نصوص أدبية

الحان بلا آلات*

ابتسم ضاحكا وهو يقرأ سطور الدعوة التي نمت عن حماسة مرسلها. أعادها إلى الظرف وألقى بها فوق المائدة، بعد أن عاد بأدراجه نحو جنته الجميلة. المحاطة بالورود، والعصافير تملأ أجوائها تغريدا مستمرا. شرع من أيام خلت في استجمام غرائبي خاص. يريح به أعصابه، ويفرغ رأسه من صراعات أفكاره، وهيجانات ألحانه.

خصوصا وأنه افرط في تأليف الألحان في الفترة الأخيرة. كما وانه ألقى دروسا موسيقية على تلامذته تتعلق بأربع آلات عزف. وبعد أن استشعر تعبا وثقلا ذهني عاصف قرر الانصراف إلى عالم سكوني خالي من أي تركيز أو تحليل. ورغم شعوره بفراغ رصيده اللحني في داخل بنك مخيلته الموسيقية وحتى أيام تالية. لكنه تذوق طعما من الارتياح الخفي، حيث استرخى بكل يسر وسهولة ولن يضطر للانزعاج من الأنغام الهابطة عليه من عالم مجهول التضاريس في اليقظة والمنام. وشعر بأنه سيفوز ولابد باسترخاء تام كان في أمس الحاجة أليه منذ فترة طويلة. اعد لنفسه كوبا من عصير البرتقال البارد، وجلس في جنينته يتنسم روائح الورود وشجيرات السيسبان والأشجار الباقية مختلفة الأنواع والأحجام. أطلق العنان لنفسه في أن تعب من هذا العالم المتحرك في فضاءات السكون. استلقى على سريره بجانب مسبحه الكبير، سابحا بدفء الشمس مستظلا بظلال أشجاره. طار بنظره إلى تخوم السماء، إذ كان السقف الشجري مرصع بنجوم الفراغات الورقية التي تخللها ضوء الشمس من فوقه. وحلق في رحلة سماوية متلألئة الخطوات، ظل محلقا فيها حتى ظن إنها لن تنتهي ابدا.

