نصوص أدبية
صفحات من سيرة المبروكة (7)
.. ببساطة لم يصدقوا بأنهم نجوا من هذا الشيطان، إلا حين حطت رحالهم بباب شيخ العشيرة .. أقبل الرجل الذي كان في مثل سن جدك الشيخ إبراهيم ومن خلفه عدد من الرجال مهنئين بسلامة الوصول، خصوصا وأنهم تابعوا من بعيد ما تعرضوا له، أفسحوا لهم أماكن داخل الديوان، في حين أمسك أحدهم بزمام فرس المرأة وقادها إلى بيت الحريم .
أشار الشيخ إلى واحد من أتباعه إشارة أدرك مغزاها الجميع، عندها وقف الشيخ إبراهيم معترضا سبيل الفتى، فجاء صوت سيده معاتبا: أنتم أهل الكرم والجود يا شيخ إبراهيم .. اتركه يمضي إلى سبيله .
- وأنتم أهلها يا شيخ، لكنك أعلم بحالنا وشفت بعينك اللي صار معنا .
- هذا ما يليق في ولا فيكم .
- بالله عليك تعفينا هالمرة ولك غيرها إن شاء الله .
تقبل الشيخ عذرهم على مضض .. فدارت فناجيل القهوة على الضيوف، متبوعة بالأحاديث التي تسأل عن الحال وتستفسر عن الأحوال، إلى أن أخذ الحديث مأخذه، تنحنح المختار حينها، مستهلا حديثه بالصلاة على النبي .
أنصت الجميع باهتمام لحديث المختار، الذي استرسل في شرح ملابسات القضية على نحو أثار انتباه الجميع وحين أنهى حديثه، أطرق المضيف لبعض الوقت، ثم قال: أفهم أنكم حسمتم أمركم على لحس البشعة .
- نعم .
- يا مسعود .
- نعم يا عمي . انتفض الشاب واقفا كالسارية .
- هات جدك إلى هان .
- إذا صعب عليه نروح لعنده .
- لا .. عوده قوي ..رابي ع السمن وحليب النوق .
ما أن علت البسمة بعض الشفاه، حتى أطل الشاب الذي خرج قبل قليل ممسكا بيد العجوز، الذي دخل بدوره متكئا على عصاه .. بدا في الثمانين من عمره، لكنه على الشاكلة التي وصف بها، لولا غشاوة أصابت عينيه وبدت واضحة في حرصه الشديد على الهيئة التي ينقل بها خطواته .
وقف القوم عن أخرهم مرحبين به، سار إلى حيث مجلسه ورفع يده بالتحية قائلا: أقام الله جاهكم وعزكم .
خيم صمت بدا كأنه دهر طويل، ثم مال المضيف على أذن العجوز، الذي بدا ضعيف السمع أيضا وراح يعيد على مسامعه سرد الحكاية بشكل موجز ومسموع، عندها حاول العجوز ثنيهم باعتماد وسيلة أخرى، لكن المضيف أقنعه بإصرار الجميع على هذا الحل .
- يعني الكل راضي بهذا الحل؟ . سأل العجوز موجها حديثه للقوم .
- نعم . جاءه الرد على أكثر من لسان .
- كفلاكم ؟ .
- نعم .
- على بركة الله إذن .
أشار للشاب الذي رافقه، فعرف الأخير مراده، أقبل على المرجل وأنزل ما على ظهره من أباريق القهوة، ثم أشار لأخر كي يساعد في نقله إلى حيث يجلس العجوز، دنا الأخير من المرجل .. أمسك بالملقط وحرك الجمرات بطريقة أظهرت حرفية ما في هذا التخصص .. لملمها ونفخ تحتها، ثم أعاد فردها من جديد، بعد ذلك أمسك بسيخ حديد يقارب الباع طولا وينتهي أحد طرفيه بقطعة مبسطة، تشبه الكف إلى حد كبير، تأملها بتمعن، ثم أخرج من جيب جلبابه خرقة بالية وراح يمسحها بها، رشف عليها عدة رشفات، تخللتها بعض التمتمات التي أضفت رهبة على الصمت المخيم في النفوس .
ألقى نظرة أخيرة كأنما يطمئن من خلالها على إتمام المهمة، ثم دس الكف داخل الجمرات، على نحو دفع بالكثيرين إلى الارتداد مذعورين . . اتجهت أنظارهم لترى انعكاس ما يحدث على وجه صاحب الشأن .. تتبعت جحوظ عينيه المنصبتين على المرجل وما حوى .. اضطراب وجهه وجفاف حلقه الذي تجلى واضحا في بياض شفتيه المرتعشتين، بينما العجوز على هيئته الأولى، يتابع مهامه بصمت، دون الالتفات لما يدور حوله، أو حتى إلهائهم بالحديث، لكسر حاجز الخوف الذي ألجمهم جميعا وكأنه أراد لهم الوصول إلى هذه الحالة وبالتحديد الشخص المستهدف بعينه، وإمعانا في تأجيج الحالة، أخرج قطعة الحديد التي بدت كجمرة كبيرة وراح يقلبها أمام ناظريه بتمهل ممجوج، لدرجة أن بعضهم حوقل وتعذ بل من النار وشرورها، ثم دسها مرة أخرى في ذات المكان وقال بصوت مسموع: تحتاج بعض الوقت.
تعذ بل الناس مرة أخرى .. اصفرت بعض الوجوه وأخرى اضطربت خلجاتها لمجرد التفكير، في اللحظة التي سيقترب فيها هذا الجحيم من الوجه، تصبب العرق من معظم الوجوه، تذرع البعض بحرارة الطقس، فلاقوا من يؤيد قولهم، لكن حرارة أخرى كانت تعصف برفيق مزيونة، وبدت عوارضها واضحة عليه حين كسر العجوز حاجز الصمت وسأل بصوت جهور: من منكم المطلوب للبشعة؟ .
لم يقو على النطق، اكتفى بالإشارة إلى نفسه بيد مرتعشة وأعين تجحظ برعب في القطعة التي أخرجها العجوز وراح يقلبها مرة أخرى أمام ناظريه، ثم دسها في نفس المكان وقال ببرود عجيب: لما تقرب تذوب نباشر عملنا .
كاد أن يغشى على الرجل من شدة الخوف .. لم يعد قادرا على مدارة مشاعره، بل لم تعد تهمه نظرات المحيطين به، بما فيها من تشف أو شفقة، بقدر ما كان همه الخلاص من هذا الواقع، الذي يملك زمامه عجوز كأن قلبه قد من صخر .
- أقبل يا رجل . قالها العجوز وقد أطبقت يده على طرف السيخ الذي يليه بقوة لم تظهر في المرات السابقة، ثم راح يحركه بقوة ما بين الجمرات .
- تقصدني أنا . قالها بصوت أجش، بالكاد وصل إلى مسامع العجوز؟.
- وفي غيرك بيننا؟.
حاول الوقوف، لكن الأمر تعذر عليه .. اتكأ على كتف جاره .. سار بضع خطوات .. تعثرت قدماه، فسقط على وجهه يجوح كثور مذبوح، هرع إليه البعض .. رفعوه، ثم رشوا على وجهه بعض الماء وقبل أن يجلسوه في مكانه صاح أخو المرأة بصوت جهور: الله أكبر .. الله أكبر .. عرضنا أبيض يا جماعة وحقنا لازم يصلنا اليوم قبل بكره .
- أصبر يا شيخ .
كانت مفاجأة ألجمت الجميع، حتى أخوتها لم يتوقعوا دخولها بهذه الطريقة .. اندفعت المرأة كالسهم صوب العجوز وهبطت على ركبتيها أمامه، معلنة تحديها الذي أذهل الجميع: بدي تبر بوعدك اللي قطعته قدام هذا الشاب – وأشارت بيدها ناحية الشاب الذي رافقه – قبل ما تدخل هان .
- ما عاد له حاجة يا ابنتي . قال العجوز بنبرة هادئة .
- لا يا عم .. أنا مصرة على لحس البشعة، حتى أبرهن لبعض الناس، أن عرضي أطهر من لحاهم .
- تحشمي يا بنت . صاح أخوها في وجهها بحدة.
