نصوص أدبية

قليل من عدنان المبارك...

 هتف أحدهم ( يا جماعة خلي نجمع الأحذية من على خشبة المسرح تره عيب )!!!، قال الآخر: (ما ادري منين طلعنه هذا الملحد، احنه عايزين طلايب* ). قال الشيخ الشاب الملتحي صاحب العمامة: أأتوني بالمسؤول عن أدارة المسرح، قفز ثلاثة شبان على كهل بدين واقتادوه من خلف الكواليس، بادره الملتحي بالسؤال: اسمع، هل تعرف من يكون ذاك المجنون؟؟، مدير المسرح: لا والله يا شيخنا، صاح شاب يقف قبالة الميكرفون وهو بألكاد يحتضن كومة من الأحذية: انا اعرفه يا جماعة ( يغمز له مدير المسرح بحاجبه الأيمن، لكنه لا يبالي )، قال هذا ابوه كان زعرتي* ( او ما خله واحد ما اخذ من لحمه وصلة).

صاح الشيخ: اخواني اتركوا احذيتكم خارج المكان، واسمحوا لي بنصف ساعة من وقتكم حتى نتداول بما طرحه ابن الزعرتي، اعتقد ان ما قاله لأمر خطير!!!.

تضج القاعة بمعارضة غير معلنة، وتذمر مخلوط بخيبة أمل من التمتع بعرض شيق. يتجمع الحضور على المقاعد الخلفية والبعيدة عن خشبة المسرح بعد ان أوصدا شابان اسمران باب المدخل الرئيسي خوفا من تسربهم، في حين اخذت مجموعة من العائدين الى المسرح تطرق الباب بعنف بعد ان غادرته خلال زمن الخطاب الأول قبيل ان تبتره الأحذية ضنا منها ان الشروع بتقديم العروض الترفيهية بات وشيكا. قال احد الجالسين وكان معوقا: (اخوان ارجوكم ما ادري وين راحت عكازتي )، اجابه رجل يبدو عليه انه ثمل: ( يمعود يا عكازة يا بطيخ، آني رجليه اثنينهم سالمين وما مستفيد منهم، صبر شويه، شوف تاليهه شيصير، ايجوز راح اطير بعد شويه  الى الفردوس شسوي بالعكازات... هه.. هه... هه!!! ).

قال الشيخ الشاب بعد ان اعتلى خشبة المسرح: ارجوا من جميع الحضور الأنتباه لما سأقوله. لعلكم سمعتم ما قاله ابن الزعرتي حول الموت والحياة والجحيم وحول خالقهم، ولا اضنكم توافقون على ما قاله الهارب هو وأصحابه الكفرة، كيف له ان يستبدل الجحيم بالآخرين او بالأنا؟؟؟، صاح احد الحاضرين ( يمعود شيخنا انت راح اتعيد نفس القوانة* السابقة )، تقدم نحوه احد الشابين الأسمرين وكان يحمل بيده هراوة قال لا تقاطع الشيخ، اسكت خير لك!!!، هتف آخر بعد ان نهض من على مقعده وخطى بضع خطوات نحو منتصف المسرح: ( شيخنا الله ابو الخير، نحن العراقيين الآن ننشوي كل لحظة في قلب الجحيم، ولنا القدرة ولأطفالنا ومجانيننا وحتى كلابنا وحميرنا امكانية وصفه لك وله وبالتفصيل الممل، وقد أغفل سارتر وغيره الكثيرون الحديث عن جحيم الدنيا وعذاباته، والمواقد، وحفر النار الدنيوية والتي باتت اشد عذابا من مثيلاتها الغيبية ( الله ايخليك، آني اعرف انت راح اسولف على سقر، وعلى سلسلة ذرعها سبعون ذراع... وآني عندي الضغط والسكر مرتفع. ليش ما اتسولفنه على الولدان المخلدون احسن....!!! تره شبعنه خوف ورعب يمعود طلعة المصخمة* عليه )، ( تعج القاعة بضحك صاخب ). يضع الشاب الأسمر الهراوة على رأس المتحدث ويأمره بالانصات لحديث الشيخ.

