نصوص أدبية

سيرة المبروكة (9)

يعمل في بساتينها ولا يخالط أحدا من الناس، حتى حين هم بالسلام عليه، أشاح عنه وحين حاول التعرف عليه، نفى أن يكون قد رآه من قبل، أو سمع بشيء أسمه المبروكة، لكن المؤكد والذي يعرفه الجميع، أن الرجل ذهب ولم يعد .. رحل وأبقى للمبروكة حكاية تمتشقها وقتما تشاء .

ستة أشهر انقضت ولا شيء عن أبي، عشر رؤوس من الغنم بيعت لتسديد أتعاب المحامي ولم يفدنا بشيء، كلما سألناه عن سير القضية، زعم بأنها تحتاج إلى بعض الوقت، مدعما زعمه هذا، بكون أبي قد اعتدى على رجال الشرطة وهذا بحد ذاته كفيل بإبقائه في السجن مدة قد تطول، على عكس الشيخ مسعود الذي لم توجه له تهمة بعينها. لم تمض سوى بضعة أسابيع على هذه المحادثة، حتى احتفلت المبروكة بعودة ابنها .. تدافع الناس إلى بيت المختار .. اكتظت الباحة الأمامية بالمهنئين . . بصعوبة رحت أشق طريقي للسلام عليه .. لولا وجود عمي الشيخ إبراهيم بصحبتي، لكان الأمر أصعب من ذلك بكثير وربما لم يلتفت إلى أحد من أصله .

استقبلنا الشيخ بحفاوة بالغة، ربما وصلت إلي على نحو أعمق وأبعد مما أحس بها جدي، أو هكذا هيئ لي، أفسح لنا مكانا بقربه، ضمني إليه وقال مداعبا: أهلا بالسبع ابن السبع .

سألته إن كان قد رآه في المعتقل، فقال بأنهما أمضيا ثلاثة أشهر في غرفة واحدة، لم يشعرا خلالها بوطأة السجن، لولا الحنين إلى الأهل والديار، كنا أسرة واحدة، حتى الثلاثة الذين كانوا يقاسموننا الغرفة، بكوا حين جاء الأمر بإبعادي إلى سجن أخر ولم يعد يصلني عنه إلا النزر اليسير، لكنه بشكل عام رجل يعتز بصحبته .

حسبتها ستسعد بما لدي من أخبار عن أبي، أو يقر حالها بعد هذا الانقطاع الطويل لكل ما له علاقة به، لكن شيئا من هذا لم يكن، فلا الأخبار أشفت غليلها ولا الاعتزاز به خفف من وطأة حزنها، بل على العكس من ذلك تماما، راحت تطلق العنان لدموعها، كأنما جرى اعتقاله للتو، وكلما أوشك نحيبها المكتوم على الإفلات منها، دست طرف المنديل الذي يغطي شعرها في فمها وكزت عليه، حتى أوشكت أن ألعن الساعة التي جعلتني أنكأ جروحها، وأقف عاجزا عن مد يد العون لها .

لا أدري كيف انقضت تلك الليلة، كل ما أعلمه أنني انسحبت إلى مخدعي أعتصر ألما على الحالة التي باتت عليها، ظل نحيبها المكلوم يطاردني حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم غاب عني أو غبت عنه، لا أدري من منا ضل طريقه عن الأخر، أو أعياه التعب، لكن ما أعلمه على نحو لا ينسى، أنني لم أصح في اليوم التالي مبكرا كعادتي، ربما أرق الأمس وأساه قد أثقلا كاهلي، كانت الشمس توشك على البزوغ حين انتهى إلى مسامعي صوت جدي الشيخ إبراهيم، وهو ينادي من خارج الدار، هرعت إليه على عجل، فصاح بي محتدا على غير عادته: سكرانين ! .

- والله ما سمعناك يا جدي . قلت بما يشبه الاعتذار .

- يله بدل ثيابك وتعال معي .

- خير إن شاء الله؟ .

- المختار … تعيش أنت .

باغتني الأمر ولم أعقب .. تداعت بداخلي الصور .. تداخلت حينا وتنافرت أحيانا، بالأمس كان بيننا واليوم أمسى ذكرى، تعشش في أذهان الناس زمنا قد يقصر أو يطول، لكنها لن تعيد من الماضي شيئا .

- بعدك واقف ! . قال جدي مستهجنا حالة الجمود التي حطت علي .

- حاضر يا جدي .. حاضر .

كان الطريق المؤدي إلى بيته يعج بالناس، سأل أحدهم جدي إن كان الخبر صحيحا، فأومأ له برأسه مؤكدا صحته، ثم تكفل آخر بالإيضاح: توفي قبل الفجر بلحظات..راحوا ينبهوا للصلاة، فلاقوه في النفس الأخير .

- البقاء لله .. اللي شافه بالأمس وهو يستقبل الناس ويودعهم، ما كان يخطر على باله أن الرجل بيودع .

- إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون . همس بها الشيخ إبراهيم، ثم تابع بصمت .

عند أول الحوش بدأ يصل إلى مسامعنا عويل النسوة وصراخهن وحين اقتربنا من جمع الرجال المحتشدين أمام الدار، بدا المشهد أكثر إيلاما وقسوة، كان الوجوم طاغيا على الوجوه التي قابلتنا والنواح يسفعنا على الطرف الثاني من الساحة، تبادل جدي العناق مع أخوة المختار وأبنائه وكذلك فعلت، ثم استأذن بالدخول عليه، فأمسك بيده الشيخ مسعود وشقا طريقهما إلى حيث كان المختار مسجى بداخل البيت، بينما وقفت في مكاني، أتابع عن بعد المرأة الندابة وقد نثرت شعرها وعفرت وجهها، تدور في حلقة من النساء، تلطم خدها حينا وتضرب على صدرها حينا وبين هذا وذاك تبدع والنساء يرددن خلفها، حتى سقطت مغشيا عليها، فأزحنها جانبا ونزلت غيرها، منظر أشاع القشعريرة في بدني وزاد من حدته مجيء إحدى النسوة مولولة من أول الشارع، همس أحد الواقفين بقربي: بنته اللي ساكنة بجوار المقبرة .

 ظلت المرأة تجري باندفاع مجنون، إلى أن أصبحت في منتصف الحلقة، صرخت بكل ما تبقى لديها من قوة: يا حبيبي يابا .،وشقت ثوبها، دارى الرجال وجوههم خجلا واندفعت النسوة للف المرأة ورفعها من المكان .

أطل المبروك من داخل الدار .. وقف ببابها .. صاح بالحاضرين: اذكروا الله .، فجاء الرد خافتا حزينا، أعاد الأمر مرة أخرى وبصوت يقصف كالرعد، فجاء الرد حينها أقوى من ذي قبل، تقدم الرجل يشق الطريق أمام النعش الذي تبعه محمولا على الأكتاف، فعلا العويل مرة أخرى .. كان مرعبا .. مزلزلا، حتى أني فكرت بالانسحاب والعودة من حيث أتيت، لكن شيئا أجهله دفعني إلى مواصلة المسير، بعض النسوة حاولن اللحاق بالنعش، فلاحقتهن عصا المبروك، طاردهن وهو يزمجر بغضب قائلا: ارجعن يا ناقصات العقل والدين .

تحلق الناس حول القبر الذي يعد .. أشار أحدهم بتوسيعه بعض الشيء، فاعترض أخر باعتباره مناسبا، حينها أشار ثالث بتعميقه قليلا، فرد أحد الذين يحفرون بنزق واضح: هو راح يشرد منه؟ .، فتراجع الرجل ولم يعقب، لكن تعليقات أخرى ظلت تصدر من هنا وهناك، إلى إن وضع الرجل داخل اللحد، حينها تقدم الشيخ مسعود وجلس عند رأس الميت، فعلا صوت المبروك مجددا: اذكروا الله .

- لا إله إلا الله، ثم خيم الصمت للحظات شرع بعده الشيخ في تلقين الميت:….. فإذا جاءك الملكان وسألاك من ربك ومن نبيك وما الدين الذي مت عليه؟، فقل لهما ربي الله ونبي محمد رسول الله وديني الإسلام الحنيف و …

أربعون يوما ونحن ملازمون لبيت المختار، لم يجرؤ أي منا على ترك مكانه، إلا لطارئ لا يحتمل التأجيل، طالت لحانا وكلحت أبداننا، حتى الثياب لم نجرؤ على تبديلها، نمضي النهار في استقبال المعزين من داخل البلد وخارجها وفي المساء ننتظر إلى ما بعد صلاة العشاء، ثم يعود من هم خارج دائرة القرابة إلى بيوتهم، إلى أن انتهى أربعين الرجل، فبدأ الهمس عن خليفة له، كان الجميع قد عقدوا عزمهم، على إسناد المخترة إلى الشيخ مسعود، بدلا من ابن أخيه صاحب الحق الأول بها، لكن الشاب الذي استشعر توجههم هذا، آثر اختصار الأمر عليهم والتنازل عنها لعمه، فما كان من الحاضرين جميعا، إلا أن باركوا صنيعه وأشادوا به .

