نصوص أدبية

الخنــــــــدق

لا اريد الموت بمزاج مقرف يلبسنيه المعتوهون المستقوون على ضعفي وهشاشة وجودي في وطن لا يعبأ كثيرا بنعمة الحياة ويؤمن على مدار ساعة الحياة إن الإنسان خلق  فقط ليموت وعلى ذلك فما الضير أن يختار لك الآخرون طريقة موتك، أليس أحسن من عناء التفكير بأنواع المصير تأتيك نهاية لم تتعب كثيرا في الأستعداد لها وينتهي الأمر، هذا ما كنت أفكر فيه والسيارة الباص المرسيدس تغذ السير نحوالبصرة ومن ثم إلى مواقع القتال في الحميدية حيث سأكون جسدا حيا ولولحين أعوض جسدا قد مات ممزقا بشضايا  صنعت وصدّرت والقمت في فوهاتها لهذا الغرض، وبين نزولي من الباص واستقراري في الموضع الشقّيّ الذي يمتد كأفعي متلوية لا تلبث حتى تصادف جحرا يغور بعيدا في الأرض فتدلف اليه، ذلك الذي يسمى (موضع) وتلك الأفعى هي ذلك الخندق القتالي الذي صنع لنلوذ به من القصف ونيران القناصة، قلت بين نزولي من الباص واستقراري في الموضع القتالي كانت أفكاري تنسرب من دماغي كانسراب ماء من قربة معطوبة، ولكن عجبا هل يمكن الأستغاثة بأفعى، نعم يصح ذلك في الحرب، لكنه يبقى، أعني ذلك الخندق كأفعى ضخمة لا يفارق خيالي وأود أن تتقيأني هذه الأفعى في يوم ما ولومسلوخ الجلد، كنت أقلب افكاري ذات اليمين وذات الشمال قانطا ومستاءً مما أنا فيه من شعور يتدنى ليهبط لحضيض الفئران التي تشاركنا الحياة وتدعونا للتنازل عن كبرياء المخلوق البشري التي لا تنفع في مثل حالنا  نركض كأننا تلك الفئران في الموضع الشقّي ولكن ليس بمهارتها وقدرتها الفائقة على حماية نفسها من أخطارنا وهذا اسبوعنا الرابع قابعين في مواضعنا محاصرين بعد التفاف العدوعلى مواقعنا وعزلنا لكن والحق يقال كانت سريتنا المعزولة قادرة على المماطلة والمقاومة الى حين، خرجت الآه من صدري كقنبلة صغيره وانفجرت بوجه فأرة كانت تتحين الفرصة لإلتقاط ما لا نراه نحن من بقايا صمون الجيش اليابس، كان حديثي بداخل رأسي عن ورطتي وكرهي للحرب والجيوش ولون التراب الذي يغطي كل شيء، أخرج الضابط الضئيل رأسه قليلا ونادى أن نوبتي في الحراسة حلّت الآن هذا هو كل عالمنا الآن، إذ جلسنا الليلة البارحة وناقشنا وضعنا بهدوء، قال الضابط المجند الذي كان كأحدنا لا يميزه أي شيء عنا بعد إن نزع رتبته وأخفاها تحسبا من احتمال أسرنا، نحن لا نشكل شيئا برؤوس مفكري الحرب وعرّابيها لذلك علينا التفكير بواقعية، لاوجود لأي شيء سوى الموت أوالأسر  وكنا نعلم جيدا أن نسبة الموت كانت الغالبة وعلى ذلك فهوعدونا الآن علينا أن لا نموت، كان ضابطنا الضئيل من دورة خريجي الكليات المجندين يحلم بالبقاء حيا وليمضي قدما لشيخوخته كعباد الله  الآخرين وعندما أكمل كلامه قلنا نعم أنت على حق علينا البقاء أحياء مهما حدث، قال أيضا علينا أن ننسى القادة والصعاليك الآن لنمارس حربنا ضد الموت، أبعدنا فكرة انتهاء الحرب وتوقف القتال، ذلك لأن أدمغة السياسيين محشوة دائما بمادة  تمتص ولا تنضح، هي كالإسفنج لذلك لا بأس أن نستوعب حربنا الصغيرة ومساحتها الضيقة في ذلك الخندق الملتوي كأفعى والمرشح  لأن يكون قبرا فارها عندما تقتلنا وتدفننا فيه تلك القنابل التي تستطيع إزالة عمارة من أربعة طوابق، حين فكرت بذلك شعرت ببؤس شديد وبغرابة أن يصنعوا مثل هذا الشيء من أجل أجسامنا الواهية والضئيلة مقابل انفجاره العملاق وعندما أصل بتفكيري لهذا الحد أتصالح مع الموضع وترابه محاولا جهدي الإنتماء الى عالمه الصديق وترابه الحنون وأعلن تراجعي عن كرهي للأفعى التي تماهت مع الخندق الطويل الملتوي، في أغلب الأحيان لا نملك إلا الإسراف بسرد أحلامنا، تسبقها دائما جملة فيما لورجعنا سالمين

