نصوص أدبية
صفحات من سيرة المبروكة (6)
المطايا التي جئنا بها محملة بشتى الهدايا، عادت تئن تحت أحمالها من حبوب وغلال.. بعض النسوة حظين بجرار سمن وبعضهن بسلال بيض ومع أذان العشاء كان الركب قد وصل، اتجه بعض الرجال إلى المسجد والبعض قصد داره مستبشرا بنصيب وافر من الغلال التي وصلت.
لكن الغلال التي أراد أبي جنيها من أرضه لم تصل أبدا.. ضاع ثمن الغنم هباء، مثلما ضاع كده طيلة أشهر ثلاثة ولولا مشيئة الله لضاع هو أيضا.. أراد أن ينجح رهانه بأي ثمن.. لكن الثمن كان من الفداحة، بحيث لم يخطر بباله أبدا.. كانت الأرض قبلته.. يغدو إليها كالطير صبحا و يعود بعد الغروب.. أحيانا كثيرة يغلبه النعاس، فيغفو قبل أن تضع أمي طعام العشاء، تنظر إليه بإشفاق، ثم تهمس بأسى : ما لنا وهذا الشقاء.، حتى أن الشيخ إبراهيم أبدى امتعاضه من الحالة التي أمسى عليها أبي.. جاءنا أكثر من مرة ولم يفلح في واحدة منها بلقائه، إلى أن صحونا ذات ليلة والدار مملوءة بالجند.. هب أبي فزعا.. صاح فيهم بغضب باد : كيف تدخلوا علينا من دون إذن ولا دستور.؟.
- شت أب. قالها أحد الجنود بعصبية، ثم أتبعها بصفعة حطت على وجهه، ففر الدمع من عيني.. صاحت أمي مولولة، فنهرها أبي، ثم التفت إلى المختار الذي وقف صامتا وسأله بغيظ مكتوم : عاجبك اللي حاصل يا مختار؟.
- شت أب. صاح ذاك الجندي مرة أخرى واندفع نحوه مهددا، حينها تدخل المختار لإيضاح الأمر، فصاح به نفس الجندي وبنبرة أشد : شت أب مختار.
انكمش المختار في مكانه إلى أن أتم الجنود بحثهم داخل البيت.. لم يدعوا شيئا في مكانه.. قلبوا البيت رأسا على عقب.. حتى زريبة الأغنام لم تسلم من عبثهم.. فرن الطابون ركلوه بأقدامهم، فأصبح قطعا متناثرة.. لم يجدوا شيئا ولم يخرجوا بغير أبي.. كبلوه وعصبوا عينيه، ثم صاح نفس الجندي وهو يسوقه أمامه : -- يله أوت.
صاحت أمي لحظة اقتياد أبي، ثم انهارت مغشيا عليها، اندفعنا نحوها فزعين.. صاح المختار بي : كب مي على وجهها يا ولد.
تدافع الناس إلى دارنا يستطلعون الأمر، كان أول الداخلين علينا الشيخ إبراهيم وزوجته الصغيرة، اتجهت المرأة صوب أمي التي بدأت تستعيد أنفاسها وأسندتها على صدرها، ثم دخلتا إحدى الغرف، بينما أمسك الشيخ إبراهيم بتلابيب المختار وراح يسأله :أيش القصة يا مختار؟.
- علمي علمك يا شيخ. رد المختار مداريا حرجه.
- كيف يا مختار، وأنت من بداية الأمر معهم؟.
- هم أطلعوني على شيء؟.
- مش أنت المختار وكبير المبروكة وأهلها؟.
- الله يسامحك.. أسأل ابن عمك – وأشار نحوي – كيف كانوا راح يضربوني أنا كمان؟.
تفرق الرجال مع أذان الفجر وظلت زوجة جدي إبراهيم وبعض النسوة إلى جوار أمي يواسينها وحين رأتني أحوم في باحة البيت على غير هدى، أشارت إلي بيدها كي أقترب ولما دنوت منها قالت بصوت يخنقه البكاء : اسرح بالغنم يا حبيبي.. أنت رجل البيت من اليوم وطالع.
