نصوص أدبية
صفحات من سيرة المبروكة (10)
جعل البعض يبدي تعاطفا أكبر مع ابن عمها، وصل في بعض الأحيان إلى حد التحامل على راجح وأهله، خصوصا حين راح الشاب يشيع في المبروكة، أن عمه آثر الغريب عليه رغم محاولاته المضنية معه، حتى تدخل بعض العقلاء لإقناع الرجل بالعدول عن رأيه ورد الجنين إلى بطن أمه كما يقولون، لكن الرجل أبى واستكبر، بل رأى في فعل ابن أخيه تسفيها لرأيه و مهانة لا تساويها مهانة، فهدد وتوعد وعربد وأزبد، حتى خرج الناس وبداخلهم قناعة، بأن الرجل قد باع ابنته بيعا ولم يعد يجدي معه نفعا أي حديث أخر، لكن البعض خرج وقد عقد العزم على مقاطعة الرجل والبعض راح يبحث عن وسيلة يقوي بها شوكة ابن أخيه، وابن الأخ هذا، راح بدوره يبحث عن طريقة ما، يفشل بها ما تم بين الجانبين مهما كلفه الأمر، لكن الأمر كان أصعب مما اعتقد، فهو اليتيم الذي تربى في كنف عمه بعد رحيل أبويه، والوحيد بين خمسة رجال هم عمه وأبناؤه الأربعة، حتى أعمامه الآخرون عجزوا عن الوقوف في وجه أخيهم الكبير وثنيه عما أراد، أبدوا تعاطفا مع ابن أخيهم ولم يبدوا حسما، أبدوا تذمرا من فعل أخيهم ولم يبدوا رفضا، أحس الشاب بفداحة مصابه، فاختفى .. حار الناس في أمره .. البعض ظنه انتحر وحين لم تظهر له جثة قالوا ارتحل والبعض لمح بأنه قتل، حتى أصبح شغل الناس الشاغل، ثم راح ذكره يخبو شيئا فشيا مع مرور الوقت، وإن كان شيء من ذكراه قد عاد إلى الأذهان يوما، فإنه يوم زفاف وضحة على راجح، ظن الناس بأنه لابد آت، سيحضر على جواد أبيض، يختطفها من بين الجميع، يحملها على جواده ويطير، لكن الأمر انقضى من دون أن يحدث شيء من ذلك، حتى بدا الأسى واضحا على بعض الوجوه التي اقتنع أصحابها بحتمية وقوعه، لكن وقوعه بعد هذه المدة وعلى هذا النحو المدوي ، لم يكن أبدا في وارد أحد .
صوت طلقات نارية بدأت تصل إلى مسامعي، حركة كثيفة للخيالة وعربات الجند، كنت أشاهدها من مكاني المطل على البلدة، أسرعت الخطى حتى لا ينشغل بال أمي علي، دنوت أكثر من بيوت المبروكة، فرأيت ما لم أره في حياتي .. بيوت تحترق .. رجال تركض ونسوة تولول .. صراخ امتزج بفرقعة أعواد الحطب والبيوت التي تستعر أمام ناظري، خيالة وجند يحاولون حشر الناس في بيوتهم ولكن من دون جدوى، خشيت أن تشت أغنامي أو تضيع في هذا الزحام، شعرت بالحرج من بعض العيون التي راحت ترمقني، كما لو كنت سبب البلاء، أسرعت الخطى هربا منها، فكان ما توقعت، طالعتني أمي عند أول الشارع .. بدت فزعة مرعوبة، ما أن لمحتني من بعيد حتى أتت إلي مهرولة : الحمد لله على سلامتك .، قالتها بعين دامعة وفرائص ترتجف، أطبقت على يدي بشكل أحرجني .. رجوتها أن تترك يدي، لكنها أبت وأصبحت أكثر تشبثا من ذي قبل، حمدت الله على قصر المسافة المتبقية، دخلنا الزقاق ومن خلفنا عالم يستعر، حاولت التملص منها واللحاق بالناس، فاستحلفتني بالله أن أبقى، وعدتها أن أكون حذرا ولا أخاطر، فبكت، أعياني إصرارها ولم أجد بدا غير المكوث بقربها، شعرت بأن خروجي رغما عنها، ستكون له انعكاسات خطيرة عليها، فآثرت البقاء .
ما أن وطأت قدماي عتبة الباب، حتى جاء النداء من الخارج، يأمر الناس بالمكوث في بيوتهم .. تكرر النداء لأكثر من مرة وفي كل مرة كانت تتبعه صلية من الرصاص، استغرق الأمر وقتا قبل أن تخلو الشوارع من المارة، سألت أمي حينها إن كانت تعلم شيئا مما حدث، فقالت : قبل الصبح بنتفه، دب الصراخ في الحارة القبلية، صراخ يزعزع البدن، طليت ع الشارع، فلاقيت الناس عفرا غبرا تجري عل غير هدى ..نسوان بشعرهن ورجال حافين القدم عريانين الرأس، قيامه وقايمه يا بني، وقفت يمكن حد يفش غلي وإلا خالتي بهية طالة .. كانت تمشي وتهبط يا ويلي عليها ما هي قادرة تتحرك، لاقيتها فارتمت على كتفي، لا الكلام ولا سلام، حاولت آخذها ع الدار لكنها رفضت، قعدنا ع طرف الزقاق وكل شوي تمر لمة نسوان مولولة، أو رجال يهددوا ويتوعدوا، سألتها بعد ما هديت : صحيح يا خلتي اللي سمعته؟ .
- صحيح يا خالتي صحيح .. يا ويلي علينا يا خالتي وعلى اللي جانا .
- كيف عرفوا اللي قتلوه يا خالتي؟ .
- لما وصل البلد، كانت روحه فيه يا كبدي عليه، اعترف عليهم الخونة ولاقى ربه .. زينة الشباب يا راجح ..، ثم غلبها البكاء حتى أعياني إسكاتها.
- أدخلي يا خالتي واللي كاتبه ربنا صاير .
- خليني أشوف أولادي يا خالتي .
- يا خالتي أرجعي، أنت مش حمل هذا كله .
- كيف أرجع وجواي نار مولعة؟ .. كيف أرجع وأولادي كلهم طلعوا في طلب الدم والثأر لابن عمهم؟، كيف أرجع وأنا مش عارفة مين منهم يرجع حي ومين لا…
- وحدي الله يا خالتي ووكلي أمرك له .
ثم راحت تصف لي كيف كان حالها وهي تشيعها بنظرات مشفقة، وكيف بدأ الإشفاق عليها ينقلب إلى خوف على وسط هذا الجحيم الذي بدأ يستعر وبقوة، كانت تعرف أني خارج البلدة ولا علم لي بما يحدث فيها، فحاولت إيجاد طريقة لإبلاغي، ذهبت إلى الشيخ إبراهيم لعله يرسل أحدا في طلبي، فلم تجده في البيت، كان قد خرج منذ أن علم بالخبر، حينها قررت أن تأتيني بنفسها، ولو أني تأخرت قليلا، لوجدتنها عندي في المرعى .
بعد ساعات من الحدث خيم الصمت، ولم يعد يسمع سوى صوت العسكر وهم يأمرون الناس بالتزام بيوتهم، أو ينادون على أحد بعينه طالبين منه التوقف، ومع مضي الوقت أكثر، غرقت المبروكة في صمتها، حتى أذان الظهر لم يرفع .
خلت البيت سجنا .. قبرا، لم أعد قادرا على احتمال البقاء بداخله، شعرت به يضيق شيئا فشيئا، حتى صار بحجم علبة كبريت، سرت باتجاه الباب، فلحقت بي أمي فزعة مرعوبة .. أمسكت بثوبي وقالت برجاء : ارجع يا ولدي برضاي عليك .
- أرجوك يا ما.. خليني أخرج .
- تخرج ! .. لوين؟ .
- لدار عمي الشيخ إبراهيم .
- الشيخ إبراهيم مش في الدار .
- يمكن روح ونعرف منه اللي صار بدل القعدة في هذا القبر .
- ربنا يسامحك .
- مش قصدي يا ما ولكني مش قادر أقعد في هذا السجن .
- ومن منا يرضى بهذا، لكنه أرحم بألف مرة من السجن، ما يكفي والدك في السجن ولا بدك تلحقه .، ثم غلبها البكاء ولم تقو على المتابعة .
- اهدي ما راح يمسكوني .. ولا حتى يشوفوني، راح أنط من الزريبة على دار الشيخ .
صمتت ولم ترد، بدت وكأنها تقيم الأمر، فأسعفها الرد الذي جاء من خارج الدار، يا حليمة .. الولد رجع يا حليمة . كان صوت الشيخ إبراهيم، أشرق وجهها وسبقتني إلى الباب : ادخل يا عمي .. تفضل .، قلت مرحبة به .
- الحمد لله .. هدي بالي .، قال وهو مقبل علي .
- كيف الأحوال يا جد .، سألته مستفسرا .
- دمار وخراب ديار.. صار عمري سبعين سنة وما شفت اللي شفته اليوم .
- لكن كيف جئت يا عم؟ .
- أعطونا أذن يا جدي لحين ما ندفن الميت .
- مسكوا القتلة؟ .
- نعم .. ضبطوهم في بيت الراضي – الشقيق الأصغر للشيخ يوسف- باغتوهم هناك قبل ما يشيع الخبر، و اقتادوهم معهم .
- دار يونس مسكوا حد من غرماهم؟ .
- لا .. الرجال فروا هاربين لخارج البلد والنسوان وقعن في عرض المختار لحين ترتيب خروجهن، أما البيوت وما حوت، فما ظل منها شيء يذكر، أكلتها النار وما حد من الناس قدر يقرب، ثورة دم كفانا الله شرها .
في اليوم التالي سمح للناس بالتجول، لكني لم أقصد المرعى، بل قصدت بيت الشيخ إبراهيم، كان الوقت مبكرا ومع ذلك وجدته يعد نفسه للخروج، ابتسم لمرآي وعلق قائلا : كبرت يا حسين وصرت تفهم في الأصول، لو ما جيت لبعثت لك .
- الواجب لابد منه .
- ربنا يزيدك من فضله يا ولدي .. كبرت ولازم تسد مكان والدك، ربنا يفك حبسه ..، ثم أشاح بوجهه عني مداريا دموعا، أوشكت أن تفضحها نبرات صوته المتهدجة .