قال العريف عبد: لا أريد أن يلفونني بعلم مبقع الألوان يسلمون جثماني إلى امرأتي الشابة التي لم انجب منها بعد إلا نجم ونجمة، تعطيها الحكومة ثمنا جيدا لتحمل بعد ذلك لقب امرأة الشهيد، يمكن أن تبني لها بيتا وتقبض أول كل شهر راتب الشهيد ليهنأ الذي يتزوجها من بعدي وأنا أتفسخ في قبري سعيدا من أجل الوطن،.. صرخ عبد لالا..لا لا أريد أن أموت وعندما نسي نفسه ورفع قامته إثر انفعاله الأخرق كانت رصاصة القناص تبحث عن مكان في جمجمته، مات العريف عبد وهوحانق ورافض لفكرة موته، لم يكن عسيرا علينا دفنه  في مكان ما من جوانب موضعنا الشقيّ، سريتنا كل فصيل فيها مشغول بدفاعه ونحن لا يمكننا الأنسحاب تحت هذا الوابل من الرصاص وقذائف الهاون ومعلوماتنا تشير إلى انهم أمامنا وخلفنا، في الليل لا ننام أبدا دون أن ننسى انهم يملكون نواظيرا ليلية كما نملك نحن، تخيفنا أحيانا الكلاب السائبة فقد تعودت على أكل جثث الجنود الذين لا يمكن اخلائهم في الأرض الحرام، رأيت ذلك بعيني كانت وليمة للكلاب تلك الجثة  تقضمها الكلاب قليلا قليلا، في الليلة الأولى اختفى نصف الجثة الأسفل، وفي الليالي التي أعقبتها لم يتبق منها إلا كتلة الرأس أكلت الكلاب معالمها الرخوة أنفه اذنيه وخديه، صار بعد ذلك ككرة تدحرجها وتلهوبها الكلاب ليلا، وهكذا يمضي الوقت وتدهمنا صولة الجوع، لم نكن نهتم في الأيام الأولى ولكننا الآن قد فقدنا القدرة على الحركة، والتراب لا يؤكل ولن أستطيع أكل الفئران وإن مت جوعا، أمامنا على بعد مائة متر فقط مزرعة لوبياء وبطيخ كان ذلك ألذ ما نتشهاه، ما الحيلة والقناص بالمرصاد ليلا ونهارا، لم يكن احد منا نحن الثلاثة ليستطيع إقناع الآخر بأن يكون الضحية القادمة من أجل البطيخ واللوبياء، لذلك لم يكن أمامنا إلا القرعة وقد وافقت عليها بسرعة وبحماس ذلك لأنني سيء الحظ بالقرعة لم يظهر اسمي يوما فائزا في قرعة لذلك كنت شبه متأكد من عدم فوزي بالقرعة وقلت في سري هنا تكمن فائدة سوء الحظ، لكنني لم اعلم أن الحظ السيء سيجعلني  فائزا في الإقتراع وهكذا كان علي أن أتقبل النتيجة بصدر رحب، أجرينا قرعة الموت في منتصف النهار وعلي أن أزحف ليلا للمزرعة أجلب منها البطيخ واللوبياء وإلا متنا جوعا وكان برميل الماء في الموضع  لم يتبق منه إلا قليلا في القعر، كان أمامي متسع من الوقت لأقلب تصوراتي عن نهايتي المحتملة ثم رحت أقص عليهم كيف إنني سأموت الليلة ولن يستطيع أحد جري إلى الموضع ودفني جنب العريف عبد وراحت خلايا جسدي تتقبل فكرة المرور بين أنياب الكلاب واختفائي شيئا فشيئا في بطونها الجائعة، وعندما ألقيت نظرة فاحصة على أفكاري المشوشة وجدتني أحسد العريف عبد وهومطمورُ جنب إخوته الذين لا زالوا أحياءً، كيف لا أحسده وقد تمدد على تراب رخوودود وأنا سأنتهي في بطون الكلاب، قلت في سري ياله من محظوظ، ورحت بعد ذلك أدندن أغنية حزينة ورأيت انها خاتمة جيده سيبقى صداها برؤوس الباقين ولم تكد الشمس تغيب حتى اندلع قصف كثيف من جهة ما لا نستطيع تأكيدها فنحن في المنطقة الميته حيث تمر من فوقها آلاف القذائف المتبادلة ما كان لنا إلا أن نختفي في الموضع العميق المسقف بخشب اعمدة سكة الحديد السميك والمدفون جيدا بأطنان من التراب، بعد فترة ليست بالقصيرة ساد الصمت وبدأنا نسمع بعض الأصوات وصليل سرفات الدبابات، دخل علينا رجال عفر الوجوه كانت قوانا خائرة لا نقوى على شيء، رفعنا أيدينا فوق رؤوسنا، ضحك الجندى المترب الوجه قال: لقد انتهت محنتكم، سمعنا ما قال ولا زلنا راغعي الأيدي فوق الرؤوس فقد اتفقنا أن نبقى أحياء، قهقه الجنديذوالوجه المترب، وكان علينا استيعاب الحدث ببطيء.. بعد سنة كانت زوجة العريف عبد قد تزوجت ابن عمه ولم يكن من بد الأستمرار في الحياة، لم تفارقني صورة الكلاب وهي تدحرج كرة صنعتها هي.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1603 السبت 11/12 /2010)

 

 

 

 

في نصوص اليوم