نصوص أدبية

من وحي العربية نت

يتدلى فيرسمنا منبطحين على بطوننا جائعين، أو نكتب واجبات المعلمة فريدة، هذا التوفير ألبسني لون السواد ووحشة الظلمة، ليست الخيمة وحدها سوداء، كل شيء حولي كان أسود، لون الخيم، لون العباءات التي يرتديها عادة رجال المخيم، لون القدور، شرائط الصبيات وهي تطير وهن عائدات من المدرسة، أحذيتهن، حقائبهن، لوح المعلم أبوالكرش الكبير، حتى القمر.. لم يكن مضيئا بما فيه الكفاية، لقد سقروه ورموه في بحر يافا الكبير..

 أضع يدي على خدي لماذا لم يحتج البحر مثلا..؟!!

يجيبني صوت أمي وهي تنادي علي: محمود يمه تعال تعشا.. خيمة أبو علاء بعثوا لنا فلافل..

 

أنا مشغول بصيد أفكاري، وعلكها، أريدها أن تتخمر، وتبيض.. لكنها تقطع عني عزلتي عنوة، أجيبها والجوع ينخرني، أجر دشداشتي الواسعة، يعلق بها طين متلبد من أمطار البارحة، تعتاتبني غاضبة:

-ألم آمرك بأن تربط الحزام على خصرك ياولد؟

- لكنه طويل جدا وبلا ثقوب..

 أظنها جمعته من مزبلة المخيم أبلع جوابي، وأسكت.. هي لا تأمرني بوضع نعالي خارج الخيمة، فنعالي حفظتها عن ظهر قلب، لقد قمت قبل عدة أيام بخصفها، وشدها بخيط جلدي أسود، لذا فمن الأفضل أن أتباهي بها أمام لسعة الشمس الحارقة فقط، هي تباريني، وأنا أصفعها لأنها أيضا لم تحتج على تهجيرنا من يافا!!

يوما بعد يوم تزيد كآبتي، ويكبر المخيم، بيتنا- خيمتنا- صار له مكانه أشبه بوزارة الإسكان، والأشغال العامة، والدي يدير الجلسات والاجتماعات بشكل شبه يومي، هو صوت المخيم، ووسيط المشتكين للأمم المتحدة، والمنظمات الدولية!! أسأل نفسي:

 أهم جادون في سماع شكوانا؟

 أضرب حجرا بيدي هروبا، وبحثا عن جواب، جوابا يشبه دمعة أمي اللامعة حين أحرقها زيت الفانوس ، يومها دلقته فعاتبها أبي على فعلتها.. جففت بقع الزيت ونامت ليلتها وهي تأكل حسرتها وبؤس الأيام..

 

خارج الخيمة كنت أتسكع، وأشبر أنفاسي، لايعجبني أن أنام مبكرا، فالأيام سيان، والروتين القاتل يؤرقني، كنت أبحث عن ضوء لافت، ضوء أستطيع من خلاله إبصار ذاتي، أحلم مثلا بأن يغزونا كوكب طائر فيشع مخيمنا، أو ترمي علينا السماء بشهاب يسقط قريبا منا لكن لاينفجر، يكتفي بشعاعه وبنوره الذي سيمحو الظلمة، والكآبة، لابد وأن مخيمنا سيكون مركزا للمدينة، والقرى المجاورة، سيعج بالأسواق، والمتبضعين، وسيكون مركزا للإحتفالات، ومحطات الإذاعة، والتلفاز، أحلم، فأرتطم بحجر أبيض، رفعته إلى بصري دققت فيه، لم يكن سوى حجر عابر، رميته فارتطم بحجر آخر أخرج شعاعا أزرق اللون، لم أتحرك، تسمرت مكاني والدهشة تأخذني لأبعد مكان، لم يتسع المكان لصوت صراخي، صخرة فرح، وأمل.. أخيرا وجدت نورا أتسلى به، ويحثني على الاستمرار في الحياة، والخروج من فانوس متقشف، فأمي تخشى نفاذ الكاز، وشموع أبي يحتفظ بها للكتابة، وأموره الخاصة..