كانت الشوارع شبه خالية، قلة من السابلة صادفونا مطرقين .. واجمين، كأن الطير على رؤوسهم، بعض الخيالة لازالوا يجوبون الطرقات ولكن من دون أن يعترضوا سبيل أحد، كانوا يتفحصون الوجوه عن بعد .. يدققون في الملامح كما لو كانوا يبحثون عن أحد بعينه، ثم يمضون، يمضون وقد خلفوا وراءهم تحسبا وخوفا، خصوصا في نفوس أولئك الذين هم في مثل سني، حمدت الله أني لم أكن بمفردي وإلا أصابني شيء من هؤلاء الذين لا تبشر نظراتهم بخير .
لكن الخير بدا بعيدا عن هذه البقعة، فما أن اقتربنا من بيوت آل الشيخ يوسف، حتى باغتتنا رائحة الحريق تزكم الأنوف، كان المشهد مفزعا .. بيوت كساها السواد، بعضها التهمته النيران بالكامل وبعضها جاءت على جزء منه .. بعضها تهدم وبعضها لحقت به أضرار فادحة، رائحة الحيوانات والطيور التي لم تنجو من المحرقة، دفعتنا لأن نسد أنوفنا هربا من روائحها المنتنة، تعذبل الشيخ بقربي وحسبل، كما لو أنه مر ببقعة أصابها خسف، ثم تابع بصمت حتى وصلنا آل راجح، كان الحوش خاليا إلا من بعض الأقارب، همس الشيخ في أذني قائلا : صافح ولا تعزي .
عملت بوصيته وأنا أجهل السبب، جلسنا إلى جوار الشيخ يونس، كان واجما .. صامتا، بالكاد يرد على محدثيه، حتى لحظة أن قال أحدهم أن الجماعة في طريقهم إلى الأردن، قاصدا بذلك آل الشيخ يوسف، لم يبد اكتراثا وكأن الأمر لا يعنيه بشيء وحين رد أحد الحاضرين مستفسرا من الرجل، إن كانت نساؤهم قد لحقت بهم أم لا، فلم ينتظر سماع الإجابة، بل قال بشيء من الاستخفاف المفعم بالمرارة : لا .. باعوهن للمختار ومضوا .
ابتسم الشيخ رغما عنه وهمس في أذنه قائلا : طول بالك يا شيخ .. العقول هبة من الله .
- هذا سؤال يسأل يا شيخ إبراهيم !! .، قال الرجل مغتاظا .
- أعط الناس على قدر عقولها يا شيخ يونس .
أسبوع وبدأت المبروكة تستعيد أنفاسها .. تستفيق من هول الصدمة .. تصحو من جديد وفي أهدابها بقايا حزن دفين وفي ثنايا وجهها شحوب لم يزل ماثلا للعيان .. أسبوع كان ليله مرعبا ثقيلا، فما أن يطل صبح، حتى تأتيك أخبار ليلة مضت، كان الرابط واحد ا، دهم هنا ودهم هناك، حملات تفتيش طالت العديد من بيوت المبروكة وخصوصا آل يونس، كانوا يبحثون عن السلاح، وفي البحث يكمن الخطر، صحيح أنهم لم يجدوا شيئا ولم يعتقلوا أحدا، لكنهم إذا دخلوا البيوت خربوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، البعض آثر المبيت خارج المبروكة إلى حين انتهاء الأزمة والبعض أصر على البقاء أيا كانت التبعات والمخاطر، لكن المخاطر تأتي أحيانا على غير وارد من أحد، كما حدث مع صبحي الأطرش حين داهم الجند بيته، في البداية ظنوه يستهزئ بهم، فأوسعوه ضربا وحين اقتنعوا بأنه أطرش حقا تركوه، هموا بالمغادرة، فعثر أحدهم على طلق فارغ قرب زير الماء، نظر بداخل الزير ثم دفعه برجله، فاندلق ما فيه وتهشم، أقبل على مسئوله ككلب صيد أمسك بفريسته، ناوله الطلق وأشار إلى المكان الذي وجده فيه، تفحصه الأخير بدوره وأقبل على الأطرش بنظرات تشي بمعرفة المصدر الذي جاء منه الطلق، خصوصا أن البيت مطل على الشارع العام، وكثير من الرصاص أطلق بقربه في الأيام الأخيرة، سأله عن البندقية التي يعود لها، جحظ المسكين فيه بأعين ملؤها الفزع .. أشار بيده نافيا معرفة مصدره، فصفعه أحدهم ثم ركله ثان، تدافعوا عليه بالركل والضرب، صرخت أمه وولولت زوجته، ابتعدوا عنه قليلا، لكنهم قلبوا البيت رأسا على عقب وحين لم يجدوا شيئا تركوا المكان، تركوه خربا مكلوما يئن من الجراح .
أيام من الخوف والقلق عصفت بنا، ثم راحت ريحها تهدأ شيئا فشيئا، حتى عادت المبروكة إلى سابق عهدها، رغم مسحة الأسى التي ظلت عالقة بها، عجيبة هذه المبروكة !، تكبو ثم تقوم .. تعثر وتتابع من جديد .. تنزف فتتعالى على جراحها .. تنحني أمام العاصفة ولا تنكسر، تبعث في كل مرة كالعنقاء من قلب الرماد، بريح طيبة كالأريج، كأنها السحر الذي لا يعرفه سوى أهلها .
لكن ريح أخرى هبت علي، باغتتني على نحو لم أتوقعه، أو لعلها غابت عني في ضجيج الغمة التي ألمت بنا جميعا وأنستنا الكثير من شؤوننا، عدت يومها كدأبي الذي اعتدت عليه، فقابلتني أمي بوجه باش، لم أشاهده منذ اعتقال أبي، لم تصبر علي إلى حين الانتهاء من عشائي، بل فاتحتني بما أرادت أثناء ذلك : لك مفاجأة عندي؟ .
