نصوص أدبية

زيارة

لذلك رتب حديقة منزله وفق تصوره الخاص فوضع المناضد متقاربة وصُفَّت الكراسي متقابلة، ثم رتب الشموع الملونة بشكل متناسق واتخذ مكانه طرف المنضدة الوسطى.

الفكرة راودته منذ زمن بعيد لكن مشاغله الكثيرة جعلته يؤجلها حتى تفرغ تماما قبل أيام، فتذكر المناسبة. أراد أن يعرف ماحل بأصدقائه السابقين الذين انقطعت أخبارهم عنه، فلربما التقوا بعد التخرج مصادفة، أما الآن، فقد لايستطيع أن يميز وجوههم. خمسة وعشرون عاما انقضت على التخرج، كان خلالها منهمكا في عمله الحكومي، قبل أيام أحيل على المعاش، ولاشيء يعيقه عن معرفة ماض يتلهف إليه، وما كان عليه إلا أن ينشر إعلانا في كل الجرائد يدعو فيه أصدقاءه الجامعيين الذين تخرجوا في الجامعة معه إلى قبول دعوته والاحتفال بالمناسبة ذاتها. الساعة الآن السابعة ولما يحضر أحد بعد، وكان ذهنه مشغولا برسم صورة للفصل. مكانه المفضل الكرسي القريب من الحائط في الصف الوسط. إنه يذكر في هذه اللحظة بعض الأسماء، وأماكنهم بالضبط. كان عددهم مائة وعشرين طالبا. في ذاكرته بعض الأسماء فقط. مكان " سناء " كان الكرسي الوسط في الصف الأول القريب من منصة الاستاذ، بعد التخرج مباشرة تزوجت الطالب " حسان ". أما " صادق " فقد هجر زميلته " نداء " واقترن بطالبة من كلية العلوم، مثلما لم يكن له كرسي معين. بعد التخرج رحل أكثر من ثلثي العدد إلى أماكنهم في المحافظات الأخرى، أما أصدقاؤه من سكان المدينة نفسها فقد تفرقوا كل إلى عمله. لاشك في أن البعض منهم انتقل إلى رحمة الله، لكن زمن الموت لم يدركهم كلهم، حين تخرجوا كانوا في سن الخامسة والعشرين...بعد خمسة وعشرين عاما  يعودون إلى اللقاء ثانية، يجتمعون في بيته يستعيدون أيام التلمذة. لابد أن يكونوا قرؤوا أخباره في الصحف والمجلات، وعرفوا عنه كل صغيرة وكبيرة إلا أنهم ليسوا بشهرته غير أنه سيعرف هذه الليلة أخبارهم منهم مباشرة، ويسألهم عن الذين غابوا، على أية حال أن تعرف شيئا خير من أن تجهل كل شيء، وإن حدث ذلك بصورة متأخرة أي بعد خمسة وعشرين عاما. الساعة قاربت السابعة والربع، والمكان مايزال خاليا. لايعقل أن يكونوا ماتوا كلهم. مائة وعشرون طالبا وطالبة. أعمارهم أضحت في الخمسين، يعرفون صديقهم الأديب المشهور، ويتذكرون قصيدته الغزلية ذائعة الصيت " ذات البدلة الرمادية" التي تغزل فيها بالآنسة " آمال " فانتشرت بين الطلاب وعبرت حدود الجامعة إلى الجامعات الأخرى. كادت القصيدة تحرجه عندما استدعاه ذات يوم عميد الكلية وطلب منه الكف عن التغزل بالآنسة " آمال " بعد أن اشتكت أمره إلى العمادة لأنها أصبحت حديث الطلبة بفضل قصيدته، لكن المفاجأة كانت مختبئة كالقدر نفسه. كذب ماسمعه أولا ثم أقر بالأمر الواقع. الآنسة " آمال " أعلنت خطوبتها إلى استاذ البلاغة، ذلك الرجل المتجهم الوجه الأصلع الجاد في حديثه وسلوكه إلى أبعد الحدود ثم إنه يكبرها كثيرا... ففي الوقت الذي أشرفت فيه على سنّ الخامسة والعشرين كان الأستاذ يقترب من الأربعين، ومع كل سلبياته التي وجدها فيه وعددها للطلاب فأيدوه، والتقت وجهات نظرهم حولها، فان الاستاذ لايتمتع بأية قدرة على جذب النساء.

