نصوص أدبية

شبعاد

كانت هي ترمم أحلامها بالأماني الباليه التي تتهرأ في كل يوم يذوب فيها صباها، وبقية رهينة بتصرفات القدر الذي لا يستطيع أن ينتظر. بل يمضي بعقبه الحديدي فوق تلك الأحلام لهذا كانت تصديق كل شائعة يمكن أن تروي بها أحلامها العطشى.

وكانت شبعاد..... نور نبوة يوحي لها بالخلاص، تشعر به في كل يوم وهي ذاهب إلى العمل، كانت لا تراها كما يراها الآخرون، نصب لامرأة تحمل قيثارة عند مدخل المدينة، بل كانت تتصورها تحمل حبلا يمسك رقبة انتظارها الطويل وهي مثل طير يودع أنفاسه الأخير في يد ذلك الصياد.

لقد سمعت من الكثيرين أن تحت نصبها يعيش كل الذين اختفوا من المدينة.لقد دخلوا في الغياب وهوغياب لا علاقة الموت به، ومع هذا كان جميع أهالي المفقودين ينتظر أن تتخم بطن ذلك الحوت، وتقذف مكارم السلاطين، بقرار يعلن العفوا عن السياسيين يداوي قلوب الأهالي.

نظرة من حولها إلى فراغ الغرفة، الذي أخذ يصغر ويصغر حتى اقترب إطار الصورة المعلق على احد جدرانها وهومزين بشريط اسود يعلن أن الشاب المبتسم وسط الإطار هواحد المفقود، رفعت رأسها المتورم بذكرى ترتطم بأحلامها المهشمه وقالت مخاطبة صاحب تلك الصورة.

ـ:( اباركي ) اعدده شرابك، قلبا يملأ بالانتظار، أتشرب أوجاعي، هي تزحف من شراييني نحوك، تزحف مع إشعارك المجنونة التي تدحرجها الذكرى على صدري فيفقس بين أضلاعي شوقا وعذاب، ارحمني يا من لا يترك لي مكانا استظل به من عصف تذكره.

أتعلم أن الأسرار جميله ما ان بقيت أسرار، وأنت سري الكبير، رغم حيرة العيون التي ترجمني بالفضيحة، ما  سر غيابك عني، يا من علمتني حروف صلاة التجلي، التي لا يتوقف لساني عن ترتيلها، اهوالموت الذي لن يعيدك إلي لا.. لا يمكن للموت أن ينتزعك من حياتي، أتعلم كلما أفكر بك اشعر باني سأقابلك بعد دقائق آه.... حتى أني لأشعر بدفء قبلاتك المبعثرة في كل إنحاء جسدي وهي تنتظم حين يزورها خيال يدك نحوأمكنتي المتورمة بالأنوثة  آه ..... 

راحت تصغي الى صوت أمها البعيد

ـ: أنا من تريد منك ان تعيش فوق الأرض لا تحت ركام الذكرى.

خط الوهم المنبعث من ظلمت المكان خطوطا عبثيه، تشابكت مع حيطان تلك الغرفة، وتشكل همومها مثل بيت عنكبوت ثم أحست بأنها تسبح في فراغ شاسع أوأنها تهبط إلى عمق لا مستقر له، تعكزت بالعزيمة وأعانتها النار التي تستعر في داخلها على النهوض حتى استقام جسدها المنهك وأخذت بحركة معطلة تتقدمت نحوى الغرفة المجاورة ثم حملت مطرقة كانت على أرضيت تلك الغرفة، وخرجت مسرعة وهي تمر من أمام أمها المحملة بالخيبة، لم تقل تلك ألام شيء بل كانت فقط عيونها تراقب ما سيأتي به اليوم فقد تعودت أن تستسلم إلى القادم، لهذا لم تسأل أبتها عن أي شيء.

حملت المطرقة كالمجنونة ووصلت السير الى شبعاد.... نصب أميرة تحمل قيثارة على وركيها الكبيرين، وهي تجلس على جرة تنزف من جوانبها الماء الأسنة كأنها دماء تحتل جوانبها، دنت نحوها وهي تشعر بأنها أمام غول عملاق يبعث من أساطير الماضي، كانت صوره شبعاد في صغر سنها، صورة المستحيل أسطورة صدقها أهالي مدينتها بل ومزجوها في حياتهم بأساطير أخرى دخلت إلى الحوض المحيط بها ونظرة إلى شبعاد ثم خاطبتها:

- شبعاد يا وجعي الغمس بالحيرة، يا حزني المتخثر في عروقي، يأمل الممتد أشرطة نحوالشمس، يا نورا ذاب شمعه وما أطفأته المستحيلات، يا حلم تدثر بالوهم وغفى على براكين أيامي المتكرر، مازال بلعومي يغص بقلبي، حين ابتلع ذكر من تغيبين، فتتقطع أحشائي بمشارط حكمك الذي لا يرحم، اعصفي بي وانزلي لعنتك علي، وانتزعي عيني أوقلبي بمخالبك الرحيم والتي تشبه مخلب قط مشاكس يباغت امالي الصغيرة ويدخلني إلى معبد خوفك الأسطوري، اليوم تريدن مني إن أصحومما؟ من ألماض الذي سرق مني لذات الصبا وأحلام الغبية آه... ما أجمل من أحلام.

رفعت المطرقة، وانهالت على أقدام النصب، وهي تصرخ به:

ـــ أخرجيه أخرجيه لم هو تحتك

لم يكن صوتها فقط الذي كان يتوعد شبعاد بل كانت أصوات أخر تعلومع صوتها مثل ذاك الصوت الحنون وهويقول:

ــ دللوه يالولد يبني....... دللوه.....

انه صوت أم افزعت أسراب الأماني فحلقت في خوفها البعيد،  أمسكت رأسها المتصدع بذاك الصوت وهويمتزج بصوت اخر انه صوت أمها:

ــ أني سأغادر وستكونين وحيده فكري........فكري........... فكري........... فكري.

كررت الام تلك الكلمة وفوطتها تسقط من على رأسها فتظهر شيبتها المخضب بالحناء، أعادتها مرة أخرى فوق رأسها، لكن ألظلمه ألتفت حول كل المكان على صوتها:

ــ أني سأغادر وقتها ستكونين وحيده... وحيد.....وحيد... وحيده.

أمسكت شبعاد رأسها وسدة أذانها وهي تصرخ:

ـــ هذا الصوت يسد علي الطريق ويخرجني من بيت غيابه

بقى صدا يصدع راسها وهويتكرر في سمعها، أنزلت المطرقة بقوى على نصب شبعاد لتهشم وجه ذاك الخاطب، عجوز يرمقها بنظره صياد منتصر وهويلعق كوب الماء المقدم من أمها. ضربت بعنف وجه العجوز، فتطاير رسمه في الهواء، لكنة سرعان ما عاد وتشكل بابتسامته الماكرة، صرخت وهي تعيد المطرقة مرات ومرات على صدر شبعاد لكن دون جدوا فأخذت تصرخ بلا وعي:

ـ بوـ آبي أخرجيه بو- آبو.....  لست أنا وحدي من يطلب ذلك، بل كل الأرامل والأيتام في مدينة القحط هذه، تطلب منك هذا، أن بقيت هكذا طويلا سيلتحق معي كل من في المدينة، وقتها لن يرحمك احد سوف يحطمونك كما فعلوفي السابق يحطمون... جبروتك... قسوتك.... تجاهلك لمطالبنا، لماذا دون كل الأماكن هم تحتك يحتجزون. ألا تتكلمين؟ يا لك من بلهاء وانتي هكذا تبكين على ماذا على عذاباتنا، تمسك قيثارتيك ودموعنا تفيض من حولك الا تخجلي، اعزفي... اعزفي بأوتارها الناقصة، اعزفي بقيثارتك الصدئ اعزفي فهي تنزف نغما معطل، سأنتقم.... سأنتقم منك اقسم على ذلك سأنتقم من نفسي.

ثم انهالت عليها بالمطرقة كالمجنونة. الى ان خرج صوت نواح يجر خلفه عويلا طويل يصم الأذان يشتد صراخه بين الجموع، حتى بدأت عيون شبعاد تنزف، لقد شاهد الجميع بكائها بل دمائنا كانت تسيل من كرتي الموت الجامدتين في محجريها، لم  ترق قلوب الحاضرين لذالك فقد سلب الموت رقتهم واسقط الحنين رأفتهم، ووقفت شبعاد وسط الجموع وهي تصرخ كالخطيب:

- اسخري مني بصمتك هذا، وانزفي دمع أكاذيبك لكن لن تستعمري قلوبنا طويلا بهذه الخديعة. مدي يدك إلى السماء يا شبعاد، شاهدي بما حبلت..... بحياة ملوثة بالتضحية انها حياة تشبه الموت، أن كنت قد رضيت ان تدفن أنفاسك، ورضيت أن تسمعي فتواهم التي ألبستنا الى اليوم جلد النعاج، ولبست الحداد الذي لا يناسب صباك. وتركتيهم يعصبونا عينيك بهذه الظلمة. وسمرومعصميك بالخرافة، وقيدوه أقدامك الجامدة وانتي مثل الحمقاء تنضرين الى جمالك الذي كان الأرض بالحب، انتي السبب اذا لماذا إلى يومنا هذا وأنتي تحترقين تحت التراب الذي رضيت به، وإلى اليوم تسرقين منا أنفاس وجودك، أنتي من رسخت أحكامهم علينا، فنفينا خارج أجسادنا، حتى صارت أروحنا تائه تتلاطم في اجتهاداتهم المحصنة وكأنهم يعلنوا موت الله ليحكم من بعده. بوــ آبو... أني اسمعه تحتك يتنفس، وأنفاسه تمتد الى صمام قلبي الذي يختنق بدمائه، حان الوقت ان تترك لي لذه الحلم، أذوب بها ولوللحظات، انا لا اطلب اكثر من هذا، هل هذا كثير أجيبي ياحجر الصوان؟

 بو- آبو أنتي إثمه.... اثمه.... انتي الخطيء حين كنتي رمز التضحة، كنت اثمه حين كرستي رعبهم فينا الى اليوم .

سمعت شبعاد من خلفها أصوات تقترب، ومعه صرير لآليات عملاقه، وحشودا تتنام، استدارت، وإذا بها ترى جيش يحمل المعاول وهوينتظر منها أمر الانطلاق، وحين حانت اللحظة، هب الجميع، وبدء حفرهم، من حول شبعاد لكنهم ما وجدوا شيء، ومن تحتها وما وجدوا شيء، سقط النصب سقطت شبعاد وما وجدوا سوى ريح لجيف كذبت أمانيهم المعتقى من سنين طوال، حين شاع هذا الخبر تفرقت تلك الحشود وذهب بعضهم إلى أطراف المدينة، لنبش أركانها ونبش سمائها ليس للبحث عن أبنائهم!!! بل عن انتظار جديد!!! قالت وهي لازالت تضرب شبعاد صارخ بوجه السماء التي كانت ملثمه بالغيوم.

ـ: سأسلم جسدي أليك يا أمي...... ساسلم جسدي اليك يامي، كي لا يأخذك الموت مني، وأنت يا شبعاد لم يبقى لكي هنا شيء، حتى أكفانك سرقتها الحشود ولوثوطهرك. لكني لازال اشعر بروحه هنا تحتك، مرهونة هنا، أنتي يانخلة تضع إسرارها في القمم وتترك ساقها الجرداء مزروعة في الألم. هذا ما قرأت في لوحك المقدس وأخر سطر كتب فيه ( حين تموت الإله يدفن معه كل محبيها ) وهوتحتك اعلم  اعلم ذلك السر ولن اخبر به احد.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1604 الأحد 12/12 /2010)

 

 

 

في نصوص اليوم