 

بدأت فعلا في الهروب إلى النور، فمن خلال الحجرين واللذين أفرقعهما بيدي استطعت أن أرى كل شيء، آه كم هو الليل جميل بسواده، وهدوءه.. أمشي خلف المخيم بعيدا، يأتيني صوت الأمهات وهن يدلهن أطفالهن قبل المنام، صوت رامي وهو يضرب على طبلته، صوت تصفيق غير منتظم، صوت الأزواج وهم يلغون فيما بينهم، أو يأنون،  أكتشف بأني ابتعدت قليلا عن المخيم، وجه فتاة سمراء يجعلني أرتبك فتسقط مني الشعلة، تسألني إن أصابني مكروه، أجيبها وأي مكروه وأنا في حضرتك إيتها الملكة، أمسك بيدها مزهوا برجولتي المبكرة.. أدلها على خيمتها التي تاهت عنها، أبصر في ضوء خافت لون عينيها الخضر، وبريق ابتسامتها الواعدة، أشعر وكأني ولدت من جديد، معها مشيت ممسكا بيدها الدافئة، لم نتحدث سوى عن يافا، ولما ودعتني سألتها فقط عن اسمها، قالت بأنه : ضحى عياش، خيمة 144

في اليوم التالي كنت مستعدا للقائها، تظاهرت بالمرض، صحوت متأخرا ولم أذهب إلى المدرسة، هي لم تذهب أيضا للمدرسة! لقد حملونا في شاحنات سوداء إلى مخيم آخر ولكنهم فرقونا، مخيم من بيوت متهالكة، ولكنها مضاءة بالكهرباء، لعنت الكهرباء يومها لأنه لن يضيء لي وجهها الجميل..

لكني ورغما عني مضيت في الحياة أسلك شتى دروبها، وفي ليلة هي من أشد الليالي قصفا، كنت أناوب في مستشفى الشفاء بغزة، لم تكن أياما عادية كانت أشبه بأيام الله!!

غفوات قليلة هي ما كنا نأخذه من عناء اليوم المتواصل، كسيف يسقط منا في يوم الفرقان، لكننا سريعا ما نلتقطه كالملائكة.. نعاود العمل المتواصل، جثث، وقتلى، وعويل، وإسرائيل تقصف أمام إفلاس الحيل!! الأطفال هم من كانوا يموتون سريعا، بلا بنج يجرحون، بشجاعة كانوا يدوسون على الألم، لكن ثمة خطوط حمراء تجبرك على الوقوف، العمليات تتوقف عاما من الصمت لا دقيقة أمام قداسة الأرواح التي تنساب بين يديها كإنسياب الماء من القارورة.. الأمهات يشققن جيوبهن في الخارج، والعالم يتفرج، يندد، و يزن بمكيالين..

 في فسحة خارج الزمن، خرجت من بين شهيدين مددا في ثلاجة المستشفى، تركت لذويهما فرصة اللقاء الأخير، لعلهم يهذون أكثر، يقرؤون الفاتحة، يشمون شهدائهم، يمسحون عليهم، ويبكون..  وبين ذاك وذاك قطع التيار الكهربائي مرة أخرى فثارت ضجة كبيرة في الالمستشفى وخارجه، السماء وحدها من ساندتنا، لقد فغرت فاهها، و أضاءتنا بقنابل ذكية، لم أقف بليدا حين سمعت إسمي ينادى عليه من المكبر اليدوي، أسرعت.. قتلى جدد، وجراحات عصيبة، ولكن بدون كهرباء لا أعرف كيف أتممنا العمليات، ثمة معجزة لم يأت بها نبي أو ولي صالح، بل أتى بها إله يدعي ملكيته للعالم الجديد، الضوء عاد لغرفة العمليات بفضل أسلحتهم الفسفورية، جماحم مأكولة، جلود منسلخة، مخوخ مرضوضة، صدور مشرعة، لحوم مشويه، ملامح مشوهة، والعظام حجر كؤود بلون الفسفور، غصت في نسيج جثة وقعت بين يدي، قلبتها، تكاد يدي تحترق، بؤبؤ عينيها يتسع ككوه تشقها نار ملهبة، حديد بصرها يمتد إلي كأنه يعاتبني، لا أدري هل تأخرت عنها؟ أم؟ ..ألمح في أصابعها المبتورة ذوبان أرقام هاتفها المحمول، لابد وأنها كانت تستنجد بأحد ما، شعرها محترق، بلا لون كانت، بلا رائحة سوى رائحة البارود، لم تتفوه بكلمة فقد أسلمت روحها قبيل ساعات، كيف وهي بلا لسان وقد قطع نصفه، متفسخ لحمها.. لامع ومشع، كل شيء فيها مشع.. لم يكن مختلف عن باقي الجثث السبعة، بيد أنها أمسكت بمعصمي وكأنها تقول:

دلني على قبري لتصلي عليه..

 معصمي الذي أمسكت به قبل خمسين عاما وأنا أبحث عن خيمتها التي ضيعتها ذات منفى.. هو نفسه الذي غطى ضريحها بالورد، مثلما غطى وجهي بالدموع..

 

بلقيس الملحم/ شاعرة وكاتبة من السعودية 

 

.............................

هذه القصة مستوحاة من خبر ورد في العربية نت وهو على الرابط الآتي

http://www.alarabiya.net/articles/2009/07/30/80292.html

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1135  الاثنين 10/08/2009)

 

 

في نصوص اليوم