بالأحرى قبل أن يأتيه صوت أبي مناديا : أدخل يا شيخ .

يلبي النداء على عجل .. ينكب على أبي معانقا، كأنما التقاه بعد طول غياب .. يسأله عن حاله، ثم يبدأ برفع الضمادة، فتتساقط الديدان من بين يديه  بالمئات .. بل آلاف فلا تعرف من أين أتت ولا كيف اتسع لها ذلك المكان والزغلول بقايا عظم نخرة لها ريح كريهة  تزكم  الأنوف، يناولها لأمي بحذر ويستبدلها بأخرى . . ثلاثة أيام وانتهى الأمر، عاد أبي إلى مزاولة أعماله وكأن شيئا لم يكن .

  طرقت باب جدك الشيخ إبراهيم، يحدوني الأمل بأن أجد المبروك عنده، فطالعني  بوجه ذابل تغلفه زرقة لم آلفها به من قبل وبشيء من الارتباك سألني قائلا : كيف أبوك؟ .

- تعبان يا جدي .

- انتظرني حتى  أروح  معك .

- والمبروك كمان  .

- المبروك قصد بيت الوالي .. روح يمكن تلاقيه هناك .

  بالفعل وجدته هناك .. لم يكن بمفرده، بل كان حوله خلق كثير، ربما استدعاهم حضوره الغريب وربما تصرفه الأغرب، لدرجة أن حال الخوف بينهم وبين الاقتراب منه، كان يحوم حول البيت على نحو هستيري وبين الفينة والأخرى يقف مشيرا إلى البيت , يتمتم بأشياء لا يعرفها سواه، يصيح بملء فيه : حي، فيرتد الناس مذعورين إلى الوراء .

سؤال ظل يطارد المذعورين من حوله : ماذا لو خرج الوالي أو أحد عبيده في هذه اللحظة الغريبة؟ .

لكن الغياب كان حاضرا وأهل البيت قد غادروه .. توشحوا عتمة الليل ومضوا دون أن يشعر بهم أحد وحين اكتشف الناس ما خفي عنهم، ازداد الأمر غرابة وعلت التساؤلات تحوم في النفوس من جديد : كيف خلا البيت فجأة من قاطنيه؟ و كيف علم المبروك قبل غيره بالأمر؟ .

صحت بكل قوة : يا مبروك، فالتفت ناحيتي مذهولا، كأنما استهجن أن يخرجه أحد من حالة الغياب التي يعيشها ؛ أو لعله استهجن وجودي في المكان، أعدت النداء مرة أخرى، فأقبل نحوي مهرولا وسألني : عساك بخير؟ .

- أبوي .. أبوي راح يموت يا مبروك .

- حي .

صاح بملء فيه ودار حول نفسه عدة دورات، ثم انطلق وأنا أتبعه إلى أن وصل عتبة، فصاح بها مرة أخرى، حينها جاء صوت جدك من الداخل داعيا: أدخل يا مبروك .

انحنى على أبي بادي الفزع، راح يمسد وجهه براحته مرددا : بسيطة بإذن الله، ثم غاب في دورة من التمتمات، كأنما يخاطب قوما بيننا ولا نراهم .

  بعد يومين استعاد أبي عافيته، لم تبخل عليه أمي  بأنواع الطيور، التي راحت تتناقص بشكل مضطرد، وبالطبع لم يتغيب المبروك طيلة الأيام التي رقد فيها أبي، بل لم تفته أي من تلك الوجبات الدسمة، وهو المحرض الرئيسي عليها (غذيه يا بنت، المرق يرم العظم ويزيد العافية)، في حين كان عمي الشيخ إبراهيم قليل الترداد، رغم حرصه الشديد على الاهتمام بأبي،  لكن أمرا تكشف لاحقا، أبان لي سر مجيئه المتقطع في هذا الظرف بالذات، ففي واحدة من زياراته سمعته يهمس لأبي : أتظنه مات؟ .

- يمكن .

لم أعرف حينها من المقصود ولكني أدركت بأنهما يخفيان سرا، جعلني أربط بين هذا السر وما أصاب أبي ولا أدري كيف قفز إلى خاطري ذاك السؤال : هل حاولا قتل أحد ما؟ .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1091  السبت 27/06/2009)

 

 

في نصوص اليوم