غير أن الذين أشادوا بهذا الصنيع، عابوا على المختار صنيعا أخر، إذ لم يرق لهم أو لبعضهم، أن يصرح بنيته في الزواج، قبل مرور عام على وفاة أخيه، وكانت الطامة بالنسبة لبعضهم، حين تجرأ وأعلن عن اسم الفتاة التي ينوي الاقتران بها، حتى تساءل الناس مستغربين: ضاقت فيه الدنيا، وما لقي غير مزيونة؟ .

إلا أن المختار كان حاسما في قراره، لم يسمح بالمطلق لأي من الناس بالتدخل في شؤونه، حتى لحظة أن هم الشيخ إبراهيم بمراجعته في الأمر، بناء على طلب من ذويه، نظر إليه نظرة ملؤها العتاب وقال: حتى أنت يا شيخ إبراهيم .

أيام وأعلنت خطوبة المختار على عروسه، أما الدخول بها، فقد تم تأجيله إلى حين انقضاء العام، تحدث الناس يومها عن نبوءة العراف .. استعادوا تفاصيل الحكاية من جديد، لكنها في هذه المرة لم تثر حساسية أحد، بل على العكس من ذلك تماما، فالمختار بدا مرتاحا إن لم يكن سعيدا بهذه النبوءة التي شهدت له بالرفعة والمكانة رغم أنف الحاقدين والعروس رأت فيها براءة أخرى ولكن في هذه المرة أرسلتها السماء، أما الوحيد الذي لم يستطع تحمل الأمر، فهو زوج المرأة السابق .. لملم أغراضه بليل ورحل عن البلدة .

ليل بدا باردا موحشا، على غير عادته في هذا الموسم من العام، نظرت إلى أمي التي انكفأت بقربي واجمة ساهمة، فرأيت ما فعلته السنون بها، كانت يومها في الأربعين أو دونها، لكنها بدت أكبر من ذلك بكثير، وكأن السنين تقفز بها دفعات متتالية، أو أنها آثرت الهروب أمامها تعجلا في الرحيل، آلمني حالها ولكني أعجز من أن أغيره، كل شيء في حياتها توقف انتظارا لعودة أبي وحين طالت العودة أصبح الخوف من المجهول كابوسا يطاردها، ما كنت أعلم حجم حبها لأبي ولكن ما أفصحت عنه أحوالها، أشعرني بهذا المخزون الذي لا ينضب، حتى حين سألته ذات مرة عن العروس التي وعدت بها، بقصد إدخال السرور إلى نفسها، أو حتى حرف انتباهها عن سيرة أبي، ردت بصوت يخنقه البكاء: عروس وأبوك في السجن !! .

- لا ما قصدت الزواج ولكن .. دوري زي ما وعدتي ولا نسيتي .

- ما نسيت وعدي ولكن كل شيء بأوانه .

لمت نفسي كثيرا في تلك الليلة، كل المحاولات لإرضائها باءت بالفشل، و كلما أقسمت بأني لم أرد من وراء ذلك سوى إدخال السرور إلى نفسها، زادت في نحيبها واضطربت أوصالها، حتى كدها النحيب فنامت، نامت ولم تقو على النهوض في اليوم التالي، راودتني الشكوك بشأنها .. دنوت منها بحذر .. تتبعت أنفاسها، كانت هادئة رتيبة .. لملمت أغراضي بحذر لكي لا أوقظها، فأحست بي .. مسحت وجهها المجهد وألقت التحية، حاولت النهوض لتعد زادي، فأشرت إليها بالبقاء في مكانها، لكنها أبت، حتى حين رأت الصرة التي في يدي، أخذتها وتفحصت ما بها من طعام، ثم مدت يدها إلى وعاء بقربها أخرجت منه قطعتي جبن وأضافتهما إلى الصرة .

 الصبح يزحف مثقلا بطيئا تحت عتمة الليل ونسمة باردة تلسع ثنايا الوجه كلما صفرت الريح، الشارع خال من المارة والسكون مطبق كوحش غاشم، إحساس بالرهبة ألم بي، هي المرة الأولى التي يراودني فيها مثل هذا الإحساس، لم أكن أشعر به من قبل ولا أدري كيف انتابني في هذه المرة على غير عادة؟ هل تبدل الحال، فبات مخيفا على هذا النحو الذي أحس؟، أم أن إحساسي بالخوف صار يكبر كلما كبرت؟.

عند أول الطريق المؤدي إلى الكمب صادفني ثلاثة رجال، أطلوا بداية من فتحة في السياج الذي أسير بمحاذاته .. تأكدوا من خلوا الشارع إلا مني .. لفوا وجوههم بالكوفيات التي يرتدونها، ثم أقبلوا علي، شعرت بانقباض في صدري، خصوصا حين رأيت البنادق في أكتافهم، لا أدري كيف تداعت إلى رأسي كل المشاهد في لحظة، يوم أن ضرب عبيد الوالي ابن فهيمة ويوم أن ضربه الإنجليز، يوم أن اعتقل أبي في المرة الأولى ويوم أن خرج مثقلا بالجراح، لم أفق من شرودي هذا، إلا لحظة أن مروا بقربي بصمت، لم يلقوا حتى بالتحية علي، كان أحدهم يحمل كيسا على ظهره، بدا ثقيلا بعض الشيء رغم صغر حجمه، والآخران يحثان الخطى بقربه، إلى حد بدا فيه سعيهما أقرب إلى الهرولة منه إلى السير .

تابعت سيري دون أن ألتفت خلفي .. اقتربت من الفتحة التي خرج منها الرجلان .. شيء دفعني للنظر بداخلها، فكانت المفاجأة التي لم أتوقعها، ابن فهيمة جالس تحت شجرة ينتظر مروري ثم ينسحب من المكان، للوهلة الأولى لم أعرفه، عتمة المكان حجبت عني ملامح الرجل، لكن نظراتي المتسللة إلى داخل الفتحة وما تبعها من ذهول اعتراني، جعلا الرجل يظن بأني قد عرفته، فبادر بالخروج، حينها صحت رغما عني: ابن فهيمة .. يخرب بينك لمستني .

اقترب مني باسما، ثم قال: شفت شيء؟ .

كدت أن أجيبه على السؤال، لكن طريقته في طرح السؤال أوصلت المغزى منه، فقلت: لا .

- عظيم .، قال بارتياح ثم تابع بنبرة لا تخلو من جد: أرجو ما يدري حد بللي شفته .

انطلقت في طريقي وبداخلي ألف سؤال، انحرفت مبتعدا عن الكمب وصورة الجند تلاحقني .. شيء كان يحثني على الابتعاد عن هذا المكان وأجهله، إحساس بخطر يداهمني ولا ألمسه، بضع خطوات أسيرها وألتفت خلفي مذعورا، ظل الخوف يلاحقني حتى انتهى بي المطاف إلى حيث أبغي .

 انفلاق الصبح أعاد إلى نفسي طمأنينة كانت غائبة، بضع غيوم متناثرة، حجبت خيوط الشمس التي تطل على استحياء، حدقت حولي، فأنعشتني خضرة المكان، كانت بشائر الربيع قد حلت في كل شيء، فجعلته جنة غناء، رحت أتابع الفراشات التي تطير بقربي .. أتأمل ألوانها .. العصافير وهي تعزف سمفونية على الأغصان خلفي، فيشدو الكون بعذب ألحانها .. أوطن النفس على الهروب من ذاتها وأن تعيش اللحظة بكل تفاصيلها وجمالها، فتأبى إلا أن تجرني بين لحظة وأخرى إلى واقعي، أراوغها حينا وتراوغني أحيانا، فلا أنا داخل اللحظة ولا أنا ببعيد عن تفاصيلها .

ظل السؤال يطاردني لأيام عديدة: ماذا كان يعمل ابن فهيمة هناك ومن هؤلاء الرجال الذين التقى بهم؟، حاولت مرارا أن أجد تفسيرا لذلك لكني عجزت ولم أقدر على طرد السؤال عني أيضا، ظل يلح على خاطري كضيف ثقيل، إلى أن عدت ذات مساء من عند جدي الشيخ إبراهيم إثر وعكة ألمت به، فوجدته واقفا في انتظاري، كان عند طرف الزقاق المؤدي إلى بيتي، لمحت في يده صرة صغيرة وحين اقتربت منه انفرجت أساريره وأقبل علي مصافحا، دعوته للدخول فلبى، سلم على أمي وناولها الصرة قائلا: هذه من أمي يا خاله .

- بارك الله فيك وفيها .. كيف هي؟ .. صار لي مدة ما شفتها .

- تسلم عليك وكان بودها تيجي معي، لكن العمل في الكمب كدها .

- سلم عليها يا علي .. السلام أمانة يا بني .

انسحبت أمي من المكان دون أن أشعر بها، كنت ساهما في هذا الذي يدور بقربي، فهذه هي المرة الأولى التي يطأ ابن فهيمة دارنا حاملا معه هدية، صحيح أنه صديق طفولتي، لكنه لم يعتد فعل شيء كهذا، حتى في المرات القليلة التي زارني بها داخل البيت، كان يأتي فارغ اليدين، لماذا هذه المرة بالذات، تذكر أن يجلب لنا شيئا من نعيم الكمب الذي يعمل فيه منذ خمس سنوات تقريبا .