- والله . قلت وفي نفسي بوادر قلق، راحت تتلاشى تدريجيا أمام بشائر الفرح التي تشع من عينيها .
- عروس .. عروس ما في مثلها .
- عروس !! .
- نعم عروس، ولا نسيت كلامك معي قبل مدة؟ .
- لا، ولكني تفاجأت حتى نسيت أسألك من هي .
- نعمة بنت أبن المختار، بنت مثل فلقة القمر، خالها سبع وأبوها سبع وجدها المختار الله يرحمه .
- عملتي بالوصية يا أما .
امتقع لونها وتوارت مظاهر الفرح التي سادت منذ قليل، أطرقت حتى ظننت أنها غابت عني وغبت عنها، لمت نفسي على ذنبها الذي اقترفت، على الجرح الذي نكأت فأدمته من جديد، بحثت عن طريقة أستعيدها بها، أو أعيد لها لحظة الفرح التي ولت .. أقبلت على رأسها أقبله، فبللت راحتي الدموع المنسابة من وجنتيها.. ضمتني إلى صدرها بقوة تشي ببواعث نفسها .. أجهش صوتها بالبكاء حتى علا نحيبها، تركتها تفرغ ما لديها على كتفي حتى هدأت، ثم تراخت قليلا وهبطت على الأرض، تأملتها بصمت، لم أجد الكلمات التي أواسيها بها، خشيت إن أنا عاودت الحديث أنكأ جراحها من جديد، بقيت في مكاني صامتا، أتابع هدوءها الذي راحت تستعيد، إلى أن بدا لها ذلك، قالت : فاتحت أمها ووعدتني خير، إذا البنت تعجبك، نبعث الشيخ ، حتى يصير كلام رجال، وعلى طلعة والدك نتمم .
- اللي تشوفيه . ثم قبلت يدها .
- أفهم بأنك موافق على العروس؟ .
- اخترتي أجمل وأحلى وأنسب عروس .
- ربنا يتمم على خير يا ولدي .
- إن شاء الله .. إن شاء الله .
لم أدر كيف غابت عن خاطري هذه الفتاة، رغم أني شاهدتها كثيرا من قبل، خصوصا حين كنت أرافق أبي، أوجدي الشيخ إبراهيم في زياراته للمختار .. هل لأنها تصغرني قليلا فلم ألتفت إليها؟، أو لأني كنت أراها على عجل، فلم تحرك بواعثي؟، حاولت أن استعيد ملامحها، فاستحضرتها أمامي .. رحت أتأمل قسماتها .. أتابع خلجاتها .. سكناتها، في البداية كانت الصورة مظللة، غير واضحة المعالم، ولكن مع مضي الوقت باتت أكثر وضوحا وربما أكثر جمالا مما ارتسم في الذاكرة، حتى حسدت أمي على ذوقها وقدرتها الفائقة على حسن الاختيار، لكن الذي لم أفهمه وحرت فيه، هو سر التغير الذي ألم بها وجعلها تعرض عما سبق وتعهدت به، فهل خوفها الذي تولد بعد ما حصل في المبروكة، هو السبب في هذا التغير المفاجئ؟، أم أن طول المدة التي مرت على غياب أبي، جعلها تعيد الحسابات مرة أخرى؟ .
بعد أيام معدودة جاءنا الشيخ إبراهيم، من عتبة الباب قال بوجه ملؤه البشر : مبروك يا بني .. فاتحت المختار ووالد البنت، رحبوا فينا الله يكرمهم ولما استأذنتهم بالصبر لحين خروج والدك من السجن، ما قالوا شيء والمختار قالها صراحة : البنت عروستكم من اليوم ووقت ما تشوفوا خذوها .
لكن الحال تبدل بعد شهر أو أكثر، جاء الشيخ إبراهيم وفي عينيه قول يريد إيصاله ولكن على طريقته الخاصة، أحس منذ اللحظة الأولى بأننا في انتظار ما يريد، لكنه آثر التروي و البدء بالسؤال عن الحال والأحوال، إلى أن جلسنا جميعا تحت السقيفة أطرق لحظة، ثم قال موجها الحديث إلى أمي : اسمعي يا مستورة، اللي ما يحمي وجهه ما يحمي قفاه .
- خير يا عمي !! . قالت أمي بوجه ملؤه الفزع .
- صحيح إحنا حكينا في بنت الناس، لكن الحكي وحده لا يكفي .
- لكنهم يا عمي وافقوا على الانتظار.
- صحيح ولكن إلى متى؟ .
- فاتحوك بشيء؟ .
- مش لازم يفاتحوني .
- والعمل؟ .
- نقرأ الفاتحة يوم الخميس اللي جاي .
- في غياب والده !، كيف أزغرد؟، كيف أفرح؟ …، ثم أجهشت بالبكاء .
- وحدي الله يا مستورة، أنا في مقام والده وعارف رأيه في هيك مواضيع .. اللي بأعمله راح يبسطه .
- لكن يا عمي .، قالت من بين دموعها .
- من دون لكن .. لابد ما نكرم الناس اللي أكرمونا وغمرونا بلطفهم .
- اللي تشوفه يا عمي .
