نصوص أدبية

طريق الشمس

وبحركة آلية احتضن جرابه الوسخ كأنه يحضن حبيبة لم يرها منذ عصور.

أحس بتيار بارد، فلم يجد غطاء إلا ورق الكارتون  الذي افترشه ليلة البارحة.. أراد أن يغطي قدميه بقشابيته البالية فوجد الصقيع قد حولها إلى صفيحة يابسة جعلت جسمه النحيل  ثلاجة تعمل بدون كهرباء.

-كم الساعة الآن يا ترى؟

تساءل في سره، لكنه لم يجد جوابا وهو يرى هذه القشابية السوداء تغطي المنطقة.. حاول أن ينام ثانية فلم يطاوعه الرقاد.. أخذته سنة من النوم بعد محاولات كثيرة وفجأة أيقضه مِؤذن المسجد الذي أراد إقناع الناس بأن الصلاة خير من النوم.

احتضن جرابه في حركة رومانسية، ثم نهض يجر أذيال ذكريات غامضة لا يعرف عنها الناس إلا مقتطفات متناقضة هي أقرب إلى الخرافة منها الحقيقة.

اسمه "الهديدي" أو على الأقل هذا ما يعرف به، فقد قال أحد مرتادي المقاهي أنه من منطقة بائدة اسمها "هديد" أبادها الطاعون الذي أعقب سنوات الجفاف الشهيرة، ولم يسلم إلا هو قبل أن يتوجه إلى فرنسا ويعيش هناك صعلوكا بوهيميا، وأنتقل بعدها من قرية إلى أخرى حتى وصل إلى هذا المكان.

لكن هذا الطرح لم يحض بإجماع ففيه من الغرابة ما يبعث على التشكيك فيه، وليس أغرب منه الرأي الذي يقول بأن "الهديدي" ليس بشرا عاديا، فقد جاء إلى هذه الدنيا هكذا وولد شيخا يحمل جرابه، ولا يظهر إلا في أوقات تسبق الكوارث الطبيعية، وما على المنطقة إلا أن تستعد لزلزال مدمر أو جفاف قاتل أو طوفان لا يبقي ولا يذر.

تمطى قليلا ثم نهض متثاقلا وتوجه إلى المقهى التي كانت بجواره والتي تفتح باكرا.. عندما خرج من دورة المياه كلم النادل:

-كالعادة قهوة ثقيلة

التفت إلى صوت أتى من الخلف

-ماذا تحمل في جرابك يا هديدي؟

تجاهل الصوت وأصطنع حديثا مع صاحب المقهى، لكن الصوت تحول إلى حركة أرادت أن تنتزع منه الجراب.

ثارت ثائرته وأخذ يصرخ ويهدد بعصاه حتى تجمع نفر من الناس لفك ذلك النزاع، ودون أن يشرب قهوته خرج غاضبا إلى وجهة مجهولة.. خلّف وراءه نفر الناس يتكلمون عن جرابه الذي بقي لغزا..

قال قائل أن الجراب توجد بداخله مخدرات، وأن الهديدي هذا ما هو إلا تاجر يبيع السموم للشباب الضائع، لكن هذا الحديث لم يقنع أحدا، فقد ذهب آخرون إلى أن الجراب توجد بداخله أوراق مخطوطة كتبها الهديدي بنفسه، فأكد أحدهم أنه رآه يكتب كلاما لا ينبع إلا من أعماق مثقف واسع الاطلاع.

في حين أن أحد المتحدثين أكد بأن الجراب لا يحتوي إلا على قميص لزوجة الهديدي التي كان يحبها حبا جما، وعندما ماتت بالسرطان في ربيع عمرها لم يحتفظ منها إلا بهذا الثوب، فبقي أسيرا له طيلة حياته. وفي كل الأحوال لم يأت أحد بالقول الفصل، وبقي الأمر لغزا يحيّر الجميع.

في ذلك اليوم لم يعرف أحد أين قضى وقته، كأنه طيف خيال ذهب إلى عالم النسيان، لكن ما إن التبس الخيط الأبيض بالخيط الأسود حتى سقط على المقهى فجأة، وما أن رآه بعض الشباب حتى التفوا حوله وبدأ يحكي عن الحرب التحريرية أين كان في باريس:

..كنت من الذين أمر "موريس بابون " بإلقائهم في نهر السين، وفعلا رموني في ليلة من ليالي أكتوبر الباردة، لكن الله شاء لي أن أعيش من جديد.

وكيف حدث ذلك؟

عندما اقتادني العسكر مكبل اليدين والرجلين ورموني.. رأيت سمكتين كبيرتين في النهر.. ظننت في البداية أنهما ستأكلاني، لكن سمكة أكلت قيد يدي والأخرى مزقت السلسلة التي تمزق رجلي، ورغم أنني لم أكن أحسن السباحة فقد وجدت نفسي أسبح بمهارة فائقة، تمكنت من خلالها من الخروج دون أن يراني أحد.

قال أحد الجالسين: "هذا كذب.. نحن في عصر الانترنيت وغزو الفضاء وأنت تحكي عن الأساطير التي لا يصدقها المجانين".

واصل الهديدي حديثه كأنه لم يسمع شيئا، ثم انتقل إلى حديث آخر وراح يكلم الجمع عن حكايته مع الممثلة الإيطالية "صوفيا لورين "ومغامرته معها ذات ليلة صيف على شواطئ مدينة نابولي ومأزقه مع المافيا.

كانت الليلة باردة وفي ساعة متأخرة ذهب الهديدي إلى مكانه للنوم، ولم يكن أحد يعلم أن تلك الليلة ستكون الأخيرة له في تلك المدينة الصغيرة.

في الصباح لم يجدوا في مكانه شيئا سوى قطع الكارتون  المتناثرة وبقايا عراك وأشياء مرمية محطمة، وقد قيل أن وحشا مفترسا اقتحم المكان وأكل الهديدي في تلك الليلة.

وفي الوقت نفسه وجد "هلال القهواجي " فاقدا للوعي ونقل إثرها إلى المستشفى ثم إلى المصحة النفسية.. بقي القهواجي في المصحة طويلا تنتابه بين الفينة والأخرى نوبات هستيرية يقوم من خلالها بتمزيق ثيابه ومحاولة الاعتداء على جلسائه قبل أن يسترخي تحت تأثير منوم قوي يضعه له ممرضو المصحة.

"هلال القهواجي" الذي بدأ يسترجع عافيته مع المتابعة الطبية، لم يشأ التحدث في موضوع الهديدي لأن ذلك يدخله في نوبات عصبية حادة، يفقد من خلالها صوابه لكن مع مرور الوقت بدأ يتكلم باقتضاب شديد عن تلك الليلة المشهودة.

قال هلال لأحد أصدقائه: "كنت ليلتها نائما في المقهى وقد رفض الهديدي كعادته النوم معي مفضلا جليد الشارع وصقيعه، وبينما أنا نائم وإذا بهاتف يحثني على الخروج.. لم أتمالك نفسي ساعتها وأصبحت تحت تأثير ذلك الصوت الذي أخرجني ووضعني في طريق الهديدي.

كانت الليلة باردة جدا إذ وجدته مستندا على جرابه وهو يرتجف من البرد، ودون أن أكلمه خطر في ذهني أن أنتزع منه الجراب لأعرف ما فيه. 

عندما هممت بذلك أحسست بالهديدي ينتفض واقفا وينتزع مني الجراب.. ضربتني صاعقة قوية على إثرها.

في تلك اللحظة ساد الكون نورا كأننا في واحدة النهار وتحول الهديدي في رمشة عين إلى جسم متوهج وغبت عن الوعي كما تعرف".

في هذه الأثناء تكلم البعض عن احتراق الهديدي،  وتحوله إلى رماد ذهب مع الريح، لكن آخرين لم يصدقوا هذا القول وذهبوا إلى أن الجسم الملتهب ذاك قد سافر إلى الفضاء وتحول إلى نجم يهتدي به الناس في سفرهم. فالهديدي ما هو إلا النجم القطبي الذي كان يستعمله البحارة والقراصنة قبل اختراع البوصلة، ولما لم يبق له دور فقد نزل إلى الأرض ليقوم بمغامراته تلك.

وهنا بدأ الناس يتذكرون كلام الهديدي عن الشمس وعن الكواكب والأجرام بطريقة لم يفهمها أحد، كحديثه عن المجرّات البعيدة وانطفاء النجوم والسنوات الضوئية والثقوب السوداء الموجودة في الشمس.

 ومع مرور الأيام بدأ الناس يحنون إلى الهديدي الذي ترك فراغا كبيرا، وأصبح الملل يسود المدينة وأصبح الناس يعشقون النظر إلى السماء ويعرفون جيدا موقع النجم القطبي.. يشاهدونه أفرادا وجماعات في ليالي السمر الصافية.. يكلمونه ويستسمحونه لعله يعود إليهم في يوم ما، وبدأت النسوة يتكلمن عن النجوم .. وأصبحت النجوم مقياس الجمال وعلو الشأن وانتشرت أسماء: "نجم" و"نجمة" بين مواليد المدينة.

 

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1144  الجمعة 21/08/2009)

 

 

في نصوص اليوم