 قال الشيخ بعد ان تحسس عمامته ووضب هيئتها: ان ما ينقصنا هو الايمان الحقيقي، ولو توفر ذلك لما سمحتم لمعتوه أن يملي عليكم آرائه وآراء رهطه الكفرة، كان من الأجدر بكم ان تقنعوه، ان تجادلوه، وان لم تستطيعوا فلكم ان تغادروا القاعة افواجا ولكم الأجر والثواب.

أخواني، يجب ان نتعرف على جهنم وكما وصفت في الكتاب الكريم، نتعرف على الدرك الأسفل منها، على انواع العذاب، والذي اسماه صاحبنا بالجحيم ( يرتفع صوت من آخر المسرح: شيخنا كل هذا العذاب الذي يمر بينه واحنه جاهلين... ليش.. ليش!!!، أكثر من 13 حفرة نار آني دخلت بيهه حتى اصل هذا المكان، يمعود انصف اشويه)، اخوي هذا امتحان الكم... اسمع حتى النهاية. اخواني: ان ما تطرق اليه صاحبنا وجماعته مبني على فلسفة دنيوية قاصرة، تفتقر للأدلة والبراهين، هي تحمل تصور تفوح منه روائح الكفر والألحاد. كيف لهذا السارتر المعتوه ان يقول ان الأنسان مخير!!!، والحرية التي ادعاها ماهي الا محض فوضى وانفلات غير مبرمج، حرية جلبت لنا وله الابتعاد عن الله، عن الأخلاق، ووفر التفكير بها فرص التمرد على النص الديني الالهي، وهذا الشعور بالحرية المطلقة المزعومة مكن العقل البشري من الانجراف نحو الشهوات والنزوات والتخلي عن القوى المسيرة والمسيطرة والتي اخذت على عاتقها تنظيم حياة المخلوقات وسن قوانين العقاب والثواب والمتجلية بالخالق العظيم. الحرية ليس معناها التخلي عن الله، بل يجب ان تترجم عند الحاجة لها الى التزلف من الخالق، هو واهبها وله القدرة على استرجاعها متى شاء، الانسان محكوم عليه بالطاعة والأمتثال الى أوامر الخالق وليس العكس. الحرية هنا هي حرية البحث عن الصواب، عن أسهل السبل لدخول الجنة ( يشخر احد الجالسين، ويتثائب آخر بصوت يشبه النهيق ). اخواني ان جحيم صاحبنا والذي اضاع دليله، لواضح، وهو متأرجح بين كون الجحيم عذاب الدنيا ام عذاب الآخرة، والحق اقول لكم ان عذاب جهنم لا مناص منه ولا عذاب يشبه عذابه، أما تخيلات الجحيم السفسطائية، فلا مكان لها في أذهاننا او أذهانكم ان شاء الله، قال تعالى: هذه جهنم التي كنتم بها توعدون ( يرفع المعوق يده، ويبادر الشيخ بسؤاله ) شيخنا عندي سؤال: مالفرق بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وهل كلاهما من الذي أسمه الله؟؟؟، ينتفض الشيخ ويقول بعصبية: احترم نفسك، هذب الفاظك!!!! هوالله لا اله الا هو الحي القيوم، الجبار، الملك، القدوس، العزيز...... ماذا اخبركم عن جلالته ابن الزعرتي...ها...ها...ها!!! تحدث ولا تخف ايها الأعرج. اجابه الأعرج: شيخا لا تكن عصبيا، إما ان نتحاور او تدع الفرقة الفنية الراقصة تقدم عروضها، ومثلما قال ابن الزعرتي ان الانسان خلطة باهرة للشر وللخير، ويظهر ان الشر قد انتصر في دواخلك على الخير، والمفروض ان يحدث العكس كونك رجل دين كما تدعي وتعرف طريق الهداية، انت هنا في موقف الهدم وليس البناء، وانا اعتقد جازما بانك ستجيب على سؤالي حول عذاب جهنم الغيبي والدنيوي بسيل من التناقضات المختلة والتي لا ترقى الى كونها تخاريف هزيلة ترفع من قيمتك ومن مكانتك وليس من مكانة الرب، الرب لا يرضى ان تخيفني انا المهزوم ذاتيا، بل عليك ان تساهم في منحي بعضا من حرية التفكير لأقترب من الخالق لا ان اهرب منه خائفا مرعوبا من عذابه المزعوم، انتم تحتكرون قوة الله وتوزعون رحمته علينا نحن الفقراء بالمثقال، تسعون الى زيادة غبائنا غباء اضافيا وبالأطنان، يدر عليكم الارباح الخيالية ويوفر لكم الملاذات الآمنة في حين اختلطت علينا المفاهيم ما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة واصبح الفصل بينهما امر عسير، جهنم او الجحيم او سمها ما تشاء هي بيوتنا، هي قلوب امهاتنا المتفحمة في أوارها، هي محارق لأزماننا وأعمارنا البخسة. ( يغلق الشيخ تلفونه الخلوي بعد ان كان يستمع الى مكالمة هاتفية طيلة حديث الأعرج ). صاح الشيخ وهو يبتسم للحاضرين: اخواني ( منو عنده سؤال ). ينهض الرجل الثمل من على مقعده، يمر عبر الممر الضيق متوجها نحو خشبة المسرح ( تدوي القاعة بتصفيق غير مسبوق )، يتوقف عند المقاعد الامامية قبالة الشيخ الشاب، في حين اخذ الشابان الأسمران يرافقانه بشغف وهما يلوحان بهراوتيهما. يتسمر الرجل برهة دون حراك، يخلع ربطة عنقه السوداء البالية، قال الرجل الثمل: اسمع شيخنا، ناقل الكفر ليس بكافر!!! صح ام خطأ، صح، طيب، لا اعتقد ان هناك فرصة لديك لاقناع الحاضرين، وبما انك اخذت من الوقت ما لم ياخذه ابن الزعرتي، والذي لم يجد تفنيدا منطقيا لآرائه ولآراء رهطه الأشاوس، اتبرع انا مشكورا بطرح بعض الأسئلة عليك، والتي لا تعتبرها من باب الكفر، اتمنى ان تكون اجاباتك مختصرة حتى نفسح المجال للفرقة الراقصة بتقديم عروضها والتي دفعنا ثمن ليس بالبخس لغرض التمتع بعروضها، آمل ان يتسع صدركم لناقل الكفر والذي هو انا ( يتمايل قليلا، يستند على كرسي قريب منه، في حين اخذت جموع الحاضرين تزحف رويدا نحو خشبة المسرح وتحيط بناقل الكفر الثمل )، قال اسمع: اود ان اذكرك بما كفر به ابن الزعرتي ورفاقه، وان تجبني على ما جاء به، وتذكر بأني ناقل للكفر فقط ( اوكي، مفهوم شيخنا، اوكي ):

- دراما عصرنا ان الغباء توجه صوب التفكير.

الشيخ: ان لم يكن التفكير نحو الخالق، فالغباء افضل منه!!!

ناقل الكفر: ولكن سارتر يقول ان الله قد مات ؟؟؟

الشيخ: هذا عفلقي، لا... لا... تذكرت هو شيوعي ملحد زنديق... ان الله حي لا يموت، وهذا القول من باب اطلاق الحرية لاستفحال وسيادة الالحاد.

- يقول نيتشه: كل نظام مثالي يقود الى العدم، وبما ان الدين والفكر الديني هما نظامان مثاليان، فهل يتكرم الشيخ بتفنيد هذه العدمية:

الشيخ: الدين نظام حياتي اخلاقي، ولا يمكن ان تنحدر الأخلاق في يوم ما نحو العدم، الرجل كذاب ومخرف.

 يقول نيتشه: ان التخلي عن الأيمان بالله يفتح الطريق امام التطور الكامل للبشرية كي تبدع.

- الشيخ: وهل وقف سبحانه وتعالى امام تطور البشرية، وهو القائل لمحمد اقرأ بأسم ربك الذي خلق، هي دعوة نحو التطور والابداع.

فكيف يحق لأحد التخلي عن ملهم الأبداع والمعرفة؟؟؟.

- ناقل الكفر: هناك مثل روماني قديم يقول ( الحقيقة تولد الكراهية )، والحقيقة هي أنكم تعيشون في الماضي، والكراهية هنا متبادلة، كراهيتكم للعقل المتمرد على الثوابت البالية، وهذا هو عين الانفلات او مغادرة بيت طاعة وكلاء الله في الارض وكما تدعون، اعتقد أن كراهيتنا مشروعة، ونحن نرى الكم الهائل من الاخفاقات والتراجعات في عقول وسلوكيات ابنائنا جراء تخاذل وفشل الفكر الديني بأن يكون غير ذلك، أيزاء اختزال الدين او قل اختطافه وضمه الى قائمة ( البزنس )، جبال من انتصاراتكم لا ترمم حجرا هدمه الفكر الديني الغبي المتطرف في البناء الهش المتهاوي لذواتنا وذوات اجيالنا الغير قادمة. ( يرن تلفون الشيخ، وينزوي قليلا للأجابة وهو يردد بصوت موسيقي اهلا..اهلا... حياتي.. معطرة بقهقات عذبة!!!، في حين يدس ناقل الكفر يده في جيب معطفه الرث مستغلا انشغال الشيخ ويستخرج قنينة من عرق المستكي الأصلي استبدل رحيقها بقنينة من - الكوكا كولا - للتمويه، عانقت شفتاه بشوق ثغر القنينة وبسرعة تفوق سرعة الخوف من الآتي. في حين اخذت طلائع الفرقة الراقصة تتسرب الى قاعة المسرح من الأبواب الجانبية وهي تردد بأيقاع عالي – الليلة حلوة حلوة وجميلة.... آه... آآآآآه... آه جميلة!!!!. يغلق الشيخ تلفونه على عجالة، ويطلب من حمايته  بصوت غاضب اسكات الجميع ).

قال الشيخ الشاب موجها حديثه الى الحضور ومشيرا بسبابته نحو ناقل الكفر والذي اخذ بدوره يلوح بقنينة المستكي نحو الميكرفون:

أن من ابرز علامات الساعة هو ما يشبه الذي يحدث الآن ( فاصل من التصفيق )، وهذا الذي يدعي انه ناقل للكفرلاغير، هو الزنديق الأكبر،  والنهيق المرافق للموسيقي الفاجرة يذكرنا بطواف رعيل الجاهلية الأولى حول الآت والعزى ومنات الثالثة الأخرى ( يعلو صوت دف..دب..دب.. طر..طر )  يهتف الشيخ بصوت عالي موجها حرسه الخاص: دونكم الزنديق ناقل الكفر، أأتوني به على عجالة!!!. وبسرعة البرق يقذف الزنديق الشيخ بقنينة المستكي، يحاول احد الحراس ثنيه عن فعلته وذلك بضربه بالهراوة على رأسه الا ان الزنديق يحاول الهرب متعثرا ببقايا أحذية خطاب عدنان المبارك الأول المبتور، متواريا بين الجموع المتوجهة نحو خشبة المسرح والمرددة: ( الليلة حلوة حلوة وجميلة... آه... آآآآآه... آه جميلة )!!!! غير مبالين بما يحدث للزنديق او للشيخ الشاب.

 يتعالى صوت صراخ من خلف الكواليس، يظهر بعده مدير المسرح وهو في وضع لا يحسد عليه، فقد عانقت قنينة المستكي المموهة صلعته على حين غرة، بعد ان اضلت طريقها نحو عمامة الشيخ الشاب، والذي احاطت به الفرقة الراقصة وهي تردد ( آه... آآآآآه...آه  جميلة ).

 

...............................................

نشر المفكر والأديب الدكتور عدنان المبارك خطابه الرائع المبتور في موقع ( ادب وفن ) تحت عنوان: ( خطاب مبتور بسبب الأحذية ).

لغير العراقيين:

* المستكي: من انواع الخمور المصنعة محليا

* طلايب: المشاكل

* الزعرتي: ختان الأولاد

* القوانة: قرص التسجيل، اي بمعنى اعادة الحكاية

 المصخمة: من السخام بمعنى السوداء *

 

01-12-2010 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1595 الجمعة 03 /12 /2010)

 

 

  

في نصوص اليوم