نصوص أدبية

أرغانونُ الفضاء

لو أنَّ الجنونَ تخلّى عن مَدِّ رخاوةِ ترابِها بجبالٍ هي بلا ريبٍ ركامُ أجسادٍ فقدت أوزانها، لتتمكَّنَ فقط من التحليقِ في فضاءِ الجنون، وإلا فإنَّ كثافةَ وجودِها محفوظةٌ، وتعرفُ هذا بإغرائِها لحظةَ فرحِها بالخمرِ والمجون.

قد يثقبُ المرءُ ذاكرتَه ولا يدعُ تخيُّلَ الزمنِ فرَساً،

ويحاججُ من أجلِ أن يجعلَ للنسيانِ طقسَ تأريخٍ يزعمُ أنَّهُ لا يموت..

قد يملأُ الخدرُ جسدَ الفكرة، فلا الوخزُ يُشعرُها بحرارةِ الخيال، ولا الطعنُ بالسيفِ بقادرٍ أن يجعلَ علباءَها تحسُّ بنشوةِ الألمِ في نخاعِ الحقيقة...

قد يسحبُ الكتابُ نفسَه من يَدَيْ قارئِه خلسةً، حتى إذا شعرَ أنَّ يديهِ فارغتان، تذرَّعَ بأنَّ عينيهِ مثقلتانِ بالنعاس، وأنَّ من الحكمةِ أن يخلدَ إلى النومِ حين يصبحُ العالمُ في رأسِهِ كهفاً...

أحياناً يفضِّلُ الرجلُ أن يموتَ، لا بعيداً عن مسقطِ رأسِهِ فحسب، بل عن نفسِهِ أيضاً، وإذ يرى أنَّ أمنيتَه هذه مستحيلةٌ ينتظرُ قلبَه حتى يبزغَ منه عشبُ العشقِ – أحمرَ طبعاً – فيستلقي فوقَه وهو يعلمُ أنَّ أضلاعَه آنذاكَ تفركُ أحلامَه ليسيرَ في جنازتِهِ صباحاً  ألفُ تابوت.

أحياناً لا يفضِّلُ الرجلُ امرأةً بعينِها للحبّ، ومع ذلكَ فهوَ يقول: إنَّ في العالمِ امرأةً واحدةً بعينِها هي التي من أجلِها ظلَّ أعزبَ مع الفقر، وصارَ شاعراً، فإذا سأله الناسُ عنها ظلَّ ساهماً حيناً، ثمَّ يشيرُ إلى الحصى والرملِ والماء، ويتوسَّعُ أكثرَ، فيشيرُ حتى إلى قشرِ برتقالةٍ مطروحٍ على الأرضِ ويجهش: تلكَ هيَ..تلكَ التي لا تحتجبُ عن نفسِها ولا عني، في كلِّ شيءٍ هيَ،  فهل تتوقَّعونَ وجودَها مثلاً في نخاعِ كلماتِكم وهي تنفي وجودَها، أو في مفاصلِ القهقهاتِ وهي تسخرُ من مسألةِ أني أعانقُها الآن.

في العالمِ امرأةٌ واحدةٌ، أما كثرةُ النساء فناشئٌ من كونِ جسمِ المرأة موشوراً تنعكسُ عليهِ شمسُ العاشق، فلا تتعدَّدُ هي إلا خدعةً  في الظاهر، والحقُّ أنَّ شمسَ العاشق تحتوي على تعدُّدِها، وهذا الإستنتاجُ منسجمٌ تماماً مع العلم التجريبيّ، كوني كوبرنيكوسَ النساء.

أذكرُ حين كتبتُ أوَّلَ بيتِ شعرٍ  تجعَّدَ وجهُ العالم، آيةَ أنَّهُ أصبحَ مؤهَّلاً للإصطفافِ حكمةً في رأسِ الملاك، بيْدَ أنَّ شَعرَهُ ظلَّ مسدلاً إلى الخلفِ، متهدِّلاً على كتفيهِ، وبقيَ عريضَ المنكبينِ، قويَّهما، آيةَ أنَّ الأرضَ منحتهُ ثقةَ الإلتحامِ بها كطفلٍ أوَّلاً، ثمَّ كزوجٍ استطاعَ أن يمزجَ بماءِهِ ماءَها، ويؤسِّسَ عائلةً تجدُ زمانَها كاملاً لو أنها نفثت أحزانها نعاساً، ودسَّتهُ تحتَ أجفانِ الحروب.

أيَّتُها البراءةُ الأولى

 أيَّتُها الفضَّةُ التي تشكِّلُ ملامحَ زمَنٍ لا يخصُّ إلا الذاكرةَ الموؤودةَ في الحروف.