- اعذروها يا جماعة، اللي مرت فيه مش هين . قال العجوز محاولا تلطيف الموقف .
- أنا مستعد لدفع كل الحق اللي علي .. أعمل كل اللي يطلب مني .. بس إلي رجاء . قال الزوج، ثم صمت لبرهة عله يجد صدى لحديثه في الوجوه التي تتابعه .
- أيش تريد يا رجل؟ قال المضيف معقبا على كلام الرجل .
- أريد زوجتي .
- خسيت . خرج صوت المرأة مبددا حالة الصدمة التي أحدثها مطلب الرجل .
- رجاك مقطوع ونصيبك منها انقضى وراح تلد لغيرك اللي يكون سيد بلدكم .
حين وصل الركب مشارف القرية، كانت الشمس توشك على الغروب، ساعتها لف الزوج حطته البيضاء فوق العصا التي يسوق بها حماره ورفعها فوق رأسه، ثم تقدم القوم ببضع خطوات وراح ينادي بملء فيه: عرضك أبيض يا مزيونة وأنا الغلطان .
كان هذا واحدا من الشروط التي تم الاتفاق عليها مسبقا، فإن وقعت الإدانة على الرجل، ترتب عليه طلاق المرأة ودفع كافة مستحقاتها مضاعفة، بالإضافة إلى دخول البلدة على النحو الذي سبق وجوب شوارعها سبع أيام متتالية، يتناوب عليها صبحا وعشيا وهو ينادي بنفس الطريقة وإن كانت الإدانة من نصيب الزوجة، تطلق منه بلا نقاش وتدفع له مستحقاته مضاعفة، ثم يتولى ذووها أمرها .
لم تمض سوى أيام ثلاثة حتى جن الرجل أو كاد، توسط له العقلاء عند أهل المرأة، رجوهم أن يعفوه من إتمام العقوبة: الرجل راح يضيع منا يا جماعة .. الأولاد جننوه .
- اللي أوله شرط أخره رضا يا شيخ إبراهيم. رد أخو المرأة الأكبر بتعال .
- الرحمة واجبة يا يوسف ومن لا يرحم لا يرحم . رد عليه الشيخ إبراهيم بشيء من الرجاء .
- وين كانت هذه الرحمة لما رجم أختي وسود عرضها؟ .
- نال جزاءه اللي يستحق وزي ما قال الناس من قبلنا العفو عند المقدرة . قال المختار محاولا استمالة الرجل .
- هذه الأشكال لا تستحق العفو؟ . رد الرجل بعصبية واضحة .
- اسمع يا يوسف .. أبو ركبة لا يخلو من نكبة والأيام دول .. يوم لك ويوم عليك .. اليوم نترجاك وبكرا راح تترجنا .. يله يا جماعة . ثم انتفض الشيخ إبراهيم واقفا كشاب في العشرين من عمره .
- اكرم الناس يا يوسف . قال أحد أقاربه المسنين .، ثم لحق الشيخ إبراهيم وأعاده إلى مكانه .
- تكرم يا شيخ .. تكرموا يا جماعة .. رجاكم مقبول .. ربنا يقدركم على فعل الخير .
بعد شهر من تلك الحادثة، خرجت المبروكة عن بكرة أبيها، لاستقبال مسعود شقيق المختار الأصغر، كان من بين قلة محظوظة، أنهت تعليمها على يد شيخ الكتاب، قبل أن يغادرنا بثلاث سنين، انتقل بعدها إلى المدرسة الأميرية في مدينة بربرة المجاورة، ثم ارتحل من هناك إلى مدينة القدس، حيث درس في معاهدها سنوات أهلته لنيل شهادة الماتريك .
زحف الناس متجهين صوب محطة القطار، الواقعة عند الطرف الشمالي للمبروكة، كان المختار في المقدمة وعن جانبيه الشيخ إبراهيم ويونس كبير الحارة القبلية، أخوة مزيونة وعدد غفير من الرجال والشبان، الذين استبد بهم الحماس، فأحالوا المسيرة إلى عرس كبير، تحلقوا أمام المختار يقودهم ابن فهيمة، يقفون تارة ويسيرون أخرى وهم يتراقصون على إيقاع طبل أنتزعها أحدهم من يد امرأة وحنجرة ابن فهيمة التي ما وقفت عن الغناء:
أهلا وسهلا باللي جاي …. صبوا القهوة وصبوا الشاي
أهلا وسهلا بالأحباب …… طاب الملقى بعد غياب
أهازيج النسوة وزغاريدهن زادت من جذوة الحماس المستعرة لدى الشباب، بل دفعت ببعض الشيوخ للمشاركة في الحلقات، حتى أن أبا علي زوج فهيمة، انتزع كوفيته وراح يلوح بها مزاحما ولده في الرقص والغناء، ثم استبد الحماس بفهيمة، فاندفعت شاقة طريقها إلى منتصف الحلقة، مثيرة زوبعة من الزغاريد، تلتها دفعة من النساء اللواتي تشجعن لمشاركتها الرقص.
لم ينتبهوا إلى انتهاء الطريق إلا حين صادفتهم خيل حمدان ومن ورائها بقليل خيل الإنجليز، رفع الرجال أكفهم بالتحية، فرد المختار ومن معه التحية بالمثل، حينها غاب التحفز الذي لمع في العيون الغريبة ولو إلى حين، ظلوا يراقبون المشهد عن بعد وفي أعينهم سيل من التساؤلات، التي ظلت تبحث عن إجابات استعصى عليها بلوغها، إلى أن جاءت اللحظة التي علا فيها صفير القطار، حينها تبدل المشهد، عقدت الحلقات من جديد .. تشابكت الأيدي وصدحت الزغاريد .. ابتسمت الشفاه المتحفزة .. ارتخت أسارير الوجوه العابسة.. واتجهت العيون تحدق في هذا المشهد، الذي لم تألفه منذ أن حطت بها الرحال في هذا المكان .
توقف القطار وبدأ الناس بالنزول، عندها صاح أحدهم: هذا هو نزل .، فاندفعت الجموع إلى حيث أشار .. غص المكان بها .. ساد التذمر لدى بعض العاملين فيه وقبل أن يسود اللغط، خرج به الشباب محمولا على الأكتاف، يرددون نفس الأهازيج السابقة: أهلا وسهلا باللي جاي ….. صبوا القهوة صبوا الشاي
أهلا وسهلا بالأحباب ….. طاب الملقى بعد غياب
كان العائد في العشرين من عمره، أو لعله أكبر بقليل، لكن بنيته الجسدية كانت تشي بأكثر من ذلك وقد أضفت عليه العمة والقفطان هيبة ووقارا، زاد في بهائهما لحية صغيرة لم يخالطها الشيب بعد، ووجه يطفح حمرة وضياء، تململ في استحياء محاولا النزول، فمنعوه .. تكرر الأمر لأكثر من مرة، لكنهم أبوا، وفي كل مرة يتقدم واحد منهم ليستبدل صاحبه، إلى أن حط بهم المقام أمام بيت المختار، فأسرع صبيته بإخراج الخراف من الزريبة، نحروا الأول والثاني ثم الثالث والرابع، تعالت الأصوات: بركة يا مختار .. كفى يا مختار.، إلى أن أشار المختار بيده، كانت سبعة خراف تتمرغ في دمائها .
ليلتها تجشأت المبروكة عن آخرها لحما وجريشة .. من حضر الطعام أكل حتى مناخره ومن لم يحضر من الصبية والنساء جاءتهم حصصهم إلى ا لبيوت، وفي اليوم التالي كان الأمر مشابها، إذ دعي الضيف من قبل جدك الشيخ إبراهيم، فنحر بدوره ثلاثة خراف وحين أقسم عليه المختار ألا يزيد عن ذلك، كان الرابع يتخبط بدمائه .