لم تستطع إكمال حديثها، غلبها البكاء.. تحول فجأة إلى جوح مكلوم، كأنه خناجر تحز أمعائي.. وددت أن ألقي بنفسي في أحضانها.. أن أضمها إلي، لكن الحرج منعني واندفاعهن في وجهها باللوم أجبرني على الخروج وفي أذني بقايا من لومهن : وحدي الله يا امرأة ولا تكسري بخاطر الولد.. الحبس للرجال وما بني سجن على أحد.
خرجت يعتصر قلبي ألما.. سقت الغنم أمامي قاصدا أرضنا.. أردت أن أكون حيث لازالت ريح أبي.. أو بعض من قطرات عرقه.. أحفظ الغرس الذي غرس.. أن لا أخيب رجاء أمي.. أكون رجل البيت في غياب أبي، فقابلني المبروك عند أول الشارع، سمع بالخبر في المسجد، فجاء على عجل يستطلع الأمر، صاح من بين أنفاسه المتلاحقة : وقف يا ابن أخوي.
توقفت في مكاني إلى أن صار أمامي مباشرة، وضع يده على كتفي وسألني بحنان لم أعهده من قبل : صحيح ما سمعت؟.
أومأت برأسي ولم أرد، انتابني للحظة شعور باليتم.. كدت أبكي.. عندها أطل الشيخ إبراهيم ومن خلفه جمع من الرجال.. دخلوا جميعا إلى مضافته، بينما أقبل هو نحوي.. ربت على كتفي وقال : توكل على الله ولا تشغل بالك.
لحقت بالأغنام وفي عيني دمع بالكاد أحبسه، فشغلني اندفاعها نحو المرعى الذي اعتاد ته منذ أن حرمنا الرعي بجوار الكمب.. أخذت في سوقها جهة أرضنا،فلم تستجب لي.. راوغتني قليلا، ثم انصاعت لرغبتي، إلا أن هذه الرغبة تبخرت عند حدود المبروكة المحاذية الكمب، بل قبلها بكثير وتحديدا حيث تقع أرضنا، كان نور الصبح يزحف ببطء على الأرجاء وصخب الجند المنتشرين في المنطقة يلفت الأنظار إليهم، وقفت في مكاني حائرا.. خائفا، بي ذعر من أن ألقى المصير الذي لقيه أبي أو ابن فهيمة من قبل.
حالفني الحظ فلم ينتبهوا لي ولربما انتبهوا فلم يلقوا لي بالا.. تحركت خيلهم ورجالهم باتجاه الكمب.. تريثت إلى انقطع عن مسامعي وقع حوافر خيلهم، ثم اقتربت من المكان.
كان المشهد مفجعا، كد أبي وتعبه ديس تحت حوافر الخيل وما نجا من حوافرها عملت به المعاول عملها.. حفرة هنا وأخرى هناك، كأنما أمضوا ليلهم في الحفر.. عرانيس الذرة التي أوشكت أن تؤتي أكلها، تحلقت حولها الأغنام في وليمة أنستها حظوظها من المراعي الأخرى.
لم أنتظر الغروب، لملمت أغراضي وبعضا من عرانيس الذرة التي نجت من المجزرة وقفلت عائدا، فقابلني بعض العائدين من عملهم في الكمب، خمسة رجال وامرأتان، فهيمة وزوجها.. أبو إسماعيل وزوجته وثلاثة رجال من الحارة القبلية، كانت فهيمة أول من رآني.. تركت جمعها واندفعت نحوي مسرعة.. كان وجهها منشرحا وفي فمها كلام، لم تصبر إلى أن تصلني، فصاحت من بعيد : البشارة يا عمتي.. أبوك روح بالسلامة.
لم أقو على الوقوف.. هبطت في مكاني وأجهشت بالبكاء.. ضمتني المرأة إلى صدرها وراحت تهدئ من روعي : حسبتك راح تطير من الفرح.
انتزعت نفسي من بين ذراعيها واعتدلت واقفا.. التف من حولي الرجال.. صافحوني مهنئين بدورهم، فخطر لي أن أسألهم : كيف علمتم بالأمر؟.
