نصوص أدبية

صفحات من سيرة المبروكة (11-2)

 انضم إلى صف الرجال الذي يحيط بي من كل جانب، تحلق بعض الشبان أمامنا، افتقدت ابن فهيمة حينها، لو كان بينهم لألهب الأجواء، كانت أمه بين النساء، لم يتوقف صوتها عن الغناء،كان الأبرز من بينهن، كذلك المبروك كان غائبا على غير عادة، شغلني أمرهما بعض الوقت، لكن حماسة الشبان دفعتهم إلى اقتيادي ضمن صفوفهم، أخذتني أهازيجهم، للمرة الأولى أستشعر طعم الفرح، أتذوقه واستمرئ طعمه، لم أشعر بطول الطريق ولا بالعرق الذي راح يتصبب من جسدي رغم طراوة النسائم التي تهب علينا، ازداد الجمع لحظة دخولنا المبروكة.. تبعتنا نسوة جدد وأطلت أخريات من خلف حجب.. لحق بنا صبية وشبان.. اتسعت الحلقة وضاق بها الشارع، إلى أن وصلنا الزقاق المؤدي إلى بيتنا، فتفرق الناس مصحوبين بالدعاء إلى أنجالهم.

بعيد العشاء بقليل طرق بابنا الشيخ إبراهيم، جاء ومن خلفه المبروك، بدا كمن جاء من سفر بعيد، رغم مظاهر الفرح التي يعتمر بها وجهه، اقبل على أبي بالعناق وكذلك فعل معي، تبعه المبروك أيضا، فهزتني رعشة حينها، شعرت وكأن في هذا الرجل روح غريبة، طيب أنفاسه غمرني، كانت المرة الأولى التي ألامس فيها هذا الرجل عن قرب والأخيرة التي أشك فيها في كونه مبروكا بحق.

صاح أبي فيهما بشيء من العتاب : وين كنتم ؟.، فأشار الشيخ بيده، أن اصبر علينا حتى نلتقط أنفاسنا، استجاب أبي للطلب وراح يملأ لهما فنجاني قهوة، تجرعاها على عجل، فثنى بآخرين تريثا قليلا في ارتشافهما، ثم التفت الشيخ إلى أبي قائلا : كنت والمبروك طالعين لملاقاتكم، وإلا المختار باعث في طلبي، سألت الشاب عن غرضه، فما فادني في شيء، رجعت ساعتها لأشوف الموضوع.

- خير إن شاء الله.، قال أبي وقد بدا التوتر على ملامحه.

- اتضح يا سيدي أن الإنجليز بلغوه بأنهم نفذوا حكم الإعدام في اللي قتل راجح.

- قتلوا الثلاثة !!.، صاح أبي مستهجنا.

- قتلوا واحدا وحكموا ع الباقي بالمؤبد.

- هيك أرحم. عقب أبي بشيء من الارتياح.

- اضطررنا حينها نصل أبو راجح ونبلغه باللي حصل.

- بالتأكيد.. وأظنهم نصبوا عزا.

- نعم، مجرد ما تحققوا من الأمر، راحوا يستقبلوا الناس.

- على هيك لازم يتأجل فرحنا لحين ما يخلص العزاء.، قال أبي موجها حديثه للشيخ.

- نعم.

خيم الوجوم علينا جميعا، كانت أمي أكثرنا جزعا بما حدث، حتى أنها قالت دون أن تلتفت لوقع كلماتها : كان صبروا علينا جمعة زمان وبعدين أعدموهم؟.

- اذكري الله يا حرمة. قال أبي بصوت لا يخلو من مسحة أسى، ثم التفت إلى الشيخ ليسأله عن موعد ذهابه إلى العزاء في اليوم التالي.