أسبوع والضيف يتنقل من قريب إلى نسيب ومن نسيب إلى صديق وأواني اللحم تدور على بيوت المبروكة بيتا بيتا، إلى أن هدأت حمى الضيافة، فبدأت تتسرب أحاديث الشاب عن السنوات، التي أمضاها داخل الأسوار المقدسة، كان الأمر مشوقا في البداية، خصوصا حين كان يوغل في الحديث عن جمال المدينة .. آثارها .. تاريخها .. من مروا بها وانتهوا كسراب .. عن الغاصبين الجدد وما يحملون من وعود .. عن بلفور وما أثاره وعده من غضب واستهجان لدى السامعين به، حتى أولئك الذين لا يعرفون شيئا خارج حدود المبروكة، صاحوا مستنكرين فعلته: من يكون هذا الفرفور، حتى يبيع ويشتري فينا وكأنا قطيع ورثه عن اللي خلفوه .
لكن الأمر تبدل بعدما همس حمدان في أذن المختار محذرا: ( هذول الإنجليز يا مختار .. إحنا مش قدهم .. وصي أخوك يخف كلامه عنهم ) .
تسلل الخوف إلى قلبه، شعر وكأنه قد كان في غفلة من أمره، بل وصل به الحال إلى حد تقريع نفسه ولومها على هذا القصور الذي لم تفطن له، حتى أنه لم يستوعب وهو الخبير صاحب التجربة، أن يذكره واحد مثل حمدان بسوء العاقبة، أو يحدثه بهذه النبرة التي لا تخلو من التحذير، لكن ما ومضت به الذاكرة من مشاهد ذل، استحضرت ليلة اعتقال أبا يوسف ويوم أن أوقفهم الجند بجوار الكمب، جعلته أكثر مرونة وأقرب فهما لما قيل له، إلا أنه فشل في إيجاد الحل، فهو عاجز عن إسكات أخيه وأعجز من أن يحميه .
شغله الأمر وأرق مضجعه، تحذير حمدان أصبح كابوسا يلاحقه .. صورة الجند ليلة أن اصطحبوه لاعتقال أبي يوسف، مثلت أمام ناظريه ولم تفارقه، وأحيانا تمعن في إيذائه فيرى أخاه مكبلا بدلا منه، مرات كثيرة كان يلكزه، أو يشير له بطرف عينه، لكي يوقف اندفاعه في الحديث عن الإنجليز وأفعالهم، خصوصا إذا كان حمدان بين الجالسين ومرات أخرى يلومه بما يشبه الرجاء، فلا يلقى سوى الابتسامة الباردة وما تخلفه في النفس من نفور، حتى فاض به الأمر ذات مرة، فاستغل خلو الديوان من الناس وصاح في وجهه بسخط: اسمع يا ولد .. أنا دفعت دم قلبي عليك، حتى أشوفك سيد الرجال .. لكن تضيع وتضيعنا معك، فهذا اللي ما يكون مادمت حي .
- خوفك ما يغير المكتوب .
- اسمع يا ولد .. لا تلق علي دروس ومواعظ .. اللي تاه مني قبل خمسين سنة، يلزمك ألف سنة حتى تحصله . رد المختار بغضب .
- لا تشغل بالك بي، أنا عارف اللي بأعمله .
- خلينا من شرهم ونلتفت لأحوالنا . رد المختار برجاء .
- مش راح ينعدل إلنا حال، ما داموا جاثمين على صدورنا .
- اسمع .. ليه ما تفكر في الزواج؟ .
- الزواج .. أظن الوقت بدري عليه .
- اللي أصغر منك، صار عندهم أولاد . قال المختار بامتعاض .
- ومن صاحبة الحظ اللي في بالك؟
- اللي تشير عليها، وأنا أحضرها ولو كانت من الجن الأزرق .
- سيبني أختار إذن .
لم يمض سوى وقت قليل على عودة مسعود، حتى شاع في المبروكة خبر اعتقال الشخص، الذي قفز من على سور بيت مزيونة، كان ذلك في واحدة من الجمع وتحديدا بعد الصلاة وكأنما اختير الموعد عن قصد، فما أن فرغ الناس من صلاتهم، حتى توجهوا جميعا صوب المخفر، أثار المشهد حفيظة الإنجليز، فأوعزوا إلى حمدان وجنده بضرورة طردهم من المكان، لم يكن الأخير أقل خوفا منهم، بل شعر وكأن الجموع تستهدفه .. تريد رأسه، فأوعز بدوره إلى *استخدام القوة، وما هي إلا لحظة حتى اندفعت خيله بين الجموع بملء صهيلها.. فرقعت السياط ملهبة ظهور الناس .. علا الصراخ .. تدافع الخلق .. سقط بعضهم أرضا، ثم تفرقوا وفي داخلهم جحيم مستعر .