فردت فهيمة باندفاعها الذي أورثته لابنها : شاهدته قبل ساعة ومن خلفه الجنود وهم يدفعوا فيه باتجاه البوابة الخارجية البوابة.. يا كبدي عليه.. دفعوه فانبطح على وجهه، بعدين تحامل على نفسه ومشي، وأولاد الكلب بقوا يتفرجوا عليه ويضحكوا.
كان حوش الدار مملوءا عن أخره، أهل المبروكة جميعا جاءوا للسلام على أبي.. رجال ونساء.. صغار وكبار.. بعضهم قابلني عند باب الدار مغادرا وبعضهم دخل معي، كانوا جميعا يبتسمون في وجهي مهنئين.. أفسحوا لي الطريق إلى حيث كان يجلس أبي ومن حوله الرجال تحت السقيفة.. فتح ذراعيه باشا.. ضمني إليه بحرارة، ثم أفسح لي مكانا بجواره، فرحت أشاطره استقبال المهنئين.
مع حلول الظلام بدأ الاكتظاظ ينحسر ومع مضي الوقت لم يبق في دارنا سوى المبروك والشيخ إبراهيم بالإضافة إلى زوجتيه الصغيرة والكبيرة.. الصغيرة كانت تساعد أمي في إعداد الشراب للمهنئين والكبيرة كانت تنوب عنها في الجلوس مع النسوة ومتابعة الحديث.
كأن أبي كان ينتظر اللحظة، فما أن اطمأن لخلو الدار، حتى استلقى على بطنه وقال للمبروك بصوت ضعيف : ارفع القميص عن ظهري وشوف شغلك فيه.
جحظت العيون في الخطوط المرسومة على ظهر أبي، بعضها كانت تنز منه الدماء وبعضها كسته زرقة قاتمة.. حسبل جدك وحوقل.. غمغم المبروك بكلام لازلت أحفظ بعضه – اللي جاي أشد وأنكى -، ثم قال من بين دموعه : يا مستورة.
فردت أمي بلهفة المفجوع : أمرك يا سيدي المبروك.
- سخني طاسة مي وذوبي فيها حفنة ملح.
- كل هذا البلاء فيك وقاعد معنا من دون ما تحكي شيء !!. قال الشيخ إبراهيم مستهجنا.
- وأيش يفيد الحكي يا عم.. ولا أبكي زي النسوان.
- ما عاش اللي يبكيك يا ابن أخوي ولكن هذا شيء فظيع.
- شوف قدمي واللي صار فيها.
- يا إلهي.. هذه قدم ولا خف جمل !!.
- أه يا عم لو تدري اللي صار في من ساعة ما حل تركتكم.
- ملعون أبوهم.. هم ثأر أبوهم عنا؟.
- مش عارف.. لكنهم كانوا يسألوني عن أغراض يمكن حد سرقها منهم،ولا وقعت منهم.
- أغراض.. أي أغراض اللي يعملوا فيك عشانها كل هذا !!.
صمت أبي لبعض الوقت.. نظر إلي بعين الريبة، ثم همس بصوت خافت : سلاح.
- وما دخلك أنت بالسلاح؟.
- قلت نفس الكلام ولكنهم ظلوا يعذبوني.. قالوا إن الأثر انتهى إلى أرضي.
- شفتهم هناك.. دمروا الزرع وحفروا الأرض، ما خلوا فيها شبر سالم. قلت ذلك باندفاع ألجمهم جميعا.
- وكيف وصلت لهناك يا ولد؟. صاح أبي مذهولا.
- رحت أرعى فشفتهم.
- أول مرة وأخر مرة تصلها.. فهمت. صاح أبي مزمجرا.
- تعرف يا عم مين شهد تعذيبي وما تحرك؟.
- لا.
- الخواجة يعقوب؟.
- يعقوب !!.
- هذا اللعين ما أثمر فيه زادنا.. ظل يعد الكرابيج وهي تشوي ظهري، من دون ما يتبرم ولما صحت فيه من الغيظ، قال ما بيده شيء.
- الكفر ملة واحدة. قال المبروك وهو منكب على جراح أبي.
- بالفعل هم ملة واحدة.. كانوا لما يتعبوا من ضربي، يخرجوا للتشاور..يتكلموا ويضحكوا وبعد شوي يدخل الخواجة بوجه ثاني، يعمل حاله واقف بصفي.. وهو في الحقيقة بدو يورطني لأعترف.
