نصوص أدبية

مخاض في شارع

حبات تسقط الويل تأتي بالقحط وتنشف الإحياء لتصبح عظمة الخدود بارزة،فما عاد أحدا يذكر هذه المدينة قبل الحرب، لقد غادرها الجميع. ألا الجوع هو من بقى يمني الناس بأحاديث يابسة، ترطبها أمالا غمست بظلام الجهل وأساطير محملة بالسحر والشعوذة. ولم يبقى لأحد حلم يتغنى به، فقد إذاقة المرارة أهل القرية حتى أنجبت البؤس طريق نحوه الضياع...... أما هي فتشتعل أصابعها الصغيرة حتى تحمر ويختفي الإحساس بها فتضع كفيها تحت إبطيها لكنها لا تتخلص من مغص يسري آلما في كل أطرافها، ويدا تتعكز على كتفها وهي تسوق ذاك الجسد الهرم الذي يحمل لون شقائها وينادي طوال الوقت بصوت مختنق ينتحر قبل الوصول للسامعين

: ـ سجائر سجائر من يشتري سجائر

حاول كثيرا ان يعلم حفيدته قولها لكنه لم يستطع، فشاركته في حمل علبة السكائر، وان تكون عيناه التي فقد نورهما تدريجيا. اقترب وقت الظهيرة وبدأ ازدحام الزائرين لهذا المرقد الذهبي، كان الجميع منشغل بالوصول اليه ومن كل جهاته، كأنه قطعة حلوى يتوافد عليها النمل من كل صوب. اما هي فقد كانت فوق كل ذاك الضجيج والدعوات الموحلة التي تشبه الشتائم.... طلاسم.... أدعية.. رتبها خوفهم من يوم موعود...توسلاتهم عاهرة لا ترضي ألا قائليها، يستحسنها من يشكون الداء نفسه، وهم يحركون رؤوسهم بإيماء الرضا او يرفعون أيديهم تضرعا، وهناك يتصيد من يسترزق من هذه الدموع بأحاج ومواعظ لا تختلف كثيرا عن ما كان عند أهل قريش. الانتظار داء لا يفيق منه احد وهو في غفلة الاستغفار. ذنوب ستتكرر ويحين موسم الانتباه مرات ومرات وفي كل عام يجدون من يكرر معهم أدعية أخرى، حتى يعدو العمر في الانتظار والانتظار، وهذا الطابور الطويل لا يتحرك، لان الباب قد أغلق والرجوع يعني نهاية الدرب. كانت تنظر الى لمعان القبة الذهبية وهو يلمع مثل ما تخيلته من خد لامها في أحلامها، وذاك المرمر كف تطمئن عليه حين تفترشه وهي تنظر الى السماء ان تهبط بثديين كبيرين يدفئان وجهها وقت البرد ويطعمانها حين تجوع. الطفولة فارقتها مسرعة، أشعلها شقائها فحولها رماد، يصفها الزمن في أمكنة مهملة، عبثا وجودها، تدعى نكره صنفتها عيون الآخرين كنوع أخر من البشر، يزرع لا يولد.

 لم يعرف الجد، اي مخلب انقضت عليه كصاعقة؟ واقتلعته من مكانه الى السيارة ( البيك اب ) بقى جامدا لا يعرف الرد على ما يجري، لكن حفيدته أخذت تنادي وراءه وهي تتوسل رجال الشرطة ان يأخذونها معه. رفعها احدهم وجلست الى جنب جدها وهي ممسكتا بثيابه. الجد كمن ضرب على رأسه، وكنت له كلمات خائفة مبعثرة في فمه المرتجف تظهر كتسبيح كافرة بالحال سمعها احد رجال الشرطة وراح يقلد صوت العجوز ساخرا من تكراره الممل لكلماته اليتيمة والتي بقى طويلا يرددها ( إنني بائع سجائر، لست متسولا ). مر وقت طويل والانتظار يسحق الآمال بعصي اليأس السحرية. وتمدد الخوف في جسد الصغيرة، ليصلي الحزن فيها جهرا، وهي تجلس القرفصاء في بلعوم السجن الذي يغص بها في ممره الضيق. وكلما سأل الجد سؤالا أجابه الحرس ( انتظر حتى يأتي الضابط ). التهم الظلام أماكن السجن فحوصر بصيص النور متوسما بحمرة الشمس الخجلة. وقتها فتح باب السجن وادخل الطعام وراحت الصغيرة تركض الى أحضان الجد، قبلها وأجلسها في حجره وراح يلقم صغيرته. كان الشرطي واقفا إمام الباب حتى ينتهي الجد من أطعامها ليخرجها الى الممر. نظر الجد إليه مدركا ذالك، وراح يتوسل بنظرات مستعطفة ان يبقيها معه. كانت هي تبكي محتضنة جدها وكانت نظرات الشرطي تتملص منها لكن دون جدوى وأخيرا تركها، لم يقل ذالك لكنه أغلق الباب فتنفس الجد الصعداء. كانت هي تعبة فأغلقت عينيها وراحت الى البعيد هناك..... حيث عالمها الذي ترضاه بطيفها المشع بنور حنون يزورها في ظلام زنجي فيدفئها نور طيفها وهو يمسح دموعها المتخثرة على خديها، نظر أليها هذه المرة بحزن اذبل الراحة التي اعتادتها منه. لم يكن هو بملامح الأمس، كان وجهه يتسع لفراغات لها ان تملاها بأشكال المحسنين اما اليوم لم تستطع ان تجعل له ملامح، كانت دموعه تحرق ذاكرتها. عيناه ملؤها الدمع. قال الطيف بصوت جديد

: ــ الى أين ستذهبين اليوم !!!!!!؟ نظرت الصغيرة باستغراب وهي تستكشف تضاريس ذاك الطيف عسى ان لا يكون هو. انه يشبه النحت اليوناني يتساقط منه النور، كنافورة ماء يحرك يديه بردائه الفضفاض فيبدو كالريح يحمل خوفها عنها لكن الطيف راح يبكي وهو يمسح فوق رأسها. ثم امسك الطيف رأسه وأداره يمينا وشمالا وفصله عن جسده امسكه بين يديه ثم انتزعه وألقاه في كيس ورقي، ثم توجه الى الخلف وراح يبتعد بشكل لولبي الى ان ابتلعه الظلام حتى اختفى. اقتربت الصغيرة من الكيس الورقي وفتحته، سقط منها ورجعت مذعورة حين رأت رأس جدها داخل الكيس. أفاقت بأطراف مرتجفة مرعوبة وراحت تبكي وهي تحرك جدها لتوقظه، جاء الشرطي مهتديا بصوتها، وقلب العجوز يمينا وشمالا لكنه لم يفق ظلت الصغيرة تبكي وهي تنادي..عليه

:ــ جدي جدي اجبني يا.... جدي أحست أنها تزور مكانا موحش مليئا بوحدة وغربة، وان إقدامها تغرس لأول مرة في هذا العالم. لم تشعر عندما سحبها الشرطي عن الجثة حتى رأت جدها يبتعد عنها. تملصت من يدي الشرطي ولحقت وهي تنظر أليه نظرة مجنونة ثم تبسمت والدمع ينزل على خديها بارد وقالت له

:ـــ جدي تعلمتها واقتربت من آذنه وقالت له همسا:ــ سجائر من يشتري سجائر.

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1589 السبت 27 /11 /2010)

 

 

 

)

في نصوص اليوم