- يا أخ .. يا سيد .. يا..

 - أه .

- ما بك؟ .

- أبدا .. خبرني شو اللي جبته معك؟ .

- قرص جبن أصفر عمر أبوك ما ذاقه . قالها وقد انفرجت أساريره عن أخرها .

- صحيح .. صحيح، ولكن ما الداعي لكل هذا .

- ما لك يا رجل ! إحنا أهل؟ .، لكنه أحس بأن عبارته الأخيرة لم ترق لي كثيرا، فقال بما يشبه الاعتذار: عارف أني مقصر في جانبك، لكن ظروف العمل في الكمب قاسية جدا .

- بالتأكيد ولكن قروشه حلوة..؟ .

- لو كانت القروش لحالها كان ما كفتنا خبزا، ولكن مدبرين حالنا .

- تقصد ..

- نعم .. جبنة .. سجاير وحاجات ثانية .

- زي؟ .

- زي هذا .

عدت إلى الوراء فزعا .. ألجمتني المفاجأة وعقدت لساني، فأخر شيء كنت أتوقعه، أن يخرج من جيبه مسدسا، أعرف أنه على قدر من التهور والاندفاع، يؤهلانه لفعل أشياء كثيرة، إلا أنني لم أتصور أن يصل به الأمر إلى هذا الحد من الجرأة .

- رجعه في جيبك قبل ما تشوفه أمي . قلت بفزع بادي .

- حسبتك أنشف من هيك . رد بشيء من الاستخفاف .

- لو شافته أمي فلا يعلم إلا الله أيش يصير .

- على كل حال أنا موجود وجاهز لكل شي تطلبه .

ودعته إلى الباب وفي رأسي ألف سال وسؤال، جهدت معها لمعرفة الدافع الحقيقي، من وراء هذه الزيارة المباغته وهذا الاندفاع الأهوج في الإفصاح عن مكامنه، فلم أجد غير تفسير واحد، وهو أن ابن فهيمة بدأ ينسج خيوطه حولي، لعله أراد من وراء ذلك توريطي معه حتى يضمن سكوتي وربما رأى في الشخص المناسب، فأراد ضمي إليه .

شعرت بالارتياح لهذه الخلاصة وعقدت العزم على عدم التفكير بها، آثرت أن أترك الأمر للأيام حتى تفعل فعلها، لكني نسيت للحظة أو تناسيت بأني صاحب القرار، وأنه ليس بمقدور أحد سواي أن يحل مكاني، فكانت اللحظة أقصر كثيرا مما أعتقد، حتى ظننتها لم تكن أصلا، أو لم أفكر بها.

كان الشارع خاليا كعادته في هذه الساعة من الفجر، سكونه مطبق ونسائمه تداعب الأغصان من حولي برفق، لسعات البرد تراجعت عما كانت عليه في الأيام الماضية وبوادر دفء بدأت تدب في الكائنات، فتنفث فيها روحا بدت إلى حين قريب مسلوبة منها، شعور بالانقباض عاودني لحظة أن اقتربت من الفتحة، منذ ذلك اليوم وهذا الإحساس يعاودني كلما اقتربت من ذلك المكان، لكنه في هذه المرة أكثر وقعا من ذي قبل، لعلي لمحت شيئا يتحرك في الظلام، أو سمعت صوتا من خلف السياج، أو هي مخاوفي من آت أترقبه، لا أدري سوى أن إحساسي في هذه المرة أكبر من سواه في المرات السابقة، استرقت النظر كعادتي، فلم أر شيئا بداخلها، شعرت بالارتياح رغم الحرج الذي ألم بي، جراء مخاوفي التي لم تكن في محلها، غير أن هذا الارتياح لم يدم طويلا، فما كدت أن أصل التقاطع الذي يحرف طريقي بعيدا عن الكمب، حتى خرج علي ابن فهيمة لاهثا تعبا، جذبني من يدي وقال باضطراب: خذ هذا الكيس على عجل وأمنه في مكان تعرفه .

لم أحي ردا .. تلفت حولي بحذر وحملت الكيس، سرت مسرعا نحو طرف البيارة المطل على المرعى، ظلت الغنم من ورائي تتابع سيرها، لم يعد يهمني أمرها، كل همي بات محصورا في التخلص من هذا الهم الجاثم على عاتقي، وصلت المكان الذي أردت دون أن أدري كيف، بحثت عن ثغرة في السياج انفذ منها، فرأيت مكانا بالكاد يتسع للكيس، دسسته بحذر داخل الثغرة، ثم رحت أوسعها بما يسمح لي بالدخول، اخترت شجرة هي الأكبر بين أخواتها ورحت أحفر تحتها، ساعدتني رطوبة الأرض وخنجر صغير كنت أتسلح به، مرت الغنم بقربي فغطاني عجيجها مولدا بداخلي إحساسا يفصل بيننا، هي المرة الأولى التي أشعر فيها بهذه المسافة التي تفصلنا عن بعض، حتى حين ابتعدت عني استغرق الأمر وقتا لكي أتنبه إليه، ردمت الحفرة فوق الكيس على نحو جيد، ثم نقشت على جذع الشجرة عدة نقوش بخنجري وغادرت مسرعا خلف الغنم . 

لحقت بأغنامي يبللني العرق .. جلست في مكاني المعتاد، أتابع سياحتها في الأودية القريبة، صفير أنفاسي المتلاحقة طغى على همس الطبيعة الحالم بقربي، صورة ابن فهيمة وهو يجذبني إليه بشيء من الفزع، أعادت الخوف إلى نفسي وأشعلت بداخلها فيضا من الأسئلة التي تبحث عن إجابات ولا تجدها، كان أخطرها و أكثرها إرباكا، تلك المتعلقة بالمصير الذي ينتظرني لو تم ضبط هذه الأشياء معي؟، أو أن ابن فهيمة جرى اعتقاله واعترف علي؟، هل ستصمد أمي أمام هذه الصدمة؟ .

لمت نفسي كثيرا على تهاونها معه وعزمت ألا أجاريه أبدا في هذه الطريق الوعرة، يكفينا اعتقال أبي منذ ما يقرب العام أو يزيد، لكن شيئا بداخلي كان يتابع ما يجري بصمت، أحيانا أضبطه يرمقني بعين الاتهام و أحيانا بعين الازدراء وبين هذه وتلك صمت يستفزني ويجرني إلى دوامة الأسلة من جديد: هل ما أفعله صواب أم خطأ؟ .

مر أسبوع ولم أر خلاله ابن فهيمة بالمطلق، كأن الأرض انشقت وابتلعته، توقعت في اليوم الأول أن يأتي لأخذ حاجته، أو السؤال عنها، لكن شيئا من هذا لم يكن، انتظرت مجيه إلى البيت أو أن يلاقيني في الطريق، فلم يحدث شيئا من هذا القبيل، حتى الفتحة التي أمر بقربها في كل يوم لم أجده عندها، كنت أتعمد النظر بداخلها أو أتصنع السعال لكي ألفت انتباهه إن كان بداخلها أو قريبا منها ولكن من دون جدوى، فكرت بالذهاب إلى بيته والسؤال عنه، لكن خوفي منعني، آثرت الانتظار لعل الأيام تكشف ما خفي، خصوصا حين تولد لدي إحساس، بأن ابن فهيمة لم يعتقل وإلا لعلمت المبروكة بالحدث، هذا الإحساس ولد لدي شعورا بالارتياح، خفف عني ولو إلى حين وطأة المخاوف التي ظلت تطاردني حينا من الدهر .

غير أن للدهر أحوالا لا تخطر على بال، فما كدت أركن إلى هذه الحالة من الهدوء، حتى باغتتنا المبروكة بما لم يكن في الحسبان، إذ لم يكد يمض سوى وقت قليل، على المآسي التي ألمت بها، حتى عصفت بها نار جديدة، نار كاد لهيبها أن يحيل المبروكة إلى كومة رماد، خرجت يومها كدأبي الذي اعتدت عليه، فقابلتني عير ربما جاءت من الحارة القبلية وراحت تشق طريقها باتجاه الشمال، توقفت في مكاني حتى أفسح الطريق لها، فمرت من أمامي مقطورة في أذناب بعضها البعض، عددتها فكانت أحد عشر جملا ومن خلفها جواد يمتطيه فارس، عرفته من صوته لحظة أن نادى على القطروس الذي يرافقه، لم يكن سوى راجح ابن الشيخ يونس كبير الحارة القبلية، كان يكبرني بخمس سنين تقريبا، لكنه يفوق جميع أقرانه قدرا ومكانة، أعده أبوه لكي يصبح خليفته، لم يبخل عليه بشيء .. هيأ له كل الأسباب التي تؤهله لذلك، حتى صنع منه رجلا مهيوب الجانب .

تابعت سيري بعد أن مرت القافلة .. حز في نفسي أن يمر راجح من أمامي دون أن يلقي التحية، حاولت أن أجد له مبررا، يزيح عن كاهلي مرارة الإحساس بأنه أهملني عن عمد، ظلت عيوني تلاحق العير إلى أن غابت عني، حينها وصل إلى مسامعي وقع حوافر خيل مسرعة، تلفت إلى الوراء، فرأيتها تسابق الريح في أثر القافلة، لم استطع تحديد عددها، ثلاث أو أربع لكنها لم تتجاوز ذلك أو تقل .