لن يدري لعل الآنسة " آمال " أو السيدة تأتي وحدها على الأغلب أو تصحب معها رجلا كهلا...شيء محتمل... كل الأمور تخضع للمفاجآت...تلك هي الحقيقة الوحيدة التي يعرفها قبل خمسة وعشرين عاما.

هذه المرة دقت ساعة الصالة معلنة السابعة والنصف، ومع دقاتها تهادى إليه صوت الجرس، ثم دخول شخص نحيف، طويل القامة يزيده نحافة وطولا بدلة بنية عريضة يرتديها كأنها صممت أساسا لحجم أكبر منه.

صحيح إنك تغيرت يا عبد الرؤوف.

قال الضيف عبارته... احتضن كل منهما الآخر، وكان الأديب " عبد الرؤوف " يحصر ذهنه ليتذكر صديقه القديم. وجد إحراجا في أن يسأله عن اسمه. انشغل ذهنه بالبحث عن أسماء نسي معظمها، وحاول أن يتجاهل ذلك مؤقتا فقال يسالم ذاكرته التعبى:

كثيرا ماكانت الصحف تنشر لي صورا قديمة يرجع عهدها إلى أيام التخرج!

فجلس الصديق القديم على أقرب كرسي، وواصل حديثه:

حتى لو تغيرت فلن تستطيع الافلات من ذاكرتي، فأنت تعرف صديقك القديم " رشاد " قوي الذاكرة دائما. يتأخر عن مواعيده. كنت أدخل القسم متأخرا نصف ساعة تقريبا. هذه هي عادتي القبيحة الوحيدة التي لم أستطع التخلص منها، فأرجو أن تعذر صديقك القديم على حضوره بعد نصف ساعة!!

رشاد؟... رشاد لكن من هو رشاد، قد يكون قطرة في بحر من الاسماء " سناء " " آمال " " حسن " " كامل " أين كان يجلس بالضبط؟ نحن كنا مائة وعشرين طالبا، وليس من السهل عليّ أن أتذكر  من هو " رشاد " صاحب الذاكرة المتوقدة. قال يداري ارتباكه:

أذكر ذلك جيدا. إنك كنت تتأخر باستمرار. لاداعي لأن تعتذر لي عن تأخرك. على أية حال ماذا تحب أن تشرب؟ 

أطلق الضيف ابتسامة عريضة، وقال شبه محتج:

أنسيت طبعي؟ كنتم تطلقون علي لقب الليموني لأنني لاأفضل أي شراب على الليمون بالثلج.

كان يتفرس في وجه صديقه القديم، وهو يعد له كأس الليمون، لعل الصمت والذاكرة خلال الزمن تسعان خياله، وتساعدانه على معرفة من هو " رشاد ". هذا الجسد النحيف والابتسامة العريضة، واللثة التي فقدت أنيابها،وجه يفيض بالطيبة ولايوحي بالسذاجة قط.

كل الأمور السابقة يمكن أن يتذكرها ذات يوم، أما الشيء الذي يصعب استنتاجه فهو الزمن، هناك زمن مبهم يتقيد " رشاد " العصيّ على الذاكرة به ويصر عليه.

سأل صديقه بعينين تنمان عن الحيرة:

لقد عرفنا كل شيء عنك. لملذا تحب الليمون، ولم تفضل الملابس الداكنة " كان عبد الرؤوف يمعن النظر ببدلة ضيفه فيبني استنتاجه الأخير" كل شيء تقريبا عدا شيء واحد هو تأخرك الدائم.

فمال الضيف نحو صديقه الأديب وهمس:

أخبرتكم أن الأمر سر لايمكن أن أبوح به!!

فهز الأديب رأسه شبه مقتنع وتمتم:

وهل مازلت تصر على الكتمان بعد كل هذه السنين.