- قصدك أنه وراء كل القصة؟
- بالتأكيد هو وراء كل المصائب.
- كلامك في منه؟.
- ما حدا مستفيد غيره.
لم يمض وقت طويل بعد تلك الحادثة، حتى فوجئ الناس بتحويل بيت الوالي إلى مخفر شرطة، كان مشهدا لم يألفوه من قبل، حركة دءوبة تملأ جوانب القرية.. جند موزعون في كل مكان.. بعضهم يجوب الطرقات سيرا على الأقدام وبعضهم داخل عربات مسلحة، لم يعترضوا أحدا ولم يعترض سبيلهم أحد، رغم أن من في القرية جميعا خرجوا لرؤيتهم، بل أن البعض راح يتساءل مستفسرا، عن السر في كون هؤلاء الجند يحملون نفس الملامح.. الشعر الذهبي.. العيون الزرقاء والقامة الطويلة، حتى أن بعض النسوة المجربات، أمرن الصغيرات من الحوامل، بإطالة النظر إليهم، لعل وعسى أن يرزقن بأبناء على شاكلتهم.
عند بيت الوالي كان الأمر مغايرا.. تجمع الناس عن بعد يراقبون ما يحدث في الساحة المقابلة للبيت.. لم يشغلهم الجند المصطفون بأسلحتهم ولا الخيل التي تدور مانعة كل من تخطى الحدود المسموح بها، بل شغلهم هذا الهيلمان الذي له أول وليس له أخر وأولئك الجند المتسلحون بالأبواق والطبول كأنهم خشب مسندة.
أقبل المختار وجمع غفير، فسمح لهم بأخذ أماكنهم داخل الساحة.. تبعهم الخواجة يعقوب وعدد من أبنائه.. انصبت الأعين على الحشد الذي خرج من داخل البيت.. همس أحد العاملين في الكمب مشيرا بيده : الميجر.، فاتجهت العيون إلى حيث أشار، لكن العيون ذاتها تسمرت على شخص حمدان، الذي وقف إلى جوار الميجر مرتديا لباس الشرطة ومن حوله بعض رجالاته السابقين، تهامس البعض مستهجنين : شوفوا الناس كل يوم بلون، البارحة كانوا رجال الوالي؟.، فجاءه الرد ساخرا : واليوم رجال الميجر.
قرعت الطبول ونفخت الأبواق، فوقف القوم جميعا، عدا من كانوا خارج الساحة، ظلوا على حالهم.. بعضهم وقوف وبعضهم قعود، مع أن بعض من وقف رفع يده بالتحية حين رأى الجميع على الجهة المقابلة، يرفعون أيديهم تحية للعلم، الذي رفرف متسلقا سارية نصبت في منتصف المكان.
بعد الانتهاء من المراسم اتجهت العيون صوب الميجر.. بدا للجميع أنه يريد قول شيء ما، وقف أمام منصة أعدت على عجل وإلى جواره الخواجا يعقوب، الذي بدا قصيرا بقربه رغم ما يتمتع به من طول، كان في الخمسين من عمره.. أحمر الوجه.. حاد الملامح.. تحدث فجاء صوته جهورا.. ترجم الخواجا حديثه، فتباشر الناس خيرا بالوعود التي قطعها على نفسه، لكنهم أوجسوا خيفة حين هددهم بالويل والثبور، إذا ما شقوا عصا الطاعة أو لم يستجيبوا لما يطلب منهم.
في ذات المساء انطلقت خيل حمدان تجوب طرقات المبروكة.. لم يميزهم عن عهد الوالي سوى اختفاء الطربوش وإحلال الكوفية مكانه.. أما الخيل فهي ذاتها والكرابيج نفسها والرجال تبدلت هيأتهم ولم تتبدل وجوههم وإن تسلحوا في هذه بشيء جديد، عرف فيما بعد بالبنادق الإنجليزية.