واصلت سيري دون أن يثيرني الأمر كثيرا، حتى حين مررت بجوار الفتحة التي أرقتني طويلا، لم أشعر بذلك الإحساس الذي كان ينتابني كلما مررت بقربها وكذلك الأمر بالنسبة للشجرة وما دفن تحتها، لم يعد يهمني أن ظل في مكانه أو أن أحدا اهتدى إليه من بعدي، حتى أمر ابن فهيمة وسر اختفائه لم يعدا يهماني في شي

 أو لعلني أوهمت نفسي بذلك دون أن أدري .

فردت صرتي ورحت أتفحص ما حوت، قطعة الجبن في هذه المرة أصغر من سابقاتها، لكن فحول البصل وعدد الأرغفة الذي وضع، بدا وكأنه جاء لتعويض النقص، حبتا طماطم لم أدر كيف اهتدت إليها أمي، آثرت أن أبقيها عقبى أحلي بها، لكنها لم تكن من نصيبي، فما كادت يدي تمتد إليها، حتى جاءني صوته من بعيد، نظرت إلى تلك الناحية، فرأيته يقبل نحوي مهرولا، حدقت في هيأته فبدت مريبة تدعو إلي القلق، تساءلت مستغربا: ما الذي جاء من هذه الجهة؟ .

- حسين .. خوذ غنمك وروح في الحال . قال وهو يستعيد أنفاسه بصعوبة بالغة .

- خير؟؟ . قلت بخوف باد .

- راجح قتل .

-راجح !! .. اليوم ..، لكني تراجعت في اللحظة الأخيرة، ثم استعدت زمام المبادرة وأعدت له السؤال: من أخبرك؟ .

- ما خبرني أحد .. شفت بعيني لما كنت راجع ع البلد من عند أصحاب في هربيا، ثلاثة من الفرسان انقضوا عليه .. تعاركوا معه لبعض الوقت، وبعدين طعنه واحد منهم من الخلف بحربة وهو يصيح بعلو الصوت: خذها وأنا أخو وضحة .

- ما كان حد معه؟ .

- كان عبد يرافقه، لكنه فر من المكان لما وقع الجد ولما انسحبوا الجماعة رجع يولول مثل الحريم، بعدين حمل سيده على ظهر فرسه ورجع للبلد .

- وما تدخلت في كل هالقصة؟ . قلت بنبرة لا تخلو من غضب .

- أنت مجنون؟، ولا نسيت ما بين الجانبين من حكايا .

أدرت ظهري ولم أعقب .. ترجلت بضع خطوات فلحق بي، سألني عن الأمانة، فأشرت إلى الشجرة دون أن أنبس بحرف، شيء دفعني لأن أسأله إن كان سيتبعني إلى البلدة أم لا، فرد بأنه عائد لإيصال الأمانة إلى أهلها، سرت أقود أغنامي وبداخلي شريط من الذكريات، راح يتداعى أمام ناظري، ثم أطبق علي وجرني إلى نقطة البداية، حاولت التملص والهروب منه، لكن بعضي تواطأ معه، استهوته الحكاية رغم فداحة المصاب الذي حل بسببها، فألح علي بالانجرار خلفه .. أصر حتى أعياني الرفض .. استسلمت مكرها لرغبته، فأعادني إلى المشهد الأول من الحكاية، المكان ساحة البلدة بما حوت من أجران قمح، الزمان موسم الحصاد الذي سبق خروج الوالي من البلدة، الشخوص أصحاب الأجران من أهل البلدة رجالا ونساء، ترفع الستارة فيسطع القمر بدرا في كامل التمام وبقرب أحد الأجران فتاة تضاهيه حسنا وجمالا، بدت في السادسة عشرة من عمرها .. لكن قوامها الممشوق تحت ثنايا الثوب المطرز يشي بأكثر من ذلك، تمسك بغربال تهزه ذات اليمين وذات الشمال، فيهتز نهداها على وقع اهتزازه وتومض على صحن خدها قطرات عرق، كأنها اللؤلؤ على صفحة وردة، ابتسمت لمرآه فأصابه السحر، توقف من فوره .. ارتجف الحصان تحته .. صهل وارتفع بجذعه إلى الأعلى .. قفز عن ظهره وعيناه مأخوذتان إليها .. دنا منها دون أن يشعر بالحصان الذي ابتعد عن المكان، وقف بقربها مشدوها، فأطرقت خجلا وحياء .. سألها بصوت خافت: من أنت؟ .