- إذن موعدنا الخميس بعد العصر بأذنه تعالى .
- على بركة الله .
لم أنطق بحرف ولم أصدق ما تسمعه أذناي .. شعرت كما لو أني في حلم، هل حقا وافقت أمي أم أن السمع خانني؟، يا إلهي كم أنت عظيم يا شيخ إبراهيم !، من أين لك هذه القدرة على الحسم والإقناع؟، كيف حاصرت أمي على هذا النحو وقد حسبتها أقوى من أن يزحزحها شيء .
لم أحاول الحديث معها، تركتها لصمتها وخرجت، لم أخط سوى بضع خطوات، حتى طالعني ابن فهيمة عند أول الزقاق المؤدي إلينا .. شعرت بالانقباض للحظة، لكني تمالكت نفسي وأقبلت عليه مرحبا .
- أيش اللي بيمينك؟ . سألته عن الصرة التي يحملها .
- علبة بلوبيف وحفنة شاي، مع كم قطعة السكر .
- وليش مكلف حالك؟.
- لا تكلفة ولا يحزنون .. أنت منا وفينا وعارف البير وغطاه .
أخافتني عبارته الأخيرة، سرت في جسدي كالحمى .. فكرت في مغزاها، هل سقطت منه عفوا أم أنه قصد ما قال، وإن كان ذلك، فمن هم الذين عناهم بقوله منا، حاولت سؤاله فباغتني بما هو أدهى، لم أكن قد شاهدته حين دس يده في جيبه، كنت حينها غارقا في دوامة التساؤلات، لكني أفقت منها حين صفعني بصدمة جديدة : خذ .. هذا نصيبك من العملية .
- أيش هذا وأية عملية تقصد؟ .
- هذا جنيه فلسطيني بالكمال والتمام، نصيبك من العملية الأخيرة .
- أي عملية وأي زفت؟ . صحت به محتدا .
- الأشياء التي دفنتها قبل شهرين، ولا نسيت؟ .
استأذنت بالدخول .. رحبت بنا أمي ، لم تنتبه للانفعال البادي على وجهي، شدها منظر الصرة، تمنعت في البداية تمنع الراغب، لكنها شعرت بالحرج حين طالبتها بإعداد كوبين من الشاي الذي أحضره، نادت علي ، فاستأذنته وأقبلت عليها مستفسرا : خير؟ .
- كيف بدي أعمله وأنا ما شاهدته في حياتي؟ . سألتني بهمس .
ـ حطي المي ع النار واتركيها تغلي وبعدين حطي حبة شاي فوقها .
نجحت أمي في الاختبار ولم يميز ابن فهيمة، أنها المرة الأولى التي يصنع فيها الشاي في دارنا، بل راح يمدح صنيعها ويثني عليه، ثم مال علي وهمس في أذني قائلا : موعدنا بكرا الفجر قرب الشجرة .
- خير إن شاء الله؟ .
- خير .. راح أخلي عندك كيس صغير و …. .
- اعمل معروف واتركني لحالي …
- اهدأ و لا تستعجل الأمور .. كل ما في الأمر تروح لي الكيس معك للبلد .
- أرجوك .. أنا داخل على زواج ولا تورطني في مشاكل .
- صحيح .. نسيت أن أبارك لك .
- كيف دريت؟ .
- نسيت أنك في المبروكة اللي ما يخفى فيها خاف ! .
- يبقى سيبني في حالي الله يرحم والديك .
- اللي يسمعك يظن أني جارك ع الموت .
- نعم هي هيك .
- يا مجنون كيس صغير تدسه بين أغراضك ولا مين شاف ولا مين دري، تخرج بعدها بنصيبك من العملية .
- لا نصيب ولا يحزنون، عندي ما يكفيني والحمد لله .
- القضية مش مال.. في اللي أكبر من المال، ولا نسيت وين والدك مرمي؟. قالها بنبرة مفعمة بالجد .
- هذا كلام كبير، يشبه تماما كلام الشيخ مسعود مختار البلد .
- هذا اللي لازم نعرفه كلنا .
- من وين لك كل هذا؟ .
- الحياة مدرسة يا صاحبي .
غادر وفي نفسي غصة وأرق، كلامه الكبير وضع أمامي علامات استفهام كثيرة وحرك بداخلي فيضا من الأسئلة، لعل أهمها وأكثرها إلحاحا، ما تعلق بشخصه تحديدا، فأنا أكثر الناس دراية به وأقدرهم على معرفة طباعه ونوازعه، لكن طريقته في الحديث معي، جعلتني أشك في كل ما ترسخ لدي عنه، وإشارته التي أشار عن أبي، جعلته يكبر في عيني كثيرا، حتى شكلت في لحظة من اللحظات سدا بين شكي في جدية ما قال وقناعتي بصدقيته .
قابلني في اليوم التالي، ناولني الكيس وانسحب، كان ثقيلا رغم صغره، هممت بفتحه والإطلاع على محتوياته، لكن شيئا بداخلي صدني، واريته تحت شجرة قريبة ورحت أتابع أغنامي، كل حركة في المكان أثارت انتباهي وجعلتني أتلفت متوجسا، لكن الأمر ازداد سوءا، حين داهمني إحساس بأن هناك من يراقبني، تملكني الخوف وبت أتحسب من نسيم الهواء حين يحرك أوراق الشجر من خلفي، وزاد من سطوته علي، خوفي الذي راح يغذيه بخيالات أرعبتني وتساؤلات تدور في حلقة مفرغة .
انقضى النهار كأنه دهر بأكمله .. لملمت أغراضي وكلي توجس وحذر .. دسست الكيس داخل أخر ملأته بالعشب وسرت خلف أغنامي قاصدا البلدة، هيئ لي أن كل من رآني اكتشف ما بالكيس وتملكني رعب كاد يفضحني حين تصادف مرور بعض الخيالة من أمامي، خلتهم يأمروني بالتوقف، فشعرت حينها أن الدماء تتجمد في عروقي، صحيح أني أجهل ما بداخل الكيس، لكن إحساسي الفطري بالخطر، كان مؤشرا على حجم البلاء الملقى على عاتقي، لم أصح من شرودي هذا إلا على صوته، تلفت حولي وقد حسبت للوهلة الأولى أن الخيالة من ينادون علي .. تملكني الرعب وابتل جسدي بالعرق .. وقفت في مكاني بلا حراك .. أعدت النظر حولي، فلم أر أحدا منهم بقربي، كانوا قد ابتعدوا عن المكان، تكرر الصوت مرة أخرى مع بروز صاحبه من بين أشجار البرتقال، اقترب مني بحذر وقال : وين الكيس؟.
- هذا هو .
-هذا عشب .
- الكيس بداخله .
- أحسنت . قال وقد علت وجهه ابتسامة عريضة .
- حسبتك راح تستناني عند طرف البلد زي ما قلت .
- للضرورة أحكام .، قالها بعد أن حمل الكيس على عاتقه، ثم دس يده في جيبه وناولني جنيها أخر.
- لأيش هذا؟ .
- نصيبك من العملية .
- اعتبره وصل .
- خليك من الهبل وخذه، أنت داخل على زواج .
قال جملته الأخيرة واندفع عائدا من حيث أتى، تتبعته بنظري عن دون قصد، فرأيته يحادث فارسا على ظهر جواد، كان ينتظره عند الطرف الأخر من البيارة، ناوله الكيس، فأعطاه الأخير شيئا، أظنه مبلغا من المال دسه في جيبه وانصرف من الجهة المقابلة، بينما انطلق الفارس بجواده قاصدا جهة الشرق، كانت الأجواء تميل إلى الغروب حينها، لكني جزمت بأن الفارس من خارج المبروكة، أما كيف اهتدى لابن فهيمة وكيف اهتدى الأخير إليه، فهذا ما لا لم أعرفه في حينه، لكنه اتضح بعد ذلك بسنين .
حرت في الجنيهات التي راحت تتوالد في جيبي يوما بعد يوم، خفت أن أعطيها لأمي فتسأل عن مصدرها، أن أبقيها في جيبي فتضيع مني أو يذيبها العرق، فكرت في إيداعها لدى الشيخ إبراهيم، لكنه سيسألني أيضا عن مصدرها، حرت فيها وكأنها أموال قارون التي ناءت العصبة أولو القوة بمفاتيحها، حتى أضناني البحث فلمعت في ذهني فكرة لا أدري كيف اهتديت إليها، تدارستها جيدا وعزمت على التنفيذ .
استغربت أمي من عدم خروجي إلى المرعى وزاد استغرابها حين أخبرتها برغبتي في النزول إلى المدينة وسؤال المحامي عن أبي، بدا الارتباك واضحا على وجهها وسألتني بوجل : سمعت شي؟ .
- أبدا ولكن الأمل في وجه الله، خصوصا أن موعد الشيخ مع أهل العروس قرب .
- ما بقي غير يومين . قالت بشيء من الحسرة والألم .
أسرعت لكي ألحق بالشاحنة قبل أن تغادر البلدة، وإلا اضطررت لقطع المسافة إلى المدينة سيرا على الأقدام، أو متطفلا على عربة أحد المزارعين، الذين يقصدون سوقها إما للشراء أو البيع، صحيح أن المسافة ليست بالبعيدة، لدرجة أن بعض النسوة كن يأتينها من المبروكة فجرا، محملات بسلال التين والعنب، يبعنها ويتسوقن بثمنها، ثم يرجعن إلى المبروكة قبيل أذان الظهر أو معه .
أدركت الشاحنة وهي تهم بالتحرك، نادى أحدهم على السائق فتوقف، تسلقت الباب الخلفي وحشرت نفسي بين الموجودين، بادرتهم بالتحية، فبادلوني بمثلها، تفحصت الوجوه من حولي فعرفتها، استغربت وجود فهيمة بينها، أحست بذلك فقالت معللة : عندي مراجعة في الاسبطار ، ثم سألتني عن أمي، فتعرف عجوز بقربي علي، قال بصو ت ضعيف : كيف أبوك يا ولدي؟، حمدت الله واختصرت، فتولت فهيمة الأمر عني ، راحت تقص على مسامع الجميع تفاصيل الحكاية وكأنها كانت في انتظار اللحظة التي تخرجها من حالة الصمت المفروضة بفعل هدير المحرك، لم تعبأ به وكلما علا ضجيجه ارتفع صوتها أكثر، حتى تملكني الغيظ وكدت أن أصرخ بها : انهدي يا حرمة .، لكني أثرت نسيانها واكتفيت بعد رؤوس الغنم المحشورة معنا، ضحكت للنتيجة التي خلصت إليها، كانت تساوينا عددا، عشرون رأسا من الغنم وعشرون من البشر، عدا عن خمسة أقفاص من الدجاج وثلاثة من الحمام وأربعة من البط، بالإضافة إلى بضع جرار صغيرة وسلال فيها سمن ولبن .