خوف الناس من هذا القادم الجديد، بدا إلى حين في غير محله، حديث الميجر وما حل بأبي ومن قبله ابن فهيمة، أصبح حكاية تروى في المجالس ولا تحرك شجون أحد، وجود حمدان رغم ما عرف عن بطشه، بدا للناس أهون من رؤية الميجر وجنده يسرحون ويمرحون داخل المبروكة وعلى أطرافها، لكنهم لم يفكروا للحظة بأن يستغل حمدان هذا الارتياح لصالحة، إذ لم يمض سوى وقت قصير على توليه منصبه، حتى بدأت مطامعه تظهر للعيان، فلقد أدرك بحسه المبني على النهب، أن الفرصة لن تكون مواتية أبدا كما هي الآن، وأن انشغال الإنجليز بترتيب أمورهم لن يدوم طويلا، وما عليه سوى انتهاز الفرصة المواتية، قبل أن تتبدل الأحوال، فما عاد شأن في المبروكة إلا وله يد فيه، حتى زواج الناس وطلاقهم أصبح من صميم اختصاصه.. رد الحردانات أصبح لعبته المفضلة، فلم ينس له الناس بعد، كيف أوقع بين رفيق الحاج وزوجته مزيونه، فأوشك الأمر أن يشعل المبروكة على أهلها، كانت اللعبة أخس من أن يستوعبها الناس وخصوصا أهل المرأة الذين يمثلون العائلة الثانية في المبروكة، فلا غرابة لو أنه اقتصر على ما يحدث بين الأزواج من خلاف، رغم كونه مستهجنا في هذه الحالة بالذات، وقد عرف عن الرجل تعلقه الشديد بزوجته، حتى كني برفيق مزيونه، بدلا من رفيق الحاج يوسف، لكن أن يصل الأمر إلى حد الطعن في شرف ابنتهم، فهذا شيء عجاب والأعجب منه أن يأتي على لسان زوجها، لم يستوعب الناس القصة.. البعض رأى أنها ملفقة والبعض اعتبرها دليلا على صدق رأيه في النساء، اللواتي لا يحفظن ودا ولا يصن عهدا، أما النساء فانقسمن على ذواتهن، منهن من تشفت بهذه التي أسرت قلوب الرجال ببهائها وجمالها ومنهن من أرجعت ما حدث للعين التي أصابت ولا صلت على النبي، لكنهم جميعا عجزوا عن إثبات براءة المرأة، حتى حين تطلب الأمر التوجه إلى البشعة، لم يمانع الزوج في ذلك، بل رأى فيه ملجأه الأخير، أمام سيل التهديدات المتصاعدة من قبل أهل زوجته، خصوصا أنه شهد بأم عينه الرجل وهو يفر هاربا من على سور بيته، لحظة أن هم بدخول الدار.
في صبيحة اليوم المحدد تجمع الناس أمام دار المختار، انقسموا إلى فريقين، واحد ضم بعضا من أهل الرجل وعشيرته وأخر ضم بعضا من أهل المرأة وعشيرتها وما بينهما عدد من رجالات المبروكة الذين تابعوا القضية من بدايتها وسعوا جاهدين لإيجاد حل لها، لكن إصرار الطرفين على مواقفهما المتشددة، أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه.
وقع حوافر خيل أتيه جعل الناس يلتفتون نحوها، البعض همس مستهجنا : مين اللي دعا حمدان ورجاله !!.
لم يجد ردا على جوابه ولم يلتفت له حمدان أو لغيره من الحاضرين.. شق طريقه بين الفريقين من دون أن يكلف نفسه مشقة النظر إليهم وحين أصبح أمام الباب مباشرة، أشار لرجاله أن ينتظروا حيث هم، ثم طرق الباب بعصاه، فانفرج عن شاب أقبل على الفرس وأمسك بلجامها، ثم رد الباب خلفه بصمت، أحد الجالسين عبر عن حال المفجوعين بقربه قائلا : الله..الله يا ساقط يا ابن الساقط.