من دون تخطيط مسبق تداعوا إلى بيت المختار، كانت اللعنات تنهال من أفواههم كالسيول على حمدان ومن حكمه في أمرهم، الأمر الذي أثار مخاوف المختار، وجعله يخشى من أن ينظر إليه كمحرض، خصوصا بعد الرسالة التي تلقاها من حمدان، أو أن يستغل أخوه هذه الفرصة، لمعاودة حديثه عن الإنجليز وشرورهم وقد لمس في عينيه بريق غريب يشي بنشوة ما، فأسرع محاولا ضبط الأمور لكي لا تفلت من يده: ليش رحتم عليهم؟ . صاح فيهم بحدة ألجمتهم جميعا .
- ما دريت يا مختار بأنهم اعتقلوا …
- دريت يا أخي دريت؟ . رد المختار باستخفاف .
- مالك يا مختار؟ . رد أحد أقارب زوج المرأة باستهجان .
- وأنت مالك في؟ .
- أخوي ضاع منا بسبب هذه القصة ولما تظهر الحقيقة ولا على بالك . صاح الرجل مزبدا .
- أخرس يا ولد وغور من وجهي قبل ما أرميك برا .
- وحد الله يا مختار .. وحد الله . خرجت بعض الأصوات محاولة تهدئة الأمر.
- مش باقي غير هذا الصعلوك حتى يعلمني شغلي . عقب المختار بغيظ .
انصرف الرجل مغادرا يتبعه عدد من أقاربه وبقي الآخرون وفي نفوسهم غضاضة من تصرف المختار، الذي لم يجدوا له داعيا، بل وصل الحال ببعضهم إلى ترك المكان، كنوع من التعبير عن رفضهم لما دار فيه من مشاحنات، عندها تدخل الشيخ مسعود ملتمسا العذر لأخيه، متمنيا عليهم ألا يسيئوا الظن بأخيه وفي نفس الوقت أراد أن يوصل رسالة مفادها، أن الإنجليز وراء كل مصيبة حلت بهم . فلم تعجب الإشارة الأخيرة المختار، لكنه تقبلها على مضض، بعد أن شعر بسوء فعلته وحاجته الماسة لمن يصلح ما أفسده، غير أنه لم يشأ لأخيه، أن ينساق في الحديث على الوجهة التي أراد، فأرسل في طلب الشيخ إبراهيم وعدد من وجهاء المبروكة، ليستنير برأيهم ويستعيد الكرة مرة أخرى في ملعبه .
انشغل الناس في هذا الطارئ الجديد، لدرجة أن بعضهم قد غفل ولو إلى حين، عما حل بهم على يد حمدان ورجاله، وزاد من تأزم الموقف، ما بدر عن آل رفيق ( زوج مزيونة ) من مطالب، تدعو إلى رد الاعتبار إليهم، بعد أن أصبح الدليل ماثلا للعيان، لكن آل مزيونة لم يستسيغوا هذه الدعاوى واعتبروها نوعا من التعريض بهم، بعد أن تم حسم الأمر، وفقا للقواعد والأسس التي اتفقوا عليها، حتى أوشك النزاع أن يستعر ثانية بين الجانبين، لولا أن تداركه أهل الخير من عقلاء المبروكة، طالبين من كلا الطرفين التريث حتى تتضح نتائج التحقيق .
لكن نتاج التحقيق جاءت أكثر إرباكا، فما هي إلا أيام، حتى تبين للجميع بأن الرجل جاء سارقا وحين أحس بقدوم صاحب البيت فر هاربا، الأمر الذي صب في كفة آل رفيق، لكنه لم يخدمهم إلى الحد الذي يريدون، فمشاهدة الرجل وهو يفر هاربا من داخل البيت شيء وقذف المرأة والتشهير بها على النحو الذي حدث، شيء أخر .
