تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

إناث الدار

الصورة بالأبيض والأسود، وذات حواف بيضاء مسنّنة، وبقياس 9 ×5.13 سم. تناقلت الأيدي بالدار الصورة قبل أن تستقر بين يدي لالة حليمة من جديد، زوال ذلك اليوم. تفرّستها بإمعانٍ، وصاحت على الفور كما لو أصيبت بصعقة كهرباء: ويلي، حقاً أبوكما بُترت ساقه! ثمّ أجهشت، وخبطت على فخديها.

أخذ حميش الصورة، ومرق نحو الخارج. أسند ظهره إلى حائط الدار، وجعل يتفحّص المشهد تحت أشعة شمس شاقولية مشعّة، يفكك حوافزه ومركباته البصرية. وما برح أن التحق بأمّه بالبيت، وقد انفضّت إناث الدار من حولها، فوجدها قاعدةً على الحصيرة تذقن باليد، وتذرف الدمع، فيما شفتاها تلفظان كلاماً لا يبين، وعلى مقربةٍ منها أخاه يشهق ويتوسّل إليها أن تكفّ عن البكاء.

تكشف الصورة عن أبيه وهو ممددٌ بكامل جرمه على البطن فوق أرض منبسطة وقاحلة. يحتبي ببزته العسكرية المبقّعة، وينتعل مداسيه الجلديين العاليين، ويعتمر خوذة صلبة. يقبض على سلاحه ذي الحوامل الثلاثة على أهبة إطلاق القذيفة في اتجاه الهدف. إحدى الساقين استطالت عن آخرها، فيما انثنت الساق الأخرى عند الركبة فغدت متمنعة عن العين المجردة. ولا شكّ، فهذا اللبس في التمطط هو الذي حدا بخيال أمّه لكي يستنبت في الصورة أكثر المشاهد درامية. والحال، أنّ الصورة إيّاها أُخذت في سياق أجواء الحرب المخيمة عليهم منذ أسابيع. لم يفلح، أول وهلة، في إقناع أمّه بما عنى له من موضوع الصورة. كان يفسر وقائع الخطوط والأشكال، وتناضد مستوياتها في أبعادها الثلاثة، بينما هي لا تدرك الصورة سوى في بعديها الاثنين فقط، أو بالأحكم في صيغتها الحرفية فحسب. ظلّ يقلب الصورة أمام ناظري أمّه يشرح ما استعصى عليها استيعابه، وأخيراً بدأت تقتنع إذ قدمت لالة عايشة تفاسير ضافية كقولها إنّ الصورة الفوتوغرافية إنّما تلتقط في لحظات الاستراحة، وليس في معمعان المعارك، ثمّ هل بلغ السي حُماد من الهبل ما يجعله يرسل، من تلقاء ذاته، صورةً تؤدي إلى ذويه مكروهاً قد يعصف بحياتهم ويهلكها؟ وإذن، تستنتج لالة عايشة، فساق السي حُماد لم يلحقها ضررٌ. ولعلّه أراد من الصورة أن يخبر بأنّه لا يزال على قيد الحياة معافى، وفي صحةٍ جيدةٍ ليس غير.

حتماً، فالقراءة التي أنجز حميش لصورة أبيه، وقتئذ، هي وليدة الرغبة في التضئيل من حالة الانزعاج التي همّت أمّه، فأفقدتها الصواب والوسن. ولم يطفر في باله أبداً بأنّ تلك القراءة سيكون لها تاريخٌ. وأزعم الآن أنّ ما أحاط بتلك الواقعة من تعاليق وأحكام ساعد حميش، بما لا يُقاس، في تمثّل الأبعاد الثلاثة في رسوم الأشرطة المصوّرة التي توافرت لديه منها أعداد كثيرة. وسيعمل، فيما بعد، على استحضار ما تحصّله، معاينةً، فوق صفحات الدفاتر والكناشات، بقلم الرصاص أولاً، وبأقلام بيك الملونة ثانياً، ثمّ بواسطة الصباغة المائية ثالثاً، مع سعي محتشم إلى إبراز النتوءات والأحجام والقياسات.