بعد لحظات قليلة خرج المختار ومن حوله الشيخ إبراهيم.. الحاج يونس.. حمدان آمر الشرطة وعدد من رجالات المبروكة المعروفين، أشاروا بالتحية على الجالسين، ثم تهامس المختار والشيخ إبراهيم، بعدها التفت المختار ناحية حمدان وأسر له بشيء، فهز رأسه إثر ذلك بالموافقة، حينها اتجه المختار إلى الجمع قائلا : اسمعوا يا ربع..إحنا قاصدين مشوارنا بنية خير واللي نيته خير ما يحشد هذا الحشد.. أناشدكم بالله يا ناس أن ترجعوا إلى بيوتكم ولا يخرج معنا غير خمسة رجال من كل طرف.
تململ الناس في أماكنهم.. بدا الامتعاض واضحا على وجوه البعض وعدم المبالاة على وجوه أخرى.. ساد بعض اللغط لفترة من الوقت، لكنه اصطدم بالحسم الذي بدا واضحا في صمت المختار ومن حوله ترقبا لم يخرجون به.
لحظات ولم يبق في المكان سوى قلة قليلة من الرجال، كل من كان خارج الدائرة التي أشار إليها المختار، انسحب عائدا من حيث أتى، عدا عن بعض الرجال الذين توسطوا بين الجانبين منذ بداية الأزمة، عندها توجه المختار بالسؤال إلى أهل المرأة إن كانت بنتهم بين الحاضرين أم لا، فأثار الأمر غضب بعضهم، لدرجة أن صاح أحد أخوتها في المختار محتدا : ما هذا الكلام يا مختار.. إحنا ما نكفي؟.
- مش هذا اللي قصدته ولكن يمكن يحتاج الأمر وجودها.. كيف نعمل حينها؟.
بدا الارتباك واضحا على الرجل.. اجتر ريقه ولم يحي ردا.. تدخل من كان بقربه.. همس له بكلمات دللت عليها حركات يديه وتعابير وجهه المنفعلة، ثم التفت ناحية المختار وقال : على بركة الله يا مختار.
انطلق الركب شاقا طريقه وسط سيل من نظرات متلصصة، تأتي من خلف الأبواب المشرعة قليلا وبعض النوافذ التي كانت تفتح على عجل لكي لا يفوتها المشهد، مع كل ما يتبع ذلك من غمز ولمز.
عند طرف الشارع المؤدي إلى بيت ذوي المرأة توقف الركب قليلا، صاح أحدهم موجها حديثه إلى أخر يصغره :استعجلهم.
ما كاد الشاب أن ينهر فرسه، حتى أطل الرجل مقبلا بجواده ومن خلفه أخته، لاح وجهها للناظرين، فبدت كبدر في ليلة التمام.. كانت سافرة الوجه على عكس ما توقع البعض.. ظنوا أنها ستواري وجهها خجلا أو حياء، لكنهم عجزوا عن النظر إليها رغم ولههم الشديد إلى ذلك.. هربوا جميعا من نظراتها الثاقبة.. إحساس بالعري جعل البعض يطأطئ الرأس خجلا، ودفع بالبعض الأخر لأن يهرب من لهيب نظراتها متذرعا بلهيب أخر قد يشوي وجوههم لو هم أطالوا التلكؤ والانتظار.
قبيل الظهر بقليل أصبحوا على مقربة من مضارب البدو، لاح لهم أحد الرعاة من بعيد.. أشار ملوحا كي يأتوا إليه، لكنهم لم يستجيبوا لمطلبه، لعلهم لم يلتفتوا إليه وربما حسبوه يشير لأحد أقرانه، عندها هرول الراعي نحوهم مسرعا، لاحظه البعض فأبطأت خيلهم، حينها صاح الراعي بملء فيه : وقفوا يا ربع.
توقف الركب.. اتجهت الأنظار صوبه.. بدا الضجر واضحا على الوجوه.. صاح به حمدان مستفسرا : علامك يا رجل؟.
- لوين يا رجال؟. رد محاولا ضبط إيقاع كلماته المحشورة بين وهج أنفاسه المتلاحقة.
جحظوا فيه مذهولين.. أثارهم تطفله.. أشعر بعضهم بالمهانة، خصوصا إن كان هذا البعض ممن تعودوا سؤال الناس و لا يسألون، لحظتها انفجر حمدان في وجهه مزمجرا : من أنت يا صعلوك حتى تسألنا؟.
