نصوص أدبية
صفحات من سيرة المبروكة (5)
.. يكمن لهم بقرب الوادي، ثم يستفرد بمن ضلت خطاه..يرشه بالبول فيضبعه، لم أفهم المغزى وحين سألت أبي قال: يضبعه .. يعني أن يسلبه إرادته .. أن يجعله تبعا له وفي أحيان كثيرة يهيئ للمضبوع بأنه يتبع أمه أو أباه، وربما يناديهما بالاسم، ثم يقتاده إلى مغارة في سفح الوادي حيث تكون نهايته .. البعض تحدث عن جماجم وعظام يمتلئ بها المكان .. عن حلي ومصاغ تفوق ما لدى الوالي والبعض أعاد إلى الذاكرة قصة خديجة ، التي تداركها أهلها في اللحظة الأخيرة .. كان أبوها عائدا بالصدفة من دار أخيه.. هم بالدخول إلى داره، فاستوقفه صراخ من مكان قريب .. حدق في العتمة، فلمح الضبع عائدا من عين الماء .. كان يركض بضع خطوات، ثم يتريث قليلا ويلتفت إلى الوراء، تحدث الناس كثيرا عن وروده على عين الماء، لكن الأمر ظل في طور الأقاويل مع كل ما حمل من مخاوف، تأكد الرجل أن ما يراه ضبعا وليست خيالات.. صوت الصراخ المقترب بدا أكثر وضوحا .. اندفع الرجل نحو الفتاة .. أمسكها .. تفلتت منه .. ظلت تصيح بملء فيها: يا با والرجل يضمها إليه وهو يردد بهلع: أنا أبوك .. أنت معي .
والفتاة تتفلت موجهة أنظارها صوب الضبع المتربص على مقربة من المكان ..
خرج أهل البيت على صوت الصراخ .. تدافعوا متسلحين بعصيهم وسيوفهم .. صاح الرجل حينها: الضبع .. أ قتلوه .
ركضوا إلى حيث أشار، فكان الضبع أسرع منهم .. حاولوا اللحاق به، فلم يحظوا بغير ضراطه، رموه بالطوب وعادوا يجرون ذيول الخيبة .. حملوا الفتاة التي مازالت تصرخ وتتفلت محاولة اللحاق بالضبع .
قال الأب: هاتوا خنجرا .
فارتسمت علامات الدهشة على الوجوه .. صاح مكررا الطلب، فاستل أحدهم خنجره وأعطاه .. وخز به جبين الفتاة .. سالت قطرات من الدماء، فسكتت .. راحت تحدق في الوجوه من حولها بذهول، زاد من مثيله على الوجوه المقابلة .
ظلت الحكاية تلهب خيالات الناس .. تولد حكايا جديدة وتستدعي أخر من مخزون لا ينضب .. البعض كذب القصة برمتها والبعض زاد عليها ما أملاه هواه، وفي كلا الحالتين ، كان الثمن مطلوبا من أم الفتاة، لم يشفع لها العمر المديد مع زوجها ولم تشف غليله توسلاتها المشفوعة برجاء أمه: البنت حضرت العشاء ومشيت، من دون ما أشعر فيها .
- وأمها وين كانت ؟ .
- كنت في سابع نومه وما دريت بشيء . قالت المرأة بخوف وارتباك .
- سابع نومه . صاح الرجل مزبدا، ثم قال: علي الطلاق لتنامي في دار أهلك سبعين يوم بدالها .
حين أوشكت شمس اليوم السابع على المغيب، تسرب اليأس إلى النفوس .. إحساس بالخيبة خيم على الوجوه المنهكة، مرارة الأسئلة ألجمت البعض عن إبداء رغبتهم بالعودة، أو مفاتحة الآخرين بها، غير أن حالهم تبدل حين أشار جدك باقتحام المغارة .. تذرعوا بالعتمة .. ( النهار له عيون )، قال أ حدهم، فرد جدك بحدة: راح ندخل المغارة حالا واللي خايف ع حاله يروح .