قال الضيف شامتا:

الآن لاخوف من أن أبوح بعد أن استنفدت السنين.

حصر الأديب ذهنه ليتذكر أصدقاءه العبثيين زمن التلمذة. من المحتمل أن يكون رشاد واحدا منهم أو لعله غير اسمه  لكونه لايرغب في أن يُفرض عليه من والده. كل شيء محتمل،ومع ذلك فقد استعصت الذاكرة على التوغل في الماضي المبهم:

وما الذي كنت تخاف منه؟

أن يفاجئني الزمن، تجاوزت مفاجآته بالتأخر عنه، أما أنتم فكنتم مثلي الآن غير مستقرين. كنت على النقيض منكم تماما، بعد كل هذه السنين تعبتم فركنتم إلى الاستقرار، وبدأت مشواري.

الأسئلة تحاصره حول الوجه الغامض الجالس معه، ولامجال أمامه إلا أن يهرب بأي شيء من حيرته  أي شيء كان، أدار لضيفه قدحا آخر وسأل:

أتعتقد أنهم لم يقرؤوا الاعلان؟

قال الضيف بحماس:

عليك أن تعذرهم  بعضهم مات طبعا، وبعضهم ركن في مدن بعيدة  ومن حسن حظي أني قرأت الاعلان اليوم بعد الظهر لأنني كنت في سفر ووصلت إلي الصحف متأخرة بعد الظهر.

ضيف مبهم خير من لاشيء. وجود شخص معه يريحه. كان يرغب في استعادة السنين فجاءت، وفجأة تذكر أنه يجهلها، ويكاد يضيع في متاهاتها البعيدة؟ كيف وجدت الاعلان؟

عاد الضيف إلى ابتسامته العريضة:

لو كنت مكانك لكتبت الاعلان بصيغة أخرى: يدعو الأديب المعروف السيد عبد الرؤوف أصدقاءه الأحياء الذين... دفعه الاستياء إلى المقاطعة، فقال وهو يرمق ضيفه بنظرة عتاب:

خطر ذلك إلى ذهني. الحقيقة إني تشاءمت من ذكر الحياة والموت.

كرع الضيف كأسه دفعة واحدة وعقب:

ولِـمَ نتشاءم من شيء يفرض أمره علينا؟

ثم نهض وهو يواصل كلامه:

من حسن حظي أني قرأت الاعلان اليوم فحضرت ألبي دعوتك ربما تسمح لي ظروفي بزيارتك مرة أخرى لأستعيد معك ذكريات الجامعة، أما الآن فعلي أن أتركك وحدك لأنني سأسافر الساعة الثانية عشرة بالضبط.

فاجأه الضيف باعلانه المغادرة. ضحك من نفسه وكأنه خسر ذاكرته حين راح يبحث عن ماض يتعثر به، ماض تجاهله سنين طويلة ثم تذكره فجأة فغابت عنه صوره وعادت إليه بوجه غريب عنه. الوجه النحيف. الفم الأدرد. أشياء من المفروض أن يكون رآها وعاصرها من قبل.

بعد قليل سيقفر البيت، ويحتفل وحده بالعام الخامس والعشرين على تخرجه. ليت الضيف المبهم يؤجل سفره لكن الأماني كانت أكبر منه ومن سنواته الخمس والعشرين. كل شيء أصبح ماضيا الشعر والتلاميذ و " آمال " والاساتذة. اصبحوا يشكلون ذاكرة منسية تحكمها صورة صعبة الالتقاط.

كان الضيف يبسط يده بانتظار صديقه الأديب... فجأة تكدست الشموع، وتلاشت مشاهد الانتظار كلها. اختفى المنظر كنسمة دافئة يجرفها الشتاء. لم يبسط يده ليودع ضيفه المبهم، بل قال بتصميم:

كلا... سآتي معك.

لعلك متعب بعد كل هذه السنين

هز رأسه غير مقتنع. كان يلتمس الزمن فيؤمل أن يتذكر ضيفه القديم يوما ما، وكانا يغادران الدار إلى حيث لايدري.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1594 الخميس 02/12 /2010)

 

 

 

 

في نصوص اليوم