في العشر الأواخر من المدة، وقع ما لم يكن في الحسبان، حتى ظننت بأني لن أتزوج أبدا، فما أن كدنا نتخطى العقبة الأولى حتى لاحت لنا أخرى، كنا يومها قد عدنا للتو من بيت العزاء، نادى أبي على أمي لكي تهيئ لنا طعام العشاء، فجاءت أمي بدورها هاشة باشة تبشرنا بإتمام كسوة العروس، جلسنا نتناول طعامنا وأثناء ذلك كنا نتحدث عن الفرح وما يلزمه من ترتيبات، انساق أبي في الحديث عن ليلة العرس وما أعد لها.. عن رفاقه الذين دعاهم من خارج البلدة، عن البدو من آل عبدون الذين أكدوا على حضورهم رغم مشقة الطريق وكثرة المضايقات بها، سواء كان ذلك من دوريات الإنجليز، أو من حرس الكبنية التي تقع في طريقهم، عن الغجريات اللاتي أوصى على جلبهن من خارج البلدة، فصاحت أمي مبدية سخطها : إيه !!.. والله هذا اللي ناقص.

ضحك أبي بملء فيه، عمد إلى استفزازها أكثر : إن كان ما تقبليهن في عرس ابنك، خليهن لعرسي.

- صحيح والله.. حملوه عنزة ضرط، فقال هاتوا الثانية.

كاد أبي أن يقع على ظهره من الضحك، بينما انصرفت أمي ترفع ما تبقى على المائدة من طعام، كانت تتمتم بأشياء وصلنا بعضها والبعض الأخر عمدت إلى إخفائه، وضعت ما بيدها وأقبلت علينا بوجه عبوس، لم تحرك به ساكنا ضحكات أبي ولا حتى إقراره لها، بأنه لم يكن يقصد سوى الممازحة.

- قلت لك قبل هيك ما بحب المزاح في هيك مواضيع.

- يبقى نخليها جد.

- اللي تشوفه.

- أنت الخير والبركة كلها يا أم حسين العظيمة.

- ما ظل فيها بركة بعد اللي سمعته.

- والله أنت البركة كلها، بس حبيت ألاكعك شوية.

لكن الملاكعة انتهت على غير ما توقعنا، فما أن أتم أبي جملته، حتى وصل إلى مسامعنا صلي طلقات بعيدة، كانت في البداية رشقات متقطعة، لكنها بدأت تتحول تدريجيا إلى دفعات متلاحقة، ثم راحت تقترب شيئا فشيئا حتى بدت وكأنها خارج الحوش، أطبق الصمت علينا ودارت العيون في المحاجر، هم أبي بالوقوف والسير نحو باب الحوش، فأمسكت به أمي وهي ترتجف من شدة الخوف، أقسمت عليه أن يعود إلى مكانه، نظر إليها نظرة ملؤها الحب والحنان، ثم انصاع لأمرها.

وقع أقدام الخيل في الشارع كان يصل إلى مسامعنا بوضوح، صرخات الجند التي كانت تنطلق بين الحين والأخر أثارت الرعب في نفوسنا، لدرجة أن أمي التفتت أكثر من مرة نحو الصغيرين وحمدت الله لكونهما يغطان في النوم، إلا أننا لم نذق طعما للنوم في تلك الليلة، ظل الخوف يحاصرنا إلى ما قبل صلاة الصبح بقليل، عندها هدأت حركة الخيل في الشوارع ولم يعد يصلنا وقع أقدامها، ثم أطبق صمت غريب وكأن شيئا لم يكن، أو أن ما حصل كان كابوسا مفزعا، انقضى مع بزوغ الصبح.

لم يرفع الأذان يومها، لكن أبي قدر الوقت، نادى على أمي لكي تعد له ماء للوضوء، ثم أمرنا بالخلود إلى النوم، لكن النوم فر من مآقينا ولم يعد، عبثا ألقيت نفسي على الحصير محاولا الإمساك به، صوت الشيخ إبراهيم وهو ينادي على أبي، جعلني أستعيد يقظتي من جديد، دخل الشيخ بادي الجزع، سأل بصوت يشوبه القلق : أنتم بخير؟.

- الحمد لله. رد أبي قائلا.

- أيش اللي حصل يا عم؟. سألت أمي موجهة حديثها للشيخ.

- علمي علمك يا بنتي. رد الشيخ مبديا حيرته.

- ربنا يجيب العواقب سليمة. قالت أمي ورفعت أكفها إلى السماء.

- ربنا يسمع منك يا بنتي.

 صوت جلبة في الشارع دفعنا للخروج واستطلاع الأمر، وجدنا الناس متحلقين حول بغل الراضي، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، وآثار طلقات اخترقت كتفه الأيