نصوص أدبية

رواية "صفحات من سيرة المبروكة" (4)

 أذكر يومها أننا خرجنا للرعي كالمعتاد وحين أشرفنا على المرعى طالعتنا خيام لا ندري من أين جاءت ولا كيف حلت في المكان، كأنما نبتت بليل، لم تكن مضارب بدو حطوا في المكان ولا غجر ممن كانوا يأتون على فترات متباعدة، يضفون على ليل القرية روحا ملؤها الصخب والضجيج .. في النهار يزاولون حرفهم المعروفة من سكب وصياغة للحلي وفي الليل سهر وغناء يمتد أحيانا حتى الساعات الأولى من الفجر .

لم يرق الأمر للكثير من أهل القرية، خصوصا النساء منهم، لكن البعض كان يترقب حضورهم على أحر من الجمر، فما أن يشيع في القرية خبر قدومهم، حتى تراهم يتسحبون خلسة .. يتوارون عن الأنظار ما استطاعوا ولكن من دون جدوى، ففي القرية لا يخفى خاف على أحد، خصوصا في مثل هذه الأمور، فإن كتمها الرجال فضحتها النساء، البعض لم يلق بالا للفضيحة، بل كان يتباهى بالحفاوة التي يلقاها في خيام الغجر وأحيانا يسعى وسيطا لدعوة إحداهن لكي تحيي له فرحا أو طهورا، مقابل دراهم معدودة .

كان الأمر مستهجنا في البداية، إذ لم يستوعب الناس وجود امرأة شبه عارية ترقص أمامهم والأغرب من ذلك أن يكون الأب أو الزوج قائد مسيرتها الفاضحة .. يوجه تموجات جسدها وانثناءه علي وقع إيقاعه، دون أن يعنيه شيء من العيون المنغرسة في الجسد المعروض أمامها، تنهش منه بلا إحساس بالشبع، أو بالأيدي التي تمتد أحيانا لتلمس جانبا منه، غير أن الأمر يختلف نوعا ما، حين تند عن الغجرية صرخة تشبه إلى حد كبير غنجا ولكن بصوت مرتفع، يكون سببها يد تخطت حدودها،عندها تتوقف عن الرقص.. تتفحص الوجوه بحثا عن صاحب اليد التي امتدت نحوها، بينما الوالد أو الزوج يبرم شواربه بامتعاض وهو يردد قائلا: على هيك مش راح نشوف شغلنا الليلة .

يتدخل أهل الفرح .. يفسحون الحلقة لكي تأخذ الفتاة راحتها في الرقص بعيدا عن الأيدي المتلصصة، يتجاوب الشبان حرصا على بقاء الفتاة بينهم .. يتذمر البعض من الطريقة التي خاطبهم بها صاحب العرس وصاحب العرس يبدى سخطه من أولئك الذين يسعون لإفساد فرحه، تهدأ الأمور قليلا، ثم يتكرر الأمر وهكذا دواليك إلى أن تمضي الليلة وإن كادت في بعض الأحيان لا تمضي على خير، حتى تداعى شيوخ القرية وعقلاؤها لبحث الأمر، قال إمام الجامع هذا رجس من عمل الشيطان وقال جدك هذه الفتنة بعينها وارتعد المبروك مرددا : يا لطيف .. يا لطيف .. قريب راح يحل علينا الغضب .. يا لطيف ألطف .

التزم الناس بما أقره الكبار، لم يعد للغجر وجود في أفراحنا، لكن البعض لم يلتزم بالمقاطعة وظل يتسلل في ليل إلى خيامهم، إلى أن فاتحني ابن فهيمة ذات يوم برغبته في الذهاب إلى مضاربهم، فاجأني الأمر.. لم أتوقع منه مثل هذا الفعل .. فهو في نظري أصغر من أن يفكر في هذه الأشياء وأن كان يكبرني بثلاث سنين،إلا أن إلحاحه المتواصل وطريقة عرضه للموضوع، أشعراني بأنها ليست المرة الأولى كما يزعم، وحين أدرك ما يجول بخاطري فاتحني بالأمر، وراح يطرحه بصورة مشوقة .. حدثني عن فتاته .. عن جمالها .. عن مفاتن جسدها النافرة بلا قيود .. عن أمها التي لا تعير اهتماما لمداعبتهما وعن أبيها الذي يستبشر خيرا بمرآه، خصوصا إذا ما لمح في يده صرة التبغ، التي يسرقها من كيس أبيه .

اربكني الأمر .. حرك بداخلي شيطانا لم أكن أشعر به من قبل .. تعاون الاثنان على الإيقاع بي .. زينا الأمر على نحو لم أعد قادرا معه على المقاومة .. تسحبت في المساء خلسة وفي جيب جلبابي صرة تبغ سرقتها من كيس أبي بشق الأنفس .. تواريت عن عيون الصبية لكي لا يفضح أمري أمامهم .. سرت إلى المكان الذي أشار إليه .. شعرت بأن العيون تتابعني .. تزفني، وجدته في انتظاري .. تهلل وجهه لمرآي .. سألني مستفسرا : جلبت التبغ معك؟

لم أتمالك أنفاسي .. أجهدني العرق وبالكاد خرجت الكلمات من فمي : نعم .. جلبت صرة صغيرة .

- يله بينا . قالها وهو يمسك بيدي بحفاوة بالغة .

- انتظر .

- مالك؟ .

- خايف حد يشوفنا .

- قوي قلبك.. ما حد شايف حد في هالليل .

- وإن شافنا حد .

- مش راح يقدر يحكي .

- ليش؟ .

- لأنه راح يفضح حاله أولا .

راق لي الأمر وانسقت خلفه دون أن أنبس بكلمة، إلا أن الإحساس بالخوف لم يفارقني لحظة واحدة، كان وجه أبي حاضرا .. عيناه تتابعان خلجاتي بصمت .. ترصدان خطواتي بدقة .. تزغر لي أحيانا أو هكذا شعرت، حتى تملكني الخوف وبت أفكر في الرجوع، فلم يدع لي ابن فهيمه من سبيل . . ساعة ونرجع .. قبل ما تنتهي صلا ة العشاء نكون راجعين .

- لازم أروح في الحال .

- عجيب أمرك .. بعد ما وصلنا !!

- نعم .

- خلينا نحط أغراضنا ونسلم عليهم .. صرنا واصلين .

 ترددت قليلا ثم جاريته فيما أراد، وصلنا المكان .. أقبلت نحونا الفتاة مرحبة .. تهلل وجه أبيها .. رقصت شواربه .. سأل مستفسرا من أكون، فأجابه ابن فهيمه نيابة عني، ضحكت الفتاة وقالت بسخرية : صاحبك أخرس؟ .

أجهدني العرق ولم أنطق بشيء .. شعرت للحظة بأن الأرض تميد بي .. وكزني ابن فهيمه فعدت لتوازني .. همس في أذني : طلع الصرة .

ارتجفت يدي .. جف حلقي .. تسمرت عيناي في العتمة التي تلفنا بردائها الموحش.. أعاد ابن فهيمه مطلبه بعصبية واضحة .. امتدت يدي بشكل آلي وأخرجت الصرة .. التقطها الرجل بفرح باد .. أفسحوا لنا مكانا داخل الخيمة .. ترددت في الدخول، فأمسكت بيدي الفتاة .. قادتني إلى داخل الخيمة .. جلست بجوارى .. مررت أناملها بين خصلات شعري .. لم أحتمل لهيب أنفاسها .. دبيب أناملها سحر يتغلغل في كل خلية من جسدي .. ملمس جسدها البض يلهبني .. يصهرني .. يحيلني جمرة أشد وهجا من أخريات في مرجل أبيها، يمضي الوقت خلسة ولا بادرة أمل للخروج من هذه الورطة .. ابن فهيمه تركني لفتاته تلهو بي وانشغل مع أمها .. ادعى مساعدتها في إعداد الشاي .. بينما يداه لا تكف عن المداعبة والمرأة تشجعه بضحكات غنوجة أو حركة مثيرة .. تحظى بقدر من الجمال .. يزين ثغرها سن مذهب وتنساب على كتفيها خصلات شعر فاحم فتضفي على حور عينيها سحرا آسرا، جعلني إلى لحظة أفكر فيها بعيدا عن تلك الأنفاس التي تحاصرني من كل جانب، حينها أدركت سر انشغال ابن فهيمة وعدم اكتراثه لما يدور، بينما الزوج ظل منهمكا في إعداد لفائفه وإذكاء نار موقده كلما خبت .

لا أدري كيف انتفضت كالملدوغ واندفعت خارج الخيمة .. تبعني ابن فهيمه من دون أن ينبس بكلمة، لوح بيده مودعا وسار إلى جانبي بصمت .

- هذا وعدك اللي وعدتني؟ .

- ما يخالف .. كانت سهرة مرتبة .

- وكيف أعمل مع والدي ها الحين؟.

- ولا شي .. راح نصل قبل ما يتموا الصلاة .

- تمت الصلاة ويمكن روحوا .

- لا تعمل لي قصة وحكاية .

كان أبي يحوم في فناء البيت وأمي تسند خدها على راحة يدها، طرحت السلام وتسحبت إلي غرفتي تلسعني نظرات أبي المنغرسة في ظهري .

 - وقف يا ولد .

رعد صوت أبى ممزقا السكون من حولي، فتسمرت في مكاني غير قادر على الالتفات خلفي .

- وين كنت لنص الليل؟ .

- ك.. كنت قريب بيت الوالي .

 صفعة حطت على خدي، فأطاحت بي أرضا .. شعرت بعدها بدوار يجرفني إلى عالم تغلفه العتمة وشيء يرفعني إلى الأعلى، تلا ذلك صفعة حطت على الجانب الأخر من وجهي وصوت أبي يرعد من جديد :

- وين كنت .. تكلم وإلا قطعتك ورميتك للكلاب .

لم تجرؤ أمي على الاقتراب ولم أكن قادرا على مواصلة الإنكار، وقد بدا واضحا أن أبي اشتم خبرا، لا أدري ما مصدره ويعوزه التأكد من صحته .

- كنت مع ابن فهيمه .

- وين؟ .

- عند الغجر .

- ما شاء الله ! .

- علي الطلاق من أمك، لتبات الليلة في بيت الحمار .

- حرام عليك يا رجل .. يكفي اللي شافه منك .

- أخرسي وما تتدخلي .. هاتي حبل من الغرفة .

 تململت أمي .. حاولت استرضاءه، لم يزده سعيها إلا هياجا .. اندفع إلي غرفته كالسهم .. ابتعدت عن طريقه .. غاب لبعض الوقت، ثم خرج وبيده الحبل .. أمسك بيدي ووضعها وراء ظهري، لف الحبل عليها، ثم وضع الأخرى فوقها، تدخلت أمي في محاولة أخيرة، رجته أن يربطني في عمود السقيفة، بدلا من بيت الحمار، قالت بانكسار : هان أيمن من الزريبة .. بلاش تسبح عليه حية ولا عقربة يا رجل .

- قلت اخرسي وما تتدخلي .

لم يغمض لي جفن ليلتها .. سيرة الأفاعي طيرت النوم من عيني وحركة الحمار داخل الخشة، جعلتها أكثر ضيقا وأحط مقاما.. غير أن ما هون الأمر علي، هو اتخاذ أبي مخدعه في الحوش قبالتي، بينما أمي لم يغمض لها جفن، ظلت راقدة أمام باب الغرفة، تتابع أنفاسي بتحسر وأسى وحين تتحين فرصة تقترب للسؤال عن حالي وفي كل مرة يضبطها أبي ينهرها محذرا : أرجعي وإلا ربطك مكانه .

- حرام عليك يا رجل . قالت وهي تكفكف دموعها .

- حرمت عليك عيشتك .. بدك تخربي الولد .

ارتفع أذان الفجر مبشرا بصبح جديد .. تململ أبي في مخدعه .. سبح وحوقل .. صاح على أمي .. هرعت إليه بوجه ملؤه الرجاء ويد تمسك بإبريق الوضوء .. أنجز المهمة بصمت واتجه نحو الباب، أوقفته أمي .. رجته مرة أخرى .. أزاحها من طريقه ومضى .

عادت يعصرها الألم .. دخلت الخشة .. ضمتني إلى صدرها .. بللتني الدموع المنسابة من مقلتيها .. لفحتني أنفاسها .. خرج صوتها مبحوحا . . مجروحا.. يقطر غصة وألما : عاجبك اللي صار.. هذه أخر تربيتي فيك؟، لم أملك الشجاعة على الرد .. لم أجد الكلمات .. ضاعت أمام قسوة اللحظة .. لم أستوعب ما حدث، حتى في أبشع الكوابيس لم أكن لأتخيل أن يصل الأمر بأبي إلي ما وصل إليه .. لكن ما حز في نفسي أكثر، هو ما حل بأمي من بلاء .. كنت أراها تذوي أمام ناظري .. تنصهر كالشمعة ولا تملك شيئا من أمرها .. عقدة الذنب أدمتني أضعاف القيد الذي لف معصمي .. لكن شيئا جميلا نما في أتون الفاجعة .. حبي لأمي تضاعف كثيرا عما سبق، لم أكن أدري أنها على هذا القدر من العطاء .. من الحب .. من الحنان ..ولكن يبدو أن العواطف تتجلى في اللحظات العصيبة .

صر الباب فانسحبت أمي إلى الوراء، جاء صوت أبي منبئا عن قادم برفقته : أدخل يا شيخ .

_ يا رجل اتق الله . ثم اندفع نحوي وراح يفك القيد .. بكيت رغما عني .. لا أدري كيف انساحت الدموع كالسيل على وجهي .. دخلت إلى غرفتي دون أن يعنيني تقريع جدك لأبي ولا قبلات أمي، التي ظلت إلى جواري يومين متتاليين وأنا طريح الفراش .

لم يكن الأمر هينا بالنسبة لي، لكن عزائي الوحيد في كل ما حدث، تمثل في عدم معرفة أي من أقراني بالأمر، وإلا كانت فضيحتي على كل لسان، إذ لم يسبق أن تعرض أحد في القرية لمثل هذه العقوبة وظل خوفي من زلة لسان تصدر عن جدك في الديوان، هاجسا يلاحقني حينا من الدهر، لدرجة أني أصبحت أتحاشى اللعب مع الأقران ولم تعد علاقتي بابن فهيمة، كما كانت عليه من قبل، حتى أن الراعي البدوي لاحظ الفتور الذي بيننا، حاول جهده معنا، لكن الصد كان من قبلي على الدوام، فالجرح الذي أحدثه كان أعمق من أن يدمل بسهولة، نظرات أبي المرتابة مبضع يلهب جرحي، فيدميه من جديد، إلى أن كنا ذات يوم جلوسا تحت السدرة، نتابع باهتمام حركة دؤوبة في الخيام المقابلة، عربات تأتي وتروح .. خيل تدور حول الخيام .. نساء بملابس قصيرة وأحيانا تماثل الرجال .. خيام ترفع وأخرى تنقل .. نداءا ت تعلو وأخرى تجيب، من دون أن نفهم شيئا مما يدور بينها و نساء من ( الكوبنية ) المجاورة يحملن المياه وأشياء أخرى إلى الخيام النابتة بقربنا .

 تسحب ابن فهيمة كعادته قاصدا الوادي .. لم نشعر به إلا حين أصبح على مقربة من المكان، حينها شاهدنا فرسانا يندفعون نحوه .. شعرت بانقباض .. صاحوا عليه بلكنة لم أفهمها، لكنها بدت عدائية.. تذكرت ما حل به قبل فترة على يد أتباع الوالي .. تصاعدت مخاوفي .. فاتحت البدوي بها، فرد بامتعاض يشوبه التوتر : أي ياويلي ! .. هذول إنجليز .

- إنجليز !! ومين يكونوا؟

- ما أدري؟

طال انتظارنا ولم يعد ابن فهيمة .. أوشكت الشمس على المغيب ولا بصيص أمل يلوح في الأفق، فكرت في الذهاب إلى المكان والسؤال عنه، لكن الراعي حذرني من فعل ذلك قائلا : يمكن يحطوك جنبه .

- اللي يصير .. يصير .

 - مجنون أنت ! .

 - مش راجع من دونه .

 - أصبر شوي وإذا ما رجع نبلغ شيخ قبيلتنا .

شعرت بالارتياح لبعض الوقت، لكن التوتر عاد يغزوني من جديد، فالشمس تدلت تلامس راحة اليد وليل بدا زحفه البهيم من حولنا، لم يعد أمامي من خيار سوى العودة، فالليل خطر على الأغنام وأهل البلدة لابد قلقون الآن .

بدأت في التهيؤ للإياب وشعور بالخيبة يملأ نفسي، شعر البدوي بما يراودني، فتبرع بمرافقتي إلى أطراف البلدة، نادى على أحد أبناء عشيرته .. طلب منه أن يضم غنمه إلى قطيعه، ثم جاء يسوق الأغنام معي، لم نمض سوى بضع خطوات، حتى علا صهيل الخيل من خلفنا، توقفنا لنستطلع الأمر .. حجبت العتمة عنا هوية القادمين .. تسلل الخوف إلى مشاعرنا وإذ بالخواجة يعقوب ينادي من بعيد : عندك يولد .

تبدد خوفنا .. كنا نظنهم إنجليز في البداية، لكن حين توقفوا بقربنا اتضحت الصورة، الخواجة يرافقه ولداه ومن خلفه ابن فهيمة، الذي قفز نحونا مهرولا، تعانقنا طويلا .. انهمرت دموع الفتى وهو يغمغم قائلا : بهدلوني أولاد الكلب .

- اسمعوا يا شباب، من اليوم وطالع لا رعي ولا مرعى في هذا المكان .

- ليه؟ .

- أوامر الميجر .

- ميجر !! .

- نعم .. الميجر قائد ( الكانب ) .

- وين نرعى هذه الغنم؟ .

- لو كان الأمر بأيدي لأختلف ولكنه خرج من أيدي .

- و العمل؟ .

- بلغوا المختار بالأمر عشان يحضر لمقابلة الميجر والتباحث معه، راح يلاقيني عنده وربنا يجيب اللي في الخير.

كان الليل قد أرخى سدوله وخيم صمت بهيم من حولنا، لكنه لم يحجب مرارة الأسئلة المنسابة في ذواتنا .. لم أتجرع كلام الخواجة ولم تعجبني نعومته المغلفة بخبث واضح .. حتى شفاعته لأبن فهيمة بدت مصطنعة،إن لم تكن مدبرة .. صحيح أنه لم يسئ إلينا في يوم، إلا أنه المستفيد الأول مما حدث وصحيح أنه لم يفوت فرصة إلا وجامل القرية فيها بحكم كونه مختار الكوبنية، إلا أنه كثيرا ما جاءها شاكيا تصرف بعض الرعاة وتعدياتهم وإلا لماذا يحق له وأتباعه أن يسرحوا ويمرحوا داخل الكانب وخارجه ولا يحق لنا الرعي بعيدا عنه !، عجيب أمر هؤلاء الإنجليز !، من أين جاءونا وماذا يريدون منا؟ .

خرجت من دائرة أفكاري على صوت جلبة قابلتنا عند أطراف القرية، لم يفاجئنا الأمر إذ كان واضحا لنا جميعا، بأن تأخرنا في الإياب، سيدفعهم جميعا للخروج والبحث عنا، فلم تزل حادثة اختفاء يونس ابن الشيخ مسعود كابوسا يؤرق القرية، أسبوع بأكمله والقرية تبحث عنه، تجند الصغار والكبار للمهمة ولكن من دون جدوى، توزعنا في الشعاب المحيطة بالقرية .. فتشنا في المغر القريبة ولم نعثر على شيء، كنت ابن عشر يومها، لكني أعي وأدرك ما لا يدركه الكثيرون من أقراني، إذ لم يفتني حديث بعضهم عن مكيدة دبرت في ليل، ألمحوا فيها عن شكوكهم بأخوة جميلة، فاتحت أبي بالأمر، فحذرني بشدة من الإنصات إلي هذا الهراء أو التعاطي معه، لكنه عجز عن إسكات الآخرين، ألسنة الناس لازالت رطبة بما كان بين العاشقين .. عين الماء تشهد على حكاياهم .. مواسم الحصاد تحفظ أغانيهم ..يتردد صداها على كل لسان، حتى حين أصر أخوتها على منعها من الخروج .. ظلت الحكايا تتوالد، وحين اعترضوا على خطبة يونس لها، جاءت النتائج معاكسة، فأرسلوا من يحذره .. كاد الأمر أن يوقع بين الأسرتين، لولا تدخل العقلاء في اللحظة المناسبة، إذ لم يستوعب يونس الأمر، صاح في الجاهة محتدا : الله أكبر يا ناس .. خطبناها على سنة الله ورسوله يا ناس ورفضوا .. ما هو اللي باقي لهم عندي؟ .

- لا تجيب سيرتها ولا تتعرض لها .

- ناقص تلجموني؟

- الكريم يلجم نفسه .

- كل واحد عارف حاله .

- أسمع يا يونس. قال والده محتدا، ثم التفت ناحية الجاهة يهزه الغضب وقال: اسمعوا يا جماعة، ما عاد بيننا وبين هذول الناس رابطة، لا قرابة ولا جيرة ولا يحزنون، هذا حدنا من حدهم .. بلغوهم بهذا ويكفوا شرهم عنا .

جاء اختفاء يونس بعد شهر من هذه الواقعة .. خوف آل جميلة من إلصاق التهمة بهم، دفعهم لمضاعفة جهودهم في البحث، نظرات الريبة من حولهم جعلتهم يخاطرون أكثر من غيرهم، حتى إلحاحهم في التوجه خارج نطاق القرية وتحديدا داخل مغارة الضبع، جعل الكثيرين يبدون اعتراضهم، لكن إصرارهم كان أقوى، مما أجبر الآخرين على النزول عند رغبتهم

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1106  الاحد  12/07/2009)

 

 

في نصوص اليوم