الأنباءُ التي تفد من الجبهة لا تبعث على الارتياح، فالمعارك على أشدّها. نساء الدار يجدن في هاته الأنباء مادة للتجمع والتقول، واستقبال نساء من أحياء وحارات المدينة يتقاسمن الهموم نفسها. ذات أحدٍ تدثرت الأمّ بجلابيتها ونقابها، وقالت إنّهم سيزورون أسرة جندي بالطرانكات، ولم تكن أمّ حميش تبارح الدار سوى للتبضّع من السوق أو الاغتسال بالحمام أو لتؤمّ بأحد الولدين المستوصف القريب. وقلّما فكرت لالة حليمة في القيام بزيارة مجاملةٍ خارجيةٍ. أمضوا النهار كلّه لدى الأسرة التي استضافتهم. سمع أمّه تشكو لمضيفتها معاملات لالة منانة، زوجة الفقيه السي موحى. قالت إنّ المرأة تديم القعود المشبوه بوصيد باب الدار البراني، بينما للدار حرمتها التي ينبغي أن تصان، ولها رجالها حتّى وإن غابوا عنها. وتمنّت لالة حليمة لو انفردت بدارٍ تأوي أفراد أسرتها لوحدهم، وتبعدهم عن الأقاويل.

وفي اليوم التالي لهذه الزيارة، اتفق حميش وكشكوش وحسن على التربص عند الكدية، بالوسعة المقابلة، لاستجلاء أمر زوجة الفقيه السي موحى، وقصّ أثرها كلّما زايلت الدار. قدّر كشكوش على أنّه هو الذي سيستودف خبرها ما دام يجيد طرائق التستر والتخفي، ثمّ إنّه لن يثير الشكوك حوله أثناء أدائه لمهمته الاستخبارية. وأكد أنّه سيحرص على إنجاز مهمته تماماً كما يصنع العملاء في السينما.

تفرّغوا لأدوارهم الجديدة بشغفٍ كبيرٍ. ووجدوا في الموضوع ما يسلي، حتّى وإن شغلهم عن باقي الاهتمامات التي كانت ترصّع وجودهم في تلك المناخات الضاجة بأخبار الجبهة. قلّلوا، مثلاً، من التنقل بين المزابل لأنّه عملٌ يبعدهم عن مهمات التحري، وأبقوا، بالمقابل، على بيع الكاغد بالسوق لأنّه يضعهم، إلى حدٍ ما، في قلب الحدث؛ حدث خروح نساء الدار إلى السوق، وما يجري من حولهنّ أثناء ما يكنّ بصدد التبضّع.

آل حميش على نفسه، من جهته، أن يقضي أكبر زمنٍ ممكنٍ عند الكدية يترصد حركة السابلة أمام الدار. أحياناً، كان ينسلخ عن الكدية ويدنو على أصابع قدميه ليتابع عن كثبٍ، ومن طرف خفي، لمزات بائعي الحوت المحمّل في صناديق خشب فوق عربات اليد أو الدراجات الهوائية، ونظرات بائعي الخضار المتجولين وهم يعرضون بضاعاتهم وسلعهم على ساكنة الدار، وقد يبكرهنّ ليتنصّت الكلام الدائر بين مزودي الحليب وإحدى الإناث. يقول حميش، في سره، إنّه حامي الدار ورجلها، ولن يهدأ له بال إلاّ حين تستعيد الدار هيبتها وكرامتها المستباحتين. حربٌ هناك، وحربٌ هنا، ولكلّ حربه، يقول، أيضاً، وهو يحث كلاً من أخيه حسن وكشكوش على تكثيف ضروب المراقبة والاستقصاء.

وبدا لهم أن يغيروا خطة تشديد المراقبة فراحوا يترصدون نساء الدار على مبعدةٍ من دور القحاب. وطاب لهم أن يتتبعوا طرائق اصطياد القحاب للزبائن وكيفيات تبادل الغمزات واللمزات معهم. ولأيّام، عاقروا الدور إيّاها، وباتوا يتقرّون حركات هؤلاء النساء المتميزات، حتّى صاروا يحفظون ملامحهنّ، واختلاف أساليب الغواية التي يمارسنها. وحلا لهم أن يباهجوا الأتراب من أنّهم ولجوا هاته الدور وكسبوا لذّات غير مسبوقةٍ.