كاد الأمر أن ينتهي عند هذا الحد وأن يقبل كل طرف بما شرع سابقا، غير أن ما تسرب للبعض من داخل المخفر، قلب الحسابات رأسا على عقب، كان في البداية همسا ترامى إلى مسامع البعض، ثم تحول إلى بركان يهدر مهددا بإحراق البلدة، فالرجل الذي ظل خافيا على الجميع، تبين أنه واحد من أعوان حمدان المقربين، جلبهم من خارج المبروكة يوم أن عين آمرا فيها وجعلهم يده التي تبطش وعينه التي تسمع، بينما أبناء المبروكة على قلتهم لديه، كانوا خدما لا يملكون من أمرهم شيئا، إلى أن جاءت لحظة القصاص، انفرد أحدهم بالشيخ مسعود وقال: عندي أمر خطير لازم تعرفه .
- قل ما تشاء . قالها الشيخ بعد فترة صمت وتفحص .
- حمدان راح يحرق المبروكة إن ما لاقى إلي يردعه .
- هات من الأخر؟ .
- الأخر أغرب من الخيال .
- تكلم يا رجل .
- اعترف الرجل قدام المحقق الإنجليزي، بأن اللي أمره وبعثه حمدان ما غيره .
- أيش ! .
- زي ما تسمع .
- وأيش هدفه من كل هذا؟ .
- يوقع بين المرأة وزوجها، مثل ما صار بالضبط وبعدين يطلبها لنفسه .
- لكن كيف اعترف الرجل على سيده ؟ .
- لما وجه له المحقق تهم ثانية، منها سرقة عتاد وسلاح، انهار واستنجد بحمدان حتى يحميه من الورطة اللي دبه فيها،لكن الملعون دبه فيها وفل .
- لازم يعمل هيك ولا هو أهبل حتى يشهد على حاله .
في المبروكة لا يخفى سر على أحد، أو كما يحلو لأهلها أن يرددوا في مثل هذه الحالات: ( بلادنا مقدسة لا يخفى فيها خافي )، لكن الخافي في هذه المرة، كاد أن يطيح بهم لحظة أن ظهر وكاد أن يستجلب معه، ما أصابهم على يد حمدان وجنوده في المرة السابقة، وربما على نحو أسوأ، فهذه المرة الأولى، التي تجمع فيها كل الأطراف على القصاص من حمدان، بما فيهم الفريقان المتخاصمان، مما أثار حفيظة البعض من عواقب وخيمة، قد يجرها أي تصرف أهوج على المبروكة وأهلها، فكلب الشيخ شيخ كما يزعمون .
لذا تداعى المختار وبعض الوجهاء إلى لقاء الميجر، استغرق الأمر أسبوعا حتى سمح لهم بذلك، طرحوا ما لديهم على مسامعه وأنصت الأخير باهتمام أشعرهم بالارتياح، لكنه لم يعطهم حكما قاطعا، بل وعدهم بالنظر في الأمر والبت فيه عاجلا .
أسبوع ولم يعد لحمدان من وجود في البلدة .. بعضهم ادعى بأنه اعتقل والبعض قال بأنه نقل،وما تبين بعد حين، أنه أصبح واحدا من رجالات الخواجا يعقوب، شاهده بعض الرعاة وهو يجوب بفرسه حول حدود الكبنية، يرافقه عدد من الشبان اليهود، لكن الأمر لم يؤخذ على محمل الجد،إلا حين جاء عبيد الشيخ عبدون كدأبهم بعد مواسم الحصاد، يسوقون المطايا محملة بالغلال والحبوب، فحدثوا المجتمعين في ديوان الشيخ إبراهيم، عن تعرض حمدان لهم بالسؤال وعلى نحو لا يخلو من وعيد، حتى حين سألهم عن الشخص الذي يقصدون وسمع ردهم، قال بنبرة ملؤها التهكم: سلموا ع الشيخ إبراهيم وبلغوه أن حمدان راجع يحكم المبروكة آجلا أم عاجلا
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1125 الجمعة 31/07/2009)