أشعلت المشاعل مبددة ظلمة المكان .. تقدم جدك برفقة أبي يونس، يتبعه إخوة جميلة وجمع من الرجال .. لفحتهم ريح نتنة .. غطوا أنوفهم بأطراف كوفياتهم .. لسعتهم رطوبة المكان .. خبت المشاعل بفعل نقص الهواء .. انحسر الضوء المنبعث منها .. تعثرت الأقدام .. كاد بعضهم أن ينكفئ على وجهه وأحدهم تملكته رغبة بالتقيؤ، فخرج مسرعا إلى العراء وأخر لا داعي لذكر أسمه، تملكه الخوف فأشار بضرورة إنهاء المهمة، قبل أن يعود الضبع إلى مغارته، حتى أثار الأمر سخط أحدهم فصاح محتدا: اتق الله يا رجل .
- اذكروا الله .
جاء الصوت من داخل المغارة .. تكرر مرة أخرى مصحوبا باندفاع الضوء إلى الخارج .. تدافع الناس باتجاه الباب .. علا التهليل لمرأى العباءة التي يحملها نفر من الرجال .. أيقن الجميع أن الجثة،أو ما بقي منها هو ما خرج به الرجال.
كانت المفاجأة التي أذهلت الجميع، لحظة أن انتهوا من دفن الجثة وشرعوا بإقامة بيت للعزاء، فلقد أقسم أبو يونس ألا يكون ذلك وحين ألح الناس عليه، حلف بالطلاق ثلاثا، أن لا يكون العزاء قبل أن يأخذ بثأر أبنه .
استهجن الناس فعله .. تساءلوا مستغربين: ممن سيثأر لابنه؟ .. تهامسوا مشككين في قواه العقلية، لكنهم نزلوا عند رغبة الرجل .
لم يبت ليلتها في القرية .. تسلح بسيف ورمح استله من بين عيدان البوص التي تعرش على سقيفة بيته .. حمل زوادته وانطلق جهة الشرق، تلاحقه حسرات البعض المسبقة على المصير الذي سينتهي إليه، خصوصا حين أصر ألا يرافقه أحد، حتى وإن كان من أبنائه .
يومان وعاد الرجل يجر الضبع جثة هامدة .. تحلق الناس حوله مذهولين .. لم يصدقوا أن شيخا في الستين من عمره يقدر على فعل ذلك، غير أن البعض أبدى تفهمه، معللا ذلك بما في الانتقام من قوة، تدفع صاحبها إلى ما هو أبعد مما حصل مع الشيخ، ترجل الشيخ عن فرسه .. تدافع الناس لتهنئته .. أشار عليهم بالانتظار قليلا، ثم أشهر سيفه .. رفعه إلي ما فوق رأسه وهوى به على عنق الضبع ففصلها عن جسده .. كبر الناس فرحين .. تكرر الأمر مرة وأخرى، إلى أن أصبح الضبع قطعا متناثرة، صاح فيهم بنشوة مجنونة: ارموه للكلاب و قيموا العزاء .
اختلفت الروايات المنقولة عن الرجل، حول الطريقة التي مكنته من الإمساك بالضبع .. البعض ادعى بأن الفرس لعبت الدور الأساسي في العملية والبعض لم ينكر ذلك، لكنه أعاد الفضل لجرأة الشيخ وشجاعته، في حين أن ما قاله أبي على لسان الشيخ لم يكن بعيدا عن تلك الروايات، فالشيخ حين عاد ليلتها إلى مغارة الضبع، كان الصبح قد أشرق نوره على الأرجاء، فأيقن الشيخ حينها أن لا مجال للانتظار .. بحث عن مكان ظليل .. تفحصه بدقة، ثم فرد عباءته ونام .
صحا والشمس توشك على المغيب .. تلفت حوله فرأى الفرس ترعى على مقربة منه ومن بعيد كان يصل إلى مسامعه صوت أحد الرعاة العائدين بغنمهم وهو يصدح بالغناء منتشيا: غنى الحادي وقال بيوت .. بيوت غناها الحادي .. طل السبع بالبارود والهجمة ع الأعادي .