مرّ أسبوعان كاملان دون أن يجترحوا معطى ثابتاً يفيدهم في تزكية حديث لالة حليمة لصديقتها. عاتب كشكوش حميش على هدر وقتٍ كان الأجدر أن يصرفوه في المزابل تنقيباً عن نثار النحاس، وما شاكل، مما يدر عليهم الفلوس، ولا شيء غير الفلوس. ولم يتردد حميش فحرّره من مهامه. على أنّه ثمّة خاطر يهجس له بأنّ أمّه لم تخطئ في ما ذهبت إليه. وموقنٌ هو من أنّه بالغٌ قصده لا محالة. وفي أثناء ذلك، واصل قراءة الرسائل الوافدة من الجبهة على الأسر الثلاث، وتحرير خطابات أجوبة. وإذ شاع أنّه يتقن الكتابة فقد بات مثار عناية باقي أسر الجند. وفي زمن قياسي تضاعفت قيمته أضعافاً مضاعفةً، وغلا سهمه، وأمسى صاحب باعٍ؛ الباع الذي استغلّه في توسيع محيط المعجبات به من إناث العساكر، الصغيرات منهنّ كما الكبيرات، القادمات إلى الدار، ومستضيفاتهم إلى دورهنّ وبيوتهنّ. وفيما تنهمك الكبيرات في أحاديث عن الحرب، كان هو والصغيرات ينتبذون زوايا ركينةً تكفل لهم حلّ ألغاز أجسادهم وخباياها المستفحلة والمؤرقة. وحدث أن اكتشف أخوه لعبته هاته فاضطره إلى أن يشركه في بعض نهزاتها، لعلّه بذلك يلزم الصمت ولا يشهر به، فيعدم سطوته وعرشه.

لم تكن قراءة الرسائل بالمسألة السهلة. ولا يعود الأمر إلى تنوع خطوط الكتابة، حتّى وإن كانت أغلب الرسائل محررة بخط ركيك، ولا تتعدى الصفحتين، وحتّى وإن تضمّنت جلّ الرسائل كلماتٍ مسكوكةٍ من قبيل "إننا بخير ولا يخصنا إلا النظر في وجهكم العزيز" أو "لا بد نتلقاوا إن شاء الله"، وإنّما يرتبط الموضوع بالأجواء المصاحبة لتلقي الرسائل وفض أظرفتها، ثمّ بسطها أمام الأعين، وتهجي الحروف الأولى قبل الاسترسال في تلاوتها على نحوٍ جهيرٍ؛ وهي أجواء مشمولة بدموع الفقد والتذكّر، ومأهولة بأنين جواني موجع يرتسم على ملامح الوجوه كالندوب الغائرة. يطوف حميش بالبيوت والدور مدفوعاً بإلحاح من أمّه، فيجد الرسائل متخلصةً من أغشيتها تنتظره، ويباشر تلاوتها كأنّما يفعل بصورة آلية ودونما اكتراث كبير مما يسّاقط على أصحابها من أنباء ومستجدات. والحال، أنّه أعرف الناس بما ينحفر في الدواخل من أخاديد غطيسة تكلّلها غيوم سوداء، لابدة.

لا يخفّف من وزر ما هو عليه سوى تلك الخرجات التي ألفت جماعة الصبيان القيام بها للتفتيش عن كنوز النحاس، وتجزية الأوقات في تصفّح الأشرطة المرسومة، ودخول قاعات السينما والتجوق عند نواصي الدروب، ولا سيما عند قنة حانوت السيد ألفونسو، ثمّ الضحك والمسخرة لسببٍ أو لغيره، إلى غاية أن حلّ يوم عاشوراء، إذ ارتفقته لالة حليمة، هو وحسن، إلى السوق لتبتاع لهما اللعب. ولما شارفوا الحوانيت الزاخرة بأصناف الدفوف والبنادير والمزامير والدمى، وأنواع السيارات والسيوف والكرات البلاستيكية ومسدسات الزنك، وقد علت عقائر البائعين تسبقهم إلى مسامعهم تبتزّ وتتنضّض جيوب الزوار، صفنت الأمّ فجأة فيما الولدان يجران جلبابها، يشجعانها على ولوج السوق والاستجابة لنداءاتهما الداخلية اللجوجة. بعد قليلٍ، اتضح أنّها إنّما انهمكت في متابعة شبح امرأةٍ يدلف نحو درب فرعي، وينّمس في شراعة باب شبه مواربٍ لدار تتوسط دور الدرب، ثمّ ليتوارى بالمرّة. عادت بهما لالة حليمة إلى الدار على وجه السرعة بدعوى أنّها نسيت النقود بالبيت. بالدار، سألت مريم عن أمّها فلم تعثر لديها على ردٍ. وقالت البنات إنّ أمهنّ قصدت السوق. دخلت لالة حليمة البيت وخرجت لتصحب ولديها إلى الخارج. ولما اقتربوا من الدرب الفرعي المعلوم سهّمت الأمّ الباب بنظرة متفحصة، ثمّ مضت بهما إلى السوق، وهي تدمدم بكلام لا يفهم.

