تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

الرحيل إلى جسد البهاء

لا يخاف القتيل من سطوة القاتل، والكاهن لترهبه نواقيس الكنائس. يكتبون الصفحات التي تدعي الاستنارة، ويتوهمون البحث عن المشهد الأخر وهم غائبون عن بهاء الكرنفال، ويتناسون دروس الماضي القريب. دائما يتناسون ما قاله الأسلاف القدامى، ولا ترهبهم رهبة المقابر وأنين النساء الطالعات من أعماق الدهاليز. ربما لا يعرفون أن ورائهم تلالا وأولادا وأزهارا وأحلاما لم تتحقق ومدنا تتأهب للابتعاد عن غيمات الضواحي. ربما لا يعرفون أن الأجساد المتعبة لا تخاف من القلق القادم، والأطفال الذين لا يلعبون بالدمى في ساحات المدارس، يحفظون الأناشيد ويتأنقون تأهبا لمقدم أحد الأصدقاء القابعين في القبو. بعضهم ترجى لويصبح البحر الساخن ماء زلالا ليغسل الشوارع والأزقة والبيوت، وتباغت أصوات الدفء صقيع الأبدان المترهلة، وتبث إحدى الإذاعات خبر انبهار الفصول بالألوان، وارتطام جدار الحياد بصخور الرهبة. السماء خالية في هذا الصباح الشتائى من أي رذاذ مفاجئ أوطيور معاكسة للريح. المقاهي المكتضة بالهاربين من أسئلة الحاضر والمستقبل تصير أكثر هدوءا بعيد الغروب، والمسافة بين الجسد والقناع تزداد اتساعا، والأرض الحبلى بالهائمين والعطشى تزداد انفتاح على أشرعة الشروق. أحد الجالسين في مقهى « فسيفساء » يسأل الراجل الغامض: ما العمل؟ فيوجبه على الفور: عابر سبيل.

-  الهواية؟

-  تصفح الجرائد القديمة والذهاب كل مساء إلى ينابيع الرؤى.

-  إلى أين أنت ذاهب؟

-  راحل إلى مشهد الغيم وتأخذني خطاي إلى المدائن التى تعرفوا منام المزارعين وعشاق موسيقى الجاز.

-  كيف تنام وحيدا في الغرف المظلمة؟

-  معي حبري وصمتي والفاكهة. وكل الطيور تعرفني والحافلات والقطارات تتذكروا وقع أقدامي. جسدي لا يخاف من المجهول.

-  كيف صرت تتجول في التخوم بلا امرأة فاتنة أوسجائر أونبيذ باريسي؟

-  هذا ما فعلته بى المنعطفات. لست خاسرا في النهاية. وحده التاريخ يعرف من سيبقى راسخا في ذاكرة العالم.

لا شيء يشبه جسد الليل

ولا أحد ينحني أمام ملكوت البياض

الكون غيم كبير يغطى تفاصيل الحكاية

والشوارع ابتعدت عن هدوء الشرفات

 

نسير فرادى إلى هدوء النهر حاملين الحقائق والمعاطف والأزهار. ليس مهما أن يباغتنا الثلج الكثيف وتترقب مجيئنا جموع الأمهات الحاملات سلال الثمار وكتب المسائلة. ليس مهما إطلاقا أن يدعى لصوص المدينة أن أسلافنا لا يفقهون من الدنيا سوى الصراخ والعويل وعبادة الماضي. ألم يكونوا مغرمين إلى حد الهوس بمتابعة معارض الفنون التشكيلية وقراءة النصوص المشاكسة بمقولات السائد. ألم يكونوا أكثر إصرارا من ذي قبل على الخوض في كل المسائل بلا حرج أوخجل من يحبوا البحر لا بد أن يتحمل مرارة الملح. أن تكون جريئا وعنيدا وبعيدا عن الربوة، حتما ستصلك اليوم أوغدا شرارة النار. ربما تحترق وتصير رمادا صالحا لتأثيث المتاحف، وقد تنام على سرير حديث تحت ضوء شموع البوادي. أسلافنا القدامى لا يخافون من غياب القمر وكثافة الظلام وانحصار الضياء في دوائر ضيقة. يحبون صهيل الخيول وهدوء الخيام ومتعة الجسد بقراءة النثر والشعر. هل اختفت غرناطة من ذاكرة البعض وصارت المدن غائمة. وحده الضباب يلف العالم بلا موعد سابق. الرياح تأتي في أوانها والرذاذ يبلل ما ترسخ في القلب. يأتون من بوابات الماضي غير مكترثين بالصمت المطبق على الصدور والانتظار الذي لا تخفيه العيون. لا تخيفهم شرفات الكئابة والجموع الغفيرة تتقدم باتجاه بياض المنعطفات. ماذا ستقول عنك بنات الحي العتيق والسماء بلا أفق أوشمس أوطيور مهاجرة. لا أحد بإمكانه مواصلة المشوار طالما عازف الناي توقف عن العزف وذهب صامتا إلى كيانات الصقيع.

الرجل القادم من الضواحي، لا تخيفه العواصف، ولا تمنعه الرياح من الاستمرار في العناد والنهل من المعارف والأفكار والرؤى، فالأقاليم بطبعها في حاجة أكيدة لرجال من هذا الطراز، لكي تتواصل المسيرة ويسير الكائن الباحث عن سماء وهواء وفتيان هائمين، ليعلن أمام الجميع أن لا أحد بإمكانه احتضان الأسئلة القابعة في الرأس سوى المدن العتيقة العابقة بالدفء والحنين والباحثة بدورها عن مشروعية تاريخية وحضارية لديمومة الحياة واستمرارية الخصوبة. هل علم البعض أن طائر الفنيق يحلق دائما خارج الزمان والمكان تفاديا لضربات الجلاد وإمعانا في النهل من ثقافات العالم. وحده هذا الطائر يرحل إلى جسد البهاء، حيث الصفاء والنقاء وبراءة المشهد وحرارة الروح وانفتاح الضمائر على الأحلام والانكسارات والهواجس. الصحف والكتب الباهتة لا تعنيه.. ما يهمه هوالسفر وطرح التساؤلات الوجودية أمام الجموع الغفيرة، لعل أحد الأولاد يباغته بجواب فصيح يفسر له تداعيات المشهد الجنائزي.

ربما كانوا خائفين من الغيم

وصاروا اليوم حالمين بالمدى

فهل بعد عقود سنسأل أحفادهم

عن السر الكامن في الملكوت

والنور الطالع من الصفحات..

 

كاتب وشاعر تونسي

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1603 السبت 11/12 /2010)

 

 

في نصوص اليوم