امتعض الرجل مما سمع.. بدا ذلك جليا على وجهه.. أطرق لبعض الوقت مسلطا نظره على حمدان،ورماه بابتسامة باهتة، ثم قفل عائدا من حيث أتى، سار بضع خطوات، ثم استدار نحوهم و قال : بعدوا عن طريق الكمب.
تابع الرجل سيره وسط صدمة الجميع وذهولهم، كان أول المتحدثين حمدان الذي أ حس بأنه المستهدف بالذات وأن العيون تتجه إليه.. تفتش في ثنايا وجهه عن صدى حديث الرجل، فما كان منه إلا أن رفع رأسه إلى الأعلى بشموخ مصطنع، ثم عدل من وضعية كوفيته وصاح في رجاله بنبرة أراد أن تصل إلى الجميع: للأمام سر.
إحساس زائف بالأمان جعلهم لا يكترثون بما بدر عن البدوي ولا حتى بعربة الجند المتوقفة على مسافة قريبة منهم، واصلوا سيرهم وسط صمت تلفحه شمس حامية وخوف علت حدته حين أحاط بهم الجنود شاهرين سلاحهم، بدا الارتباك جليا في الوجوه، عادت كلمات البدوي تخرق الصمت الذي يلفهم.. أشار إليهم جندي بالنزول عن خيلهم.. تململ البعض متذمرين.. حاول حمدان قول شيء ما، فألجمه صراخ الجندي في وجهه.. أشار إلى زيه كأنما يريد التعريف على نفسه، فأشار له الجندي أن يأخذ رجاله ويقف جانبا.
تصبب العرق من الوجوه المضطربة، حاول المختار التحدث، فأشار إليه نفس الجندي بأن يلزم الصمت، قال أحدهم معرفا : إنه المختار.، فجاءه الرد صاعقا : ومن تكون أنت؟.
بهت الجميع أمام فصاحة الجندي.. لم يتوقعوا أن يكون بين هؤلاء من يجيد التحدث بالعربية.. حتى ذلك الذي سئل عن شخصه، ظل باهتا.. متبلدا إلى أن أشار له الجندي بالقدوم نحوه.
- ما أسمك؟. سأله الجندي بنبرة أرادها وادعة.
- محمود.. محمود يا أفندي.. محمود ابن عم المختار.
- وشو تعمل هان يا ابن عم المختار؟. مط الأخيرة بشيء من الاستخفاف.
- قاصدين المضارب اللي وراك.
- وما لقيته غير هذه الطريق.. ما قال لكم هذا الحمار – وأشار بيده إلى حمدان- بأنها محذورة على الناس؟.
- لا ما قال يا سيدي وما كنا نعرف.
- ومن هذه المرأة اللي معكم.
تبدلت ملامح الرجل.. بدا الاضطراب واضحا في خلجاته.. أطرق لبعض الوقت، ثم قال بصوت ضعيف : هذه اللي جابتنا لهان.
- ليش !!.
- قصة كبيرة وهي طرف فيها ويا ريت ما تأخرونا.
- تقصد أنا أخرناكم؟. قالها بشيء من التهكم، ثم التفت ناحية الجندي الذي أقبل نحوه وهمس في أذنه بكلمات لم يفهمها الحاضرون وإن أوجسوا منها، خصوصا حين ارتبطت بإشارة انطلقت من يد الجندي باتجاه المرأة، حينها خرج صوت الشيخ إبراهيم قويا مهددا بتأزم الموقف : اسمع يا افندي.. الشمس شوتنا وما عدنا قادرين على الوقوف، يا تتركونا نتابع سيرنا أو نرجع طريقنا.
خيم صمت على الجميع.. لحظات تصببت بها الجباه عرقا، حتى ذلك الجندي بدا مأخوذا، لكنه كان أسرع الحاضرين تداركا للموقف، استعاد ابتسامته المتشظية تحت وقع الصدمة، ثم قال مخاطبا الشيخ : هون عليك يا شيخ ولا داعي لكل هذا، خصوصا من واحد في مثل سنك.، ثم أشار لرجاله بأن يسمحوا لهم بالمرور، من دون أن يفوته التأكيد على عدم سلوك هذا الطريق مرة أخرى.
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1119 السبت 25/07/2009)