توقفت الشاحنة عند أول المدينة، كانت تلك محطتها الأخيرة، ترجلت منها ولم ألتفت خلفي، كانت طريقي تختلف عن طريقهم، سرت في الشارع أتأمل صحوته، كان الوقت مبكرا بعض الشيء والسابلة فيه قليلون، عدا عن بعض الباعة الجوالة، وبعض المحال التي راحت تفتح أبوابها بكسل واضح، شدتني رائحة زكية، فأيقنت أني قريب من محل فلافل، كم كنا نعشق نحن القرويون هذا الشيء العجيب، ما من أحد منا ينزل المدينة إلا ونال منه حتى تجحظ عيناه ويبكم لسانه وكنا نعشق أكثر تلك الأرغفة الصغيرة التي يحشى بداخلها، البعض منا كان يجلبها لصغاره، فيحشونها داخل أرغفة الطابون ويتناولونها .
التهمت شطيرتين وكوب خروب مثلج، ثم ناولت الرجل خمسة ملاليم وانصرفت، عرجت على سوق الذهب، فوجدته قد أتم يقظته .. ولجت في أزقته القديمة المسكونة بالرطوبة والعطن، بحثت عن الشمس فلم أجدها، حجبتها الأقواس العالية .. منعت أشعتها من ملامسة جوف المكان، فغدا كالدهاليز المعتمة، حتى تساءلت عن السر في اختيار مثل هذا الأمكنة لبيع مثل هذه البضاعة، هل لأنها من القيمة بحيث تحجب في هذه الأقبية، أم أن الشمس والذهب لا يلتقيان؟ .
عرجت على أحد المحال، فطالعني وجه نحيل، نظر إلي الرجل نظرات ملؤها الشك، شعرت بوخز نظراته وهي تجوب مساحة جسدي من أعلاه إلى أسفله ومن يمينه إلى يساره والعكس، حدقت بدوري في الرجل الذي بدا مضطربا، كان في الستين من عمره، يعتمر طربوشا يكاد ينزلق على وجهه فيطمس معالمه، حليق الذقن على غير عادة، يرتدي سروالا تكاد ليته أن تلامس الأرض، سألني بعد فترة صمت سادت بيننا : أتأمر بشيء؟ .، أربكني السؤال ورحت أجول بنظري في المصاغ المعروض داخل خزانة صغيرة، مما أثار حفيظة الرجل وجعله يعيد السؤال مرة أخرى وبنبرة تشي بالقلق، فقلت مطمئنا : كيف الأسعار؟ .
- كل شيء وله سعره .
- معي ليرتين .
- تقدر تشتري فيها ليرات ذهب .
- تكفي؟ .
- نعم.. تكفي .
ناولته المال وناولني ثلاث ليرات ذهبية، كان بريقها يخطف الأبصار، لففتها في منديل أخرجته من جيب جلبابي، طويتها بحذر شديد ثم مضيت في سبيلي، فقادتني قدماي إلى السوق القريب، كان يغص بالباعة والمشترين، كدت أضحك من رؤية بعضهم وهم يجرون العربات المحملة بالغلال بدلا من الدواب، تساءلت مستهجنا إن كان يعانون من نقص في الحمير أو البغال، لكني أدركت بعد حين حجم البلاء الذي أصاب المدينة، كان بأضعاف ما أصابنا في القرية، فالأتراك تركوها خربة على أهلها والإنجليز من بعدهم أدموا الناس بكثرة الضرائب، حتى أصبح الواحد منهم لا يجد ثمن دابة تعينه على شظف الحياة، فأبدل نفسه مكانها لكي يجد قوت يومه .
كل لحظة تمضي تبدي لك أشياء جديدة، حرت فيما سأشتري للبيت، في المرة الأخيرة حين جئت مع أمي اشترت عوامة، وهى عجينة بحجم بيض الحمام تقلى بالزيت، ثم توضع في عسل بارد معطر برائحة الورد، فيتخلل مسامها الساخنة، حتى إذا ما انبعجت في الفم أعطت مذاقا شهيا، عزمت أن أكرر الأمر وأن أزيد من الكمية المشتراة، بل وأزيد عليها شيئا من الفلافل والخبز السوقي، تحسست ما بجيبي من المال فوجدته كافيا، اشتريت أشيائي على عجل وأسرعت قاصدا المحامي، صعدت إلى البناية التي يقع فيها مكتبه، فوجدت بابه مغلقا، طرقت الباب فلم يجبني أحد، تريثت قليلا، ثم طرقت الباب من جديد، فخرج لي أحد الجيران وبشيء من الامتعاض قال لي : خير .. مش شايف الباب مقفول؟.
- يمكن في حد؟ .
- لا حد ولا سبت، الأستاذ سافر قبل أسبوع .
- ومتى راح يرجع؟ .