رددها الشيخ بداخله وزفر مداريا غيظه، أطرق لبعض الوقت، ثم بدأ في إعداد خطته قبل أن يحل الظلام .. تقدم من فرسه .. مسد على ظهرها براحته، ثم أ مسك برسنها وربطها قرب باب المغارة .. أرخى لها الحبل قليلا، ثم اعتلى الفتحة .. كمن خلف صخرة تمكنه من الإشراف عليها وجلس ينتظر .
مر الوقت ثقيلا ولم يعد من حوله سوى الصمت ونقيق الضفادع المتقافزة على جانبي الوادي .. حدق في الفراغ الممتد من حوله ، مستعينا بنور القمر ليلة التمام .. فبدت الأشياء أكثر رقة وشاعرية .. نسي للحظة الخطر الذي يحدق به .. غادرته الوحشة التي كان يشعر بها قبل لحظات .. استهجن عدم مجيئه إلى هنا من قبل .. تمنى لو أن الظرف غير الظرف، لاتخذ له خيمة في المكان وترك القرية لأهلها .
جفلت الفرس .. شنفت أذنيها .. دارت حول نفسها بعصبية .. تأهب الشيخ في مكانه .. اتسعت حدقتاه .. لمحه يقترب من الفرس .. يدنو منها بحذر، ثم يقف مترقبا .. تضطرب الفرس مع كل خطوة باتجاهها .. يعلو صهيلها .. ترفع جذعها إلى الأعلى محاولة التخلص من القيد .. يخشى الشيخ من حدوث ذلك .. يرجو الله أن يصمد الحبل .. يقترب الضبع منها .. يدور حولها .. يتفحصه الشيخ عن قرب، لا يزيد حجمه عن الكلب كثيرا ومع ذلك يثير الرعب في النفوس .. تحين الشيخ لحظة يكون فيها في مرمى رمحه، ولكن من دون أية حسابات للخطأ، فالخطأ مهما صغر حجمه لا يعني سوى الفشل .
أطبق الشيخ على رمحه وبدا أكثر تحفزا .. دنت اللحظة التي ينتظرها .. هم بتسديد رمحه فإذ بالضبع يطير محلقا في الهواء .. سقط علي بعد أمتار يجوح من الألم .. كانت ركلة الفرس من القوة، بحيث استغرقه بعض الوقت للوقوف على رجليه .. حاول الشيخ تسديد ضربته مستغلا حالة ضعفه المطبقة، لكنه خشي من عدم إصابة الهدف .
تريث قليلا في انتظار ما هو آت .. راح يراقب حركة الضبع وهو يتمرغ على جانبيه، ثم كيف تحامل على نفسه وتقدم بخطا أكثر حذرا وتحسبا .. توقف محافظا على المسافة بينه وبين الفرس .. ربما كان يفكر في حيلة ما .. أيقن الشيخ حينها أنها فرصته .. سدد الرمح نحوه وقذفه بكل قوة .. عوى الضبع .. سقط أرضا .. حاول الوقوف فمنعته الرمح المغروسة في بطنه .. نزل الشيخ وحام حوله متشفيا .. ركله في عدة أماكن من جسده .. أمسك بطرف الرمح وراح يحركه في شتى الاتجاهات والضبع يسعى جاهدا للتشبث بأنفاسه الأخيرة .. ظل يتابع تشفيه منه إلى أن أيقن موته، عندها أحضر حبلا لفه حول عنقه، ثم ربطه إلى سرج الفرس، ألقى عليه نظرة أراد منها التأكد من موته، ثم اعتلى صهوة الفرس واتجه إلى البلدة .
اختلف الناس في رواياتهم، لكنهم اتفقوا على شيء واحد وهو اللقب الذي حمله أبو يونس، الضبع حل محل العائلة، كان الأمر مثار فخر في البداية، لكنه أصبح حملا على من جاءوا من بعدهم .. لم يستسيغوا التسمية .. لم تعنهم بطولة جدهم بشيء، بل رأوا فيها عارأ يطاردهم .. فإن كان جدهم من قتل الضبع، فإن خالهم من أكله الضبع وهذا في رأيهم أشد وأنكى، لكنهم ظلوا أعجز من أن يغيروا واقعا ضرب أطنابه حولهم واستكانوا له .
لم نخرج للرعي في اليوم التالي، هكذا استقر الرأي بعد طول جدال، رغم أن البعض قد قبل به مكرها والبعض لم يستوعب الحكاية من أصلها .. لم يمثل له الجنرال شيئا ولم ير فيه سوى دخيل تمادى في وقاحته، لكن حديث ابن فهيمة عن تجربته المريرة داخل (الكمب) وما شاهده من رجال وعتاد، جعل كفة المنادين بالحوار هي الأرجح .
تجمع الناس صبحا في دار المختار .. وضعوا اللمسات الأخيرة على مطالبهم .. قال أحدهم موجها حديثه للمختار: لازم يفهم الجنرال أن هذه الأرض أرضنا ومن حقنا أن نصول فيها ونجول على كيفنا .
انطلق الركب قاصدا الكمب .. كان المختار في المقدمة ومن خلفه جدك وأبي .. الشيخ يونس ..الشيخ راضي زعيم الحارة القبلية، حتى المبروك ألح عليهم كي يأخذوه، لكن جدك أقنعه بالبقاء: دير بالك على المبروكة من بعدنا .
البعض لم يتمالك نفسه من الضحك والبعض دعا لهم بالعودة السالمة، لكن العودة طالت .. انقضى جل النهار ولم يرجع منهم أحد، خشي الناس أن يكون الجنرال قد تعرض لهم بسوء .. أو أن يلاقوا نفس المعاملة التي لقيها ابن فهيمة .. غير أن خوفهم لم يدم طويلا، فما أن خرج الناس من صلاة العصر، حتى جاءهم البشير معلنا عودة الوفد .. تجمع الناس حولهم .. لاحظوا الوجوم على وجوههم .. تبعوهم إلى المضافة .. ترجل المختار عن فرسه ودخل المضافة دون أن ينبس بكلمة .. أحس الناس بأن الأمور لا تبشر بخير .. تريثوا رغم تعطشهم البادي لمعرفة ما حدث .. تململ المختار في مجلسه .. اتجهت إليه العيون .. تنحنح، فخيم الصمت .. نظر إلى الوجوه من حوله، ثم قال: لا مرعى بعد اليوم قرب الكمب .
ارتسمت الدهشة على الوجوه .. تقاطعت النظرات .. أصبحت همسا .. همهمات .. أسئلة تحلق في الفراغ .. صخب دفع المختار للصياح بهم: اذكروا الله .
- لا إله إلا الله .
- اتركوني أشرح الأمر .
لم يلتفت الناس كثيرا لما قاله المختار ولم يعنهم بشيء كل إيضاح قدمه، طالما أن الجنرال لم يستجب لمطلبهم، ولم يراع وجاهة الجاهة التي أتته، لكن ما ادخره المختار لآخر الحديث جعلهم ينصتون: اسمعوا يا جماعة .. العناد لن يفضي إلى شيء، أليس كذلك يا شيخ إبراهيم؟، صمت الشيخ ولم يرد، فواصل الرجل حديثه قائلا: وعدني الجنرال خير، تعهد قدام إخوانكم بتشغيل خمسين منكم داخل الكمب ونفس العدد من النسوان إن شئتم .
- نسوان !! . رد البعض مستهجنا .
ساد اللغط قليلا، ثم تفرق القوم .. لم يحسموا أمرهم .. ظل قرار المنع شغلهم الشاغل، رغم أن البعض قد استهواه حديث المختار عن العمل في الكمب وود لو أنه أسهب في شرح الأمر، بدلا من الخوض في مواضيع شائكة، حتى أبي بدا حائرا وحين حاولت أمي تهوين الأمر عليه، رد بنبرة ملؤها الأسى: ضيقوا علينا .. ربنا يضيق عليهم .
- وكلها لله يا رجل .
- ونعم بالله .ا
في اليوم التالي جاء أبي برفقة رجل غريب .. تبادلا الحديث قليلا، ثم دخلا في حظيرة الغنم، أثار الأمر حفيظة أمي، لكنها عجزت عن فهم ما يجري .. ظلت تداري انشغالها حينا، ثم طفح الكيل .. اقتربت مني على عجل وبنبرة لا تخلو من التقريع، همست في أذني قائلة: أنت مش رجل زيهم؟ .. روح شوف اللي أيش يدور بينهم .
تحسست خدي بارتباك، فلامست أثر صفعات أبي وتمثل لي مشهد الزريبة مرة أخرى، فبقيت في مكاني ولم أبرحه، استشاطت أمي غضبا، فدفعتني بقوة وهي تكز على أسنانها من الغيظ: تحرك يا ولد .
عندها أطل أبي من داخل الزريبة وأشار إلي بالقدوم .. أسرعت إليه ملبيا، تتابعني نظرات أمي المستريبة، كان باش الوجه على عكس حاله في الأيام الماضية .. ربت على كتفي بحنو وقال: ساعد عمك في سوق الغنم للشارع.
استرقت النظر إلى أمي، فكانت تحدق بنا فجعة من دون أن تنبس بشيء وحين أحست بنظرات أبي تطبق عليها، انزوت في غرفتها ولم تخرج إلا حين خرج الرجل مغادرا .. اندفعت نحو أبي فزعة .. مكلومة .. قالت من بين دموعها: هذا اللي اهتديت إليه؟.. تبيع الغنم يا رجل ! .
سمعت أخر كلامها ولم أحاول التدخل .. لكن شعورا بالألم راح ينتابني أيضا .. إحساس بالفجيعة أصابني، كأنما فقدت جزءا مني ..وددت لو أبكي، فخشيت من أبي .. واريت وجهي عن أمي لكي أهرب من نظراتها وحين لمحت الدموع تنساب من عينيها، لم أعد قادرا على حبس دموعي .
- مالك يا حرمة؟ . قال أبي بصوت يشوبه التأثر
- ما لي !! .. وقف الحال وضاع المال، و تسألني ما لي .
- أي حال وأي مال يا حرمة . رد أبي بامتعاض .
توقف الكلام على لسان أمي، حين وصل إلي مسامعنا صوت جدك مقبلا من خارج الدار: يا ستار .
بدا الشيخ عابسا .. سأل أبي عن الأغنام التي سيقت من دارنا قبل لحظات .. أطرق أبي لبعض الوقت، ثم قال: بالكم أنه هان علي؟ .. إن كان هذا اللي في بالكم فهو الغلط بعينه .
- دلنا على الصواب إذن . قال الشيخ بنبرة لا تخلو من الكدر.
- يا عمي أنت أدرى الناس بحالنا ولا يخفى عليك اللي حل فينا وفي الناس بعد الحظر اللي صار على الرعي .. الغنم راح تموت قدام عينينا .
- يعني اللي عملته هو الحل !! .. وكيف ندبر حالنا بعد ما كانت ستر وغطى علينا؟ . قال الشيخ محتدا .
- يا عمي .. ما بعت غير عشرين رأس من نصيبي في الغنم ..
- ما شاء الله .. من متى صرنا نقول نصيبي ونصيبك .
- سامحني يا عم .. ما قصدت والقصة وما فيها أني بعت الغنم، حتى استثمر المال في فلاحة أرضي وما بقي من الغنم يسهل تدبره .
أطبق الشيخ على عصاه .. أسند جسده عليها .. وقف في مكانه للحظة، ثم مضى من دون أن ينبس بكلمة .
- مشي غضبان . قال أبي بأسى، فلم يجبه أي منا .
لم أعرف إلا يومها، أن لجدك نصيبا من الغنم، كنت أحسبها جميعا لنا، ولم يخطر ببالي أبدا، أن يكون الشيخ شريكا لنا، فهذه المهنة لا يعرفها سوى عامة الناس، أما المشايخ من أمثاله، فلهم طرقهم التي يتدبرون بها عيشهم، صحيح أنه كان بين الحين والأخر، يذبح ما يشاء من الغنم، لإكرام إخوانه المشايخ، الذين لا تنقطع وفادتهم، من دون أن يسأله أبي وكذلك كنا نأخذ ما نشاء من داره دون رقيب يسأل، لم أشعر يوما أو أسمع أن هذا لنا وذاك لهم، كانت صوامع القمح والشعير في بيته مشاعا لنا، وكذلك كان شأن بعض الجيران والأقارب، يشجعهم في ذلك كرم الشيخ و ما رسخ في أذهانهم جميعا،عن البركة التي تتنزل على داره، لدرجة أن أبي أقسم في أكثر من مناسبة، بأن الصوامع لديه لن تنقص شيئا ولو انفتحت عليها المبروكة كلها، فيزكي يمينه كثير ممن حضر وإلا ما معنى أن يغرف الناس منها طيلة العام ولا يبدو لها قرار.
كنت أعتقد إلى حين، أن الإبل التي ترد إلى داره محملة بالحبوب مملوكة له وأن من يسوقها هم بعض من رعاته العاملين خارج حدود المبروكة، لكني أدركت بعد حين، أن الإبل المقصودة، تعود لأحد الشيوخ من أل عبدون، تربطه بالشيخ صداقة وطيدة، يرجع تاريخها كما قال أبي، إلى زمن نصار الأول والد الشيخ إبراهيم، وظلت خيوطها ممتدة حتى عهد قريب .
حدثنا ذات ليلة عن واحدة من المناسبات التي حضرها هناك والتي أراد من خلالها تبين عمق العلاقة بين الجانبين فقال: أذكر يوم أن دعينا لحضور زفاف الشيخ عبدون على عروسه الجديدة، كنت يومها ابن خمس أو أكبر قليلا، أجلس متشبثا بسرج الحصان الذي يمتطيه أبي وكلي رهبة وخوف، تحرك بنا الركب ضحى، قاده الشيخ نصار، رجل في الخمسين من عمره، لكنه ينافس الشباب بهاء وجمالا وإلى جواره أبناؤه السبعة، كل يعتلي صهوة جواده، ما عدا جدك مهيوب الذي كان في مثل سني، فقد جلس خلف أبيه ومن خلفنا عبيد يسوقون المطايا وما حملت من نعم .، يصمت أبي وقد عاوده الإحساس بالفجيعة مرة أخرى، يمسح دموعا انسابت على خده، ثم يواصل ما بدأ: مع منتصف ذلك النهار، بدأت تلوح من بعيد مضارب العشيرة وعلى مدى الأفق الممتد من حولنا، كانت سنابل القمح حلة من ذهب تكسو وجه البسيطة، عندها أشار الشيخ بيده وقال موجها الحديث إلى أبي : هذه الأرض اللي حكيت لك عنها .
التفت أبي إلى حيث أشار ولم يعقب، فسأل الشيخ إبراهيم مستفسرا: هي ملكنا؟ .
نظر إليه الرجل متبسما وقال: هي ملك الشيخ عبدون و لكن الإحسان جزاؤه الإحسان .
كان أبي على إطلاع كامل بقصة الأرض، فهو واحد من قلة آزروا نصار الأول في صياغة حل لها، لأكثر من عام وهم يسعون بين الشيخ عبدون و خاله .. تحملوا مشقة السفر بين الجانبين وأحيانا المبيت عند أحدهما .. تركوا بيوتهم وأرزاقهم حقنا للدماء،التي أوشكت أن تسيل في أكثر من مناسبة، بل إنهم في واحدة من المرات الأكثر خطورة في تلك القصة، جمعوا رجال المبروكة كلهم للفصل بين المتخاصمين، يومها أقسم نصار الأول ألا يرجع رجل إلى داره قبل أن ينهي الخلاف بين الجانبين .. تداعى إلى صفه شيوخ القبائل المجاورة .. وجهاء القرى القريبة ..ألحوا على الخال أن يعطي ابن أخته ميراث أمه، بحيث يستطيع ضمه إلى أرضه وليس بمعزل عنها، استجاب الخال مستدركا خطورة الموقف، حينها أقسم الشيخ عبدون أمام الحاضرين، بأن يكون خراج الأرض المستردة ملكا لنصار الأول ما دام حيا .
من بعيد لاحت لنا خيل آتية .. تهلل وجه الشيخ نصار .. لوح بيده، فجاء الصوت مرحبا: هلا باللي جونا محبين هلا، ألف مرحبا بملقاهم وبشوفهم ألف هلا .
ثم ترجل عن فرسه واندفع نحو الشيخ، فقابله الأخير بالمثل .. تعانق الرجلان .. تبعتهم البقية .. دام المشهد قليلا، ثم واصلنا المسير سيرا على الأقدام، قابلتنا جموع من الرجال والنساء .. صدحت الزغاريد مغردة .. تكرر مشهد العناق مرة أخرى .. صغار العشيرة وكبارها يجلون الشيخ ويحفظون صنيعه معهم .. تحول المشهد إلى عرس جديد .. تزاحم الناس أمام الديوان .. نادى الشيخ علي عبيده .. أشار لهم بيده، فلمعت الخناجر تحت وهج الشمس .. أعملت في رقاب الخراف، لا أدري كم كان عددها .. خمسة .. سبعة .. شيء كهذا، رحنا ننظر إليها وهي تشخر متمرغة في دمائها، بينما الرجال أخذوا أماكنهم داخل الديوان، يعلو حديثهم حينا وحينا تعلو ضحكاتهم.
وقفنا نتابع المشهد، أنا وجدك مهيوب ومن حولنا عدد من أبناء الشيخ، سألني أحدهم عن أسمي وحين أجبته ابتسم وقال معقبا: اسمي سالم، وأبوي يناديني سلامة وأوقات ينادي على أخي سلامة باسم أخوي يونس، من كثرتنا يتوه فينا .
استعادنا ضجيج القدور وحركة العبيد من حولنا .. استعرت النار من تحتها .. علا صوت كبيرهم بكلام لم أفهمه، فانطلق أحدهم صوب جمع النساء المنعقد حول خابزات الصاج .. التقط فطيرة .. تحسسها بيده ثم قضم منها قضمة .. لاكها بفمه ، ثم قال كلمات أومأت على إثرها المرأة مبدية الرضا، تركها وعاد مسرعا، همس في أذن كبيره، أشرق وجه الرجل .. صاح بهم مرة أخرى، فانطلقوا يهيئون المكان توطئة لتقديم الطعام .
بعيد العصر بقليل اصطف الفرسان للسباق ..وقفنا جميعا لمتابعة المشهد .. زغردت بعض النسوة حين انطلقت الخيل .. تعالت الصيحات مشجعة .. أشار الشيخ عبدون إلى ولده البكر وقال بإعجاب: هذا ابن أبيه .
صدق حدس الشيخ بولده .. كان أول من جاء ملوحا بيده .. ترجل من على صهوة جواده .. صافحتا جميعا، ثم حمل جدك مهيوب ووضعه على ظهر جواده .. بدا الخوف جليا على وجهه .. نفس الإحساس أصابني ..تواريت خلف أبي حتى لا تصل إلى عيونهم .. خشيت أن يعقدوا سباقا للصغار وأنا بالكاد أركب الحصان مع أبي، زاد خوفي حين انطلق الحصان مسرعا .. صرخ مهيوب مبديا فزعه، تشبث بعنق الحصان وكتم صرخته .. اقترب منه فارس كان يسير إلى ..صاح به مشجعا: يله نشوف من يسبق الثاني .
كان شاحبا حين استقبله الشيخ عبدون معلنا فوزه .. ارتعد بين يديه، لكنه كابر .. تحامل على نفسه وابتسم، فتعالت الزغاريد مهنئة الفارس الجديد ومن يومها أصبح جدك مهيوب رحمة الله عليه، فارسا لا يشق له غبار.
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1111 الجمعة 17/07/2009)