نصوص أدبية

وثــــــن

 الأرجوحة والكرسيين المتقابلين أمام المنضدة الصغيرة. وفكر بإضافة أشياء أخر لو أن الوقت مساء: أن أبي يحب الشاي والمذياع وخرطوم الماء. كل ذلك في الأصيل عندما تغادر الظلال أوكارها السرية بين عقد الجذور المطمورة تحت الأشجار، لكن أبي لا يحب القيلولة، وصوت آلة التبريد، وضجيج الأخت الصغرى، لذلك فهو يخرج إلى الغرفات. لقد دأب على ذلك ثلاثة أيام متتالية. رآه يفتح خزائن الملابس ويستلقي تحت الأسرة، يزيح الستائر عن النوافذ ثم يتسلقها ليلقي نظرة طويلة في الحقائب السود فوق الخزائن.

سأله في اليوم الأول: اسمع يا علي.هل رأيت كرة، شيئاً يشبه الكرة الصلبة؟

فتساءل الصبي: كرة!؟

-     لا إنها تشبه الكرة ليست كذلك بالضبط ولكن:

-     لابد أن بعض الكرات توجد تحت الأشجار في الحديقة.

-     ولكنني أسأل عن شيء مختلف تماماً. تخيل كرة من الحجر اقتطعت منها بعض الأجزاء، فأصبح لها شعر وعينان واسعتان.

-     ليس عندي!

-     إنني لا أقول ذلك. ولكن هل سأجد ما أبحث عنه. كان قد قرر في اليوم الثالث أن يساعد أباه في البحث لذلك فقد غادر موقفه أمام النافذة المطلة على الحديقة، واضطر لمراوغة عدد من العلب المبعثرة على السطح. وقد خلت من الأشياء التي كانت تحتويها حيث رآها على شكل أكوام أمام والده الذي ظلّ جاثيا على ركبتيه، دون أن تمس سافلته الأرض ويمسك أشياء مختلفة يقلبها بين يديه، ويعيدها إلى أماكنها.

-     والآن يا علي، لابد أن أكون قد وضعتها هنا، منذ زمن طويل. إن أمك تعرف هذه القصة.

     قال علي: لنسأل ماما.

-     لا  إنها لا تريد ذلك!

-     لماذا؟

-     لأنها لا تريد أن ترى شيئاً قديماً يخصها!

-     ولكنها ستساعد.

-     دعها تأخذ قيلولتها. أما أنت.

أحس منذ اليوم الأول أن أباه يحرص على عدم ابتعاده.

      لقد خيل إليه أنه إنما يفعل كل ذلك من أجله هو. وجعلت تلك الأشياء تلوث أصابع يدي أبيه وراحتيه، ورأى قطرات العرق تومض فوق غضون جبهته، وتسيل من بين حاجبيه، ثم تتجمع فوق أرنبة أنفه، ورنّق كدر مشفق عميق كل أحاسيس الصبي.

-     ألا يجوز أن تكون قد ضاعت تماماً؟

-     ربما ولكن علينا أن نواصل البحث. إذا رأيت في أي مكان في البيت كرة من الحجر. ذات شعر وعينين واسعتين، فإن عليك أن تدلني.

-     أجل.

وذهب الرجل إلى مكان آخر في السطح، نظر خلف عدد من الأسرة القديمة المكدسة فوق بعضها البعض ثم عاد وهو يضرب كفا بكف محاولاً تخليص يديه مما علق بهما من غبار.

قال الصبي: من أين اشتريت تلك الكرة يا أبي؟

قال الرجل: أنا الذي صنعتها:

ثم دنا وجلس أمام علي. ومس ذقنه بسبابته، ثم رفع وجهه حتى أدركت نظرته عيني الصبي:

-     نعم لقد صنعت ذلك بنفسي، أحضرت كتلة من الحجر الصلب تشبه الكرة، وجلست في البيت قائلاً لنفسي سوف أصنع من هذه الكتلة الصماء وجهاً لفتاة صغيرة شعرها جميل، وعيناها واسعتان، ومضت أيام عديدة، ثم تم لي ذلك.

-     هل كنت تعرف تلك الفتاة؟

نعم لقد أصبحت إمرأة بعد ذلك.

-     وماذا بشأن شعرها الجميل وعينيها الواسعتين.

-     آه، لقد تغير كل شيء.

كان الرجل قد استرد سبابته، وضمّها إلى قبضته ثم أهوى بها على حجره. وما لبث أن استل سيكارة أشعلها وأعاد علبة الدخان إلى جيبه. فنهض عليّ وأرتفق كتف والده، ثم داعب شعره ومس صفحة وجهه . وامتدت لحظات الوجوم.

أن أبي حزين اليوم أكثر حزناً من اليوم الأول. لقد ظن أنه سيجد ذلك الشيء ولكنه لم يجده. وتمنى له أن ينسى. وأن لا يعاود البحث. ثم خطفت أمام عينيه صورة أبويه، وهما يجلسان معاً في الحديقة. متقابلين حول المنضدة الصغيرة.  

  

 .....................................

من مجموعة ( واجهات براقة )

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1594 الخميس 02/12 /2010)

 

 

في نصوص اليوم