وحين آوى تلك الليلة إلى مضجعه، بعد نهار حافل بالمعارك التي خاضتها جماعة الصبيان بالمسدسات ذات الطلقات الفلين الحارقة، راح يستعرض مشهدَ انتصاب أمّه إزاء الدرب الفرعي إيّاه، وقد تزاحمت الشكوك في ذهنه عما إذا لم يكن الأمر يرتبط بالشبهات الحائمة حول لالة منانة، وتساءل إن كان الأمر حقاً كذلك فكيف فات لكشكوش التفطّن له، وهو الزاعم أنّ لا كفاء لذكائه بين عموم الصبيان؟

هذا الحادث العارض استولى على جماع تفكيره فعوّل على استفسار أمّه عنه. توضّحته لالة حليمة قليلاً، ثمّ نهرته وصفحت عن أي جوابٍ، وقرر مع نفسه أنّ كشكوش خذله. وجاء وقتٌ أهمل فيه، هو الآخر، الموضوع وانصرف إلى انشغالاته الدائبة.

ضرب لكشكوش موعداً مبكراً قبل أن يلتحق بهما أفراد الزمرة. رغب في أن يطلع الولدَ على صورة أبيه التي بات يحتفظ بها بمحفظته، ولا تفارقها. وكان مساء البارحة قد أخرج رزمة الرسائل التي تدسها أمّه في صندوق خشبٍ كبيرٍ، أخضر اللون، وسحب منها الصورة دون غيرها، ثمّ ضمّنها محفظة الجلد. أراد أن يمتحن بصر كشكوش إن كان قادراً على فكّ الإشكال الذي تتستّر عليه وضعة أبيه في الصورة. لكنّ الولد فشل في إدراك مغزى خطاب حميش. ولما أعلمه بما شبّ في ذهن أمّه، وهي تشخص إلى الصورة وتقلبها بين يديها، نبّله ببصر خارق، وانفجر ضاحكاً، حتّى أنّ حميش لم يكتم حنقه فأعلنه مباشرة ملء محيا كشكوش، وحذّره من مغبة أن يذيع ما بين أفراد الجماعة ما أفضى به إليه من أمر الصورة، فهاج هائجهذ كشكوش وهو يولي صاعداً العقبة إلى محلّ سكناه بجبل درسة. على أنّ الشائعة التي جعل يتهامس بها أطفال الدرب لم تكن تتعلق بموضوع لالة حليمة وما جرى لها مع صورة السي حُماد، وإنّما هي شائعة العثور على زوجات بعض الجنود في بيوت قحاب الباريو ملگا. هذه الشائعة أبهظت حميش، وأحرقت النوم بين جفنيه. أتكون نساء الدار متورطاتٍ، كلهنّ، في ما نمّ بين الأشداق؟ أيكون تساهل معهنّ وتغفّلنه، فقصّر في الثقة التي محضّه الكبار إيّاها وقد تفرّسوا فيه النباهة والخلافة؟ ثمّ ألا يكون القوم قد تلسنوا على عفافة الأمّهات حسداً وطمعاً إذ خالوا أنّ السبل خلت لهم؟

أحاط حميش ساقيه بذراعيه، وألصق ظهره، بحائط البيت، وأنشأ يفكّر في الظلام. اعتوره إحساسٌ بأنّ أشياء عديدة تقع في الدار، ولا يملك القدرة على التحكم في مجرياتها. وبدا له أنّه لو كان يحوز شارباً ولحيةً لربّما افترض قدراً من الاحترام لشخصه الصغير. استمزج رأي عاشور فأفتى عليه بوصفة علاج، قال عنها إنّها تنبت الزغب أنّى وضعت على الجسد. لم يكن موسم البطيخ الأحمر قد ورد بعد، بيد أنّه بالاستطاعة الحصول على فراشاتٍ، قال عاشور إنّ عليه أن يحك جلد البطيخ أو مسحوق أجنحة الفراشات فوق عانته وتحت إبطيه وما بين الأنف والشفة العليا والذقن لكي تنمو الشعيرات بوفرة كما جلد ماعز. البطيخ الأحمر ليس هذا أوانه، غير أنّ الفراشات البيضاء موجودةٌ في الخلاء تمرح جذلانةً، ويمكن اصطيادها بيسرٍ.

داخل جوف الحفرة الكبرى جلسوا تلقاءهم. كانوا خمسة صبيان، ثمّ أفردوا قاروراتٍ بمسحوق أجنحة الفراشات، وأقاموا حفل الانتساب إلى دنيا من يملكون شوارب معقوفة ولحى مسترسلة. مرّت أيّام بتمامها، فما نبق زغبٌ في عانة، ولا طرّ شاربٌ.

 

فصل من رواية تصدر قريباً / المغرب

 

 

 

 

 

 

في نصوص اليوم