تقافزت العصافير وتحالقت بالأغاريد، وأخذت البجعات تنشر ريشها المبلول على ساحل البحيرة الصغيرة من حوله. وارتفع هدير الرياح المنسابة ببطء، وهي تراقص الأغصان، وتداعب سطح البحيرة فيصدر مائها خريرا شجيا عذبا. انقلب على جانبه الأيمن ممسكا بدلو الخشب القريب من سريره المتحرك، وبدا يغرف الماء ويسقطه من ثم في البحيرة. وقد اغمض عينيه ليتذوق ذلك التقاطر الآسر. ظل يملأ الدلو ويفرغه لمرات، واخير تركه في مكانه ونهض بعد أن تمسك بالأغصان المتدلية قريبا من رأسه، واتجه إلى الورود التي سورت حدود جنته الصغيرة. سحب البساط البلاستيكي المنطرح تحت الورود، وسحله عائدا به نحو سريره. اضطجع هناك مجددا، وامسك حفنة من وريقات الزهور المتحاثة واخذ يطوح بها ببطء بعد أن رفع يده إلى الأعلى. فتهاوت الوريقات على جسده العاري تقريبا، وعاود العملية مرارا حتى تغطى جسده بالكامل. وشرع يستنشق عطرا وروديا جميل،استبدل به عطونة أياما عصفت نتانتها بعالمه الزكي. وتحت الغطاء الزهري لفه انتشاء عذب سيطر على مملكة وعيه، ورويدا رويدا أطاح به النعاس في أحضان إغفاءة خفيفة الوطأة . ومع أول لحظات حلولها دخل في عالم حلمي وردي. كانت تضاريس حلمه عبارة عن غابة سماوية مختلفة الأشجار والورود، وتملأها كل الحيوانات الوحشية والأليفة. ورغم التناقضات الواضحة التي تعج بها ارض الغابة، شعر بتوافق خفي يلف ويجمع تلك التناقضات بشكل عصي على التفسير.رأى حتى الغيلان التي تزأر بصوت قاسي ومخيف، تترك نغماتها الصاخبة انطباعا لابد منه في "أوركسترا" اللحن السريالي الذي بدأت به العصافير والأشجار مع باقي أصوات الطبيعة. فكونت كل تلك الأشياء الجميلة والبشعة موسيقى عميقة الجذور. ظل يتابع تصاعد الألحان في ارتفاعها وتدليها، وفوجئ بأن الألوان أيضا تأخذ بعدا موسيقيا من خلال تحولها إلى نغم مسموع. رأى حمرة الورود تنساب كضربات وترية تشبه أنغام القيثارة. اما الأشجار العازفة بفحيحها مع حركة الرياح كان لها بعدا صوتيا مختلفا، يتصاعد من خضار أوراقها وهو يختلف عن حركة الأوراق بمعزل عن الاخضرار. بدأت الموسيقى تدب في كل ثنايا الغابة محدثة الحان لونية غريبة، لم يسمع مثلها في أي يوم من أيام حياته. وتجلى له أيضا بعدا لحنيا آخر، خارج "بروفا" الألوان إذ ارتفعت أصوات جديدة تشكلت من ريش الطيور وجلود الأفاعي وفراء الحيوانات وقرونها. تتعالى الأصوات الفرائية وتلتف مع أصوات القرون متسارعة، لتهبط بانسياب مع نغمات الريش. وتخلف اثر صوتيا يكاد أن يكون مجسدا وملموسا، مع تصاعد نقرات طبول ترابية وطينية من عمق أرضية الغابة شاسعة الحدود. استغرب في حلمه من كونه لا يستطيع أن يتحكم أو يتصرف بأي شيء، وهو"المايسترو" الماهر، يخص هذه "السمفونية" السحرية. بدا له وكأن كل شيء خارج سيطرته تماما، وانه تلميذ في مرحلته الابتدائية مضطرا إلى الانبهار بعزف الأشياء تلك. هاجت فجأة رياح عاصفة دفعت به عنوة نحو أحد الزوايا، وجد هناك طاولة أنيقة مجهزة بوجبة غذائية خفيفة، وامتلأت بالصحون وأكواب مشروبات مختلفة الأنواع. وما أن شغلها صامتا، شعر بجوع حاد. فراح يلقم بنهم ويشرب من كل المشروبات المنتشرة على المائدة، وحينما يحمل قدحا ما بيده تصدر منه أصوات زجاجية تثور من الملامسة مباشرة. ومع رفعه إلى فمه تثور باقي الأقداح متراقصة فوق المنضدة . وكذلك حينما يمسك الشوكة والسكين، تتعالى أنغام معدنية حادة. ويمتلئ الطقس بذبذبات وشحنات كهربائية ذات احتكاك خفي المصدر. لم يعد باستطاعته أن يمسك أي شيء بيده، بل راحت الأقداح، والصحون والشوكة، والسكين، والملاعق، ترتفع طائرة وتقترب بالتتابع من فمه حسب حاجته. مصدرة أصواتا لحنية مختلفة بشكل منسجم ما يلبث أن يتخالف حيث تبارز الملعقة الشوكة وتدخل السكين بينهما ثم يتصادمن بالأقداح ويرتطمن بالتالي على شرشف المائدة لاهثات ليعاودن التحليق من جديد. لم تخطأ كل الأشياء في أداء دورها رغم ذلك، فهي ما زالت تتابع عملية إطعامه وسقيه، حتى وان التفت إلى باقي الجهات. أتاح له ذلك الدور المتقن للوظائف الشيئية، أن يراقب باقي الأشياء من حوله. ألقى نظره نحو باقي أشياء الغابة الكبيرة، وكانت هي الأخرى قد دخلت في تحالفات وصراعات جديدة. تطايرت بعض ارياش الطيور، ورصعت مساحات فرائية من أجساد الثعالب. فأصبحت فرائها مطرزة بالريش، وكذلك تطايرت خصلات فرائية لتطرز أجساد الطيور الريشية.وطارت قرون من الغزلان والظبية لتحط على رؤوس الطيور، تداخلت الأشياء فيما بينها. رمت الأشجار ثمارها على الورود، بينما شُجرت الأزهار بالأغصان الكثيرة. ومن بحيرة الغابة الملونة تقافزت الأسماك لاهثة فوق الساحل بعد أن أصبحت مجنحة من عقيق الفيلة. وتحولت مساحات طويلة من الأرض إلى تكتلات جليدية خضراء اللون، تزحلقت فوقها الحشرات والزواحف. وبدأت الجذوع تنز عسلا مصفى بدون عوائق شمعية، فتجمعت الدببة الزرقاء تلعق منها بشراهة، بينما حطت الأسماك على ظهورها . واستلقت القرود هادئة تراقب رقص الضفادع على سطح البحيرة، التي    تضاجع بالقرب منها غزالة فتية مع نمر زاهي الألوان. وسط تشجيع الأسود التي تجمعت فوق هضبة مرتفعة، وهي تصفق بحماس . وجموع الحمير الوحشية قصت أشرطة سوداء وبيضاء من جلودها، واستخدمتها كحبال تتنقل بها من شجرة لأخرى. كان كل شيء يضج بالحركة والنغمة دون استثناء عازفة لحن الحياة. استفاق "المايسترو" من نومه، كان الليل قد ألقى سواده الجميل وتلامعت النجوم مضيئة عبق الطقس الرطب . نظر حوله ببطء دون أن يتحرك من على سريره الخارجي شعر بسكون وصفاء باطني لم يشأ أن يعكر صفوه، استدار أخيرا إلى جهة اليسار وعاد يكمل تفاصيل حلم آخر.....

 

* القصة ضمن مجموعة "من طقوس الفنان"

 

8/1/2008

(زفارتة راوتر- لاهاي)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1095  الاربعاء 01/07/2009)

 

 

 

في نصوص اليوم