 أيَّتُها المندسَّةُ وهي ماءُ عيونِ الإلهِ قيحاً في البثور.

 أيَّتُها المطرودةُ من رئتيها قسراً، والمذبوحةُ داخلَ فندقِ أمانِ الروحِ غدراً.

 أيَّتُها الأمُّ التي أوَّلُ من فجرَ بها ما تكوَّنَ في رحمِها الضوءِ حتى قبلَ الولادة.

 أيَّتُها التي توحَّدَ موتُها والحياةَ فلم يعد لأيٍّ منهما مغزىً إلا أن تستمرَّ هي، فلا تترك للحظةٍ دسَّ نفسِها في قماطِ الكلام.

الهباءةُ ليست أضعفَ نقطةٍ في جسدِ الفضاء، فهي أقوى من جبلٍ لا يطير.

قانونُ عزَّةِ الفضاءِ يتيحُ للهباءةِ أن تكونَ معقلاً. 

الهباءةُ براءةُ الأوزانِ مما يمكنُ أن يشتبهَ فيهِ فيظنه الناسُ لثباتِ الأمرِ ضرورةً قصوى. 

من الأرجحِ أن يقيمَ الشاعرُ مع الهباءةِ علاقةَ ندمٍ، فيتخيَّل أنها خريطةٌ للوطن.

الوطنُ يضحكُ

ويقولُ: إنَّ من الجميلِ أن يحلِّقَ على ظهرِ هباءةٍ ويستعمرَ الفضاء...

آنَ للحبِّ أن يسفرَ عن عقرباتِهِ، مادامَ لدغُ المحبوبِ هو طقس الكهانةِ في الزمن العنكبوت. 

لا وجودَ للحبِّ حقاً لكنَّه الألم 

الألم الذي يخدعُ ابنَ آدمَ غالباً، فيكونُ إلى حينٍ بئرَ نشوةٍ، ثمَّ إذ يندثرُ بأجسادِ الآدميين يعودُ إلى حقيقتهِ ألماً، وكلَّما سكرَ بالموتِ زادت في رأسِه يقظةُ الحياة.

آنَ للوطنِ أن يكشفَ عن صلعةِ القوافي، فلم يكن الشُّعراءُ يوماً إلا في خانةِ الأوباش، كلَّما تمَّ تشريحُ الحناجرِ المبحوحَةِ للشعاراتِ العنكبوتيَّةِ المبرمة.

الوطنُ يوجدُ في خيال الشعوبِ مجازاً، ولا بأسَ بهذا، لكنَّ الخطرَ كلَّه يأتي من أنَّ الشعوبَ في هذه القضيَّةِ بالذاتِ تتفوَّقُ على الغرابةِ في أشدِّ قصائدِ السريالزم ابتعاداً عن معقوليَّةِ المجاز، فإذا دقَّ ناقوسُ الحقيقةِ لم تشعر بخطر المكثِ هناكَ، حيثُ العماراتُ، والجسورُ، والطرقاتُ، وكلُّ ما لهُ مدخليَّةٌ بمفهومِ الحضارةِ يهوي على الرؤوس، أو يزلقُ من تحت الأقدامِ على رغوةِ صابونِ الخيال.

آنَ لي أن أتربَّعَ على عرشِ الحكمةِ، وأهزأَ من سفسطاتِ العقول.

كلَّما ربحَ الشاعرُ عقلاً خسرَ من إيقاعِ الروحِ فصلاً. حتى يفتِّشَ عن روحِهِ في النهايةِ فلا يجدُ إلا طللاً يوحي بأنَّ الرحيلَ كانَ إثرَ كارثةٍ مفجعاً.

إن أردتَ أن تعيِّنَ النقطةَ الفاصلةَ بين الموتِ والحياةِ، فارسم في ذاكرتِكَ طللاً، واستوحِ ما حولَه من ألمِ الراحلين.

لا حقَّ للشاعرِ أن ينكرَ أنه تنورُ العالم، فإذا ما بدا العالمُ فحماً، أو بدا في نظرِ نفسِه من أثرِ الحروقِ مشوَّهاً، فعلى الشاعرِ أن يقفَ شجاعاً، ويعلنَ أنه غيرُ نادمٍ على هذا. بل عليهِ أن يرهِبَ القضاةَ أيضاً، فيجبرهم على التحديقِ إلى عينيهِ بانكسارٍ، فيضمروا في أنفسِهم أنَّه الأحقُّ بأن ينحرَ الوجود،َ كلَّ الوجودِ، بصفته خروفاً.

 

باسم الماضي الحسناويّ

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1134  الاحد 09/08/2009)

 

 

في نصوص اليوم