- أنا وضحة بنت الشيخ يوسف . ردت دون أن تنظر إليه، وارت خجلها خلف ستار من الانشغال المصطنع، فلم يخف عليه ذلك، فضحته صفحات خدها وارتعاش شفتيها المتوردتين، أغراه المشهد لمواصلة الحديث معها، سألها إن كانت لوحدها، فأشارت إلى جمع الرجال الذين اصطفوا لصلاة العشاء وقالت: هناك أبوي وأخوي، وأمي راحت تجلب المي .

 أحس حينها بأن المكان عامر بغيرهما .. تراجع إلى الوراء من دون أن يدير لها ظهرا، استدار راكضا خلف الحصان .

تكرر المشهد في كل ليلة، كان يقف بعيدا يراقبها، حتى إذا خلا المكان إلا منها و بعض النسوة العاملات بقربها، تشجع على الاقتراب، وزاد من جرأته على ذلك ما كان يلقاه من تجاوب، أحس بأنها تبادله نفس المشاعر، بل تخطى الأمر ذلك، حين أفصح لها ذات مرة عن مكنون نفسه قائلا: ما عدت أقدر على فراقك ولو للحظة واحدة، أيش قولك لو خليت أبوي يفاتح أبوك في الزواج؟ .

 أطرقت دون أن تحي ردا .. دنا منها حتى كاد أن يلامس جسدها .. رفع رأسها بين راحتيه بلطف، فسرى نبضها في جسده ولفحه وهج أنفاسها المضطربة، تأمل وجهها عن قرب .. ساح في ثناياه المشرقة .. أغمضت عينيها هربا من نظراته، فبدت أكثر سحرا وجمالا .. هم بتقبيلها،لكن صوت أمها القادم من بعيد جعله يتسحب من المكان على عجل، بينما هرعت هي لملاقاتها وأخذ الجرة عن رأسها .

مع انتهاء الموسم بدأ الهمس،عن علاقة تربط راجح الشيخ يونس بوضحة الشيخ يوسف، كانت البداية غمزا ولمزا بين النسوة اللواتي لاحظن كثرة تردده على المكان، صحيح أنه صاحب الجرن الأكبر بين الأجران المصلبة فيه، لكنه لم يعطه من وقته الاهتمام الكافي، ترك الأمر لعبيد أبيه وانشغل عنهم بالسعي وراء وضحة، دون أن يلاحظ عيون النسوة المتلصصات من خلفه، ولم يشعر بالهمس الذي يدور من حوله، إلا بعد أن أوقفه ابن عمها ذات مساء، أثناء مروره من أمام دارها، اعترض طريقه على نحو ملفت وسأله بنبرة لا تخلو من تحد: أيش اللي جابك من هان؟ .

 أربكته المفاجأة، لكنه تمالك نفسه ورد بشيء من الهدوء المصطنع: راجع لدارنا .

- ما كانت هذه طريقك في يوم من الأيام .

- عجيب أمرك يا صابر !، ومن متى صارت الطرق ملك لناس وناس؟ .

- أنت عارف اللي بقوله، ومن الأفضل لك تبعد شرك عنا .

- أتهددني يا صابر؟ . سأله محاولا ضبط نفسه من الاندفاع خلف انفعالها .

- افهمها زي ما تريد .

لم يعقب بشيء، لكنه ألهبه بنظرات متقدة، حملت الكثير مما أراد قوله وامتنع، انسحب من المكان وبداخله بركان يغلي، لم يصبر على مثل هذه الإهانة من قبل أيا كان مصدرها ولم يجرؤ أحد ما على إهانته على هذا النحو، لام نفسه كثيرا على المرونة التي أبداها معه، لكنه عزم على ألا يفوت الأمر له إذا ما كررها مرة ثانية، لا بد من تلقينه درسا يؤدبه، قال محدثا نفسه، لكنه فضل أن يبلغ أباه أولا، ثم عاد وعدل عن ذلك، كان خوفه من أن ينعكس الأمر على وضحة أكبر من اعتداده بنفسه، آ ثر الصمت ونسيان ما حدث، أوهم نفسه بأن الأمر لا يتعدى لحظة طيش ألمت بابن عمها، أو غيرة جاءت في غير محلها، ومع ذلك لم يجد تفسيرا مقنعا لما حدث، خصوصا حين تساءل مستغربا: كيف وصل الأمر إليه؟، فطريقة حديثه معي، تشي بشكل واضح على درايته بما بيننا .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1138  الخميس 13/08/2009)

 

 

في نصوص اليوم