- هو أنا مستشاره ولا شغال عنده حتى يقول لي؟ .، ثم صفع الباب في وجهي صفعة مدوية، خلت المبنى قد ارتج على إثرها، لملمت أغراضي وفي داخلي غصة من المحامي أكثر من تلك التي خلفها الرجل، أسرعت ناحية الموقف وقد أوشك النهار على الانتصاف، كانت الشاحنة تقف في مكانها الذي نزلنا فيه، بعض الذين جاءوا برفقتي وجدتهم قد أخذوا أماكنهم داخل صندوق الشاحنة الخلفي، ناولت السائق أجرتي وصعدت، فجاء جواري إلى جوار العجوز الذي رافقنا في الصباح، انتظرنا قرابة ساعة تحت وهج الشمس، بدا التذمر على الوجوه،ثم تحول إلى حالة من الإلحاح على السائق بالمضي، لكنه رفض مطالبنا، متذرعا بانتظار من لم يعد من الركاب، نظرت حولي فلم أفتقد سوى فهيمة، كدت أن أخبره باحتمال تأخرها، لولا أن شاهدتها تطل من بعيد وهي تنوء تحت أحمالها، هرع السائق نحوها، أخذ عن رأسها القفص الذي عاد ممتلئا عن أخره، تناولته منه فكاد يقدني ثقله، تساءلت عن الطبيب الذي زعمت ذهابها إليه، فأدركت الإجابة داخل الأكياس التي ضمها القفص، دار السائق حول الشاحنة، تأكد من اكتمال العدد، ثم صعد خلف مقوده وانطلق .
وفي رأسي انطلقت مشاهد أخوتي وهم يهرعون إلي فرحين بما جلبت لهم، وهم يتخيرون بين هذا الصنف وذاك، شاهدت أختي الصغيرة وهي تطبق على الأشياء كلها، أرادتها جميعا لنفسها، التهمت من كل شيء فاختلط عليها المذاق .. تراجعت قليلا وفي داخلها رغبة بالمزيد، ضحكنا من طرافة المشهد وبراءته.. من عفويته، فانتابني شعور بالارتياح .. بالسعادة.. بالأبوة وما فيها من عطاء لم أعشه من قبل و لم أتلمسه .
حملت أغراضي بحرص أشد وترجلت من الشاحنة، سرت والمشاهد تدور في رأسي كأنها تحثني على الإسراع، استجبت لها منساقا، رغم حرارة الشمس والأغراض التي جلبت، لم أشعر بطول الطريق أو بعدها، كان همي أن أصلهم في لحظة، كأنما أفر من شيء أجهله أو استعجل شيئا لا أعرفه .
وصلت الدار يبللني العرق، كان المشهد كما توقعت، لكن بفارق بسيط ، إذ كانت أمي أول من أبدى ابتهاجا وسرورا: من يد ما نعدمها ولا نعدم دخلتها علينا . قالت وقد ارتسم البشر على وجهها، في حين تحلق الصغيران بقربها، يتابعان حركة يديها المنهمكة في إخراج الأشياء ومع كل جديد يطل، تعم الفرحة والابتهاج، رحت أتابع المشهد بروية وصمت، استرق النظر إلى أمي وهي تطعمهما بتلذذ أنساها ذاتها، كانت حمامة تزق فراخها، تذكرتني بعد حين، فلتفت إلي وعلى وجهها ضحكة يشوبها الحرج : مد يدك مثلهم، ولا تريد أطعمك زيهم؟ .،
- أكلت يا ما .
- خذ هذه .
فتحت فمي كما يفعل الصغيرين، دست أصابعها داخله، فتلمست مذاقها الذي طغى على مذاق الحلوى التي حملت، حسدت الصغيران على النعيم الذي ينعمان، وغبطت أمي على هذا العطاء، تمنيت لو أن السنين عادت بي قليلا إلى الوراء، أ و أبقتني في ثنايا اللحظة وانطلقت لحالها، لكن اللحظة فرضت ذاتها وشدتنا في طياتها ، أجبرت الصغيرين على ترك ما في أيديهما والإنصات لم هو آت من خارج الدار، كان اللغط ممزوجا بالزغاريد والأهازيج، اقترب الصوت أكثر، تلاقت نظراتنا بحيرة وريب، كدت أن أخرج لأستطلع الأمر، فإذ بالجموع تندفع إلى داخل الدار، وفي وسطها أبي، تسمرت في مكاني من وقع المفاجأة، لم أدر إلا وأبي يضمني إليه، بكيت حتى علا نحيبي، لم أشعر بأمي التي سقطت مغشيا عليها، تنبهت حين صاح أحدهم : مي .. ناولوني إبريق مي، ساعتها تركني أبي وأقبل عليها وضع رأسها على ساعده وراح بالأخرى يمسح الماء على وجهها، ارتعشت شفتاها، تمتمت باسمه .. قبل جبينها وضمها إليه .. زغردت بعض النسوة اللاتي تحلقن حولها .. تحاملت على نفسها وأسندت ظهرها على الحائط ، فالتفت إلى الصغيرين، اللذين أربكهما ما يجري من حولهما، ضمهما إليه وأخذ مكانه بين الرجال الذين ضاقت بهم الدار، أقبل الشيخ إبراهيم يرافقه المختار ومن خلفه المبروك وعدد من الرجال، أقبلوا على أبي بالسلام والعناق، كانت المرة الأولى التي أرى فيها الدموع تنهمر من عيني الشيخ، دنا مني وهو يحاول كبتها، ثم انتحى بي جانبا وهمس قائلا : خذ اللي يعاونك وانحر ثلاثة خرافان، جهزوها قبل ما تغيب الشمس الغروب .، ثم عاد ليأخذ مكانه بين الرجال .
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1144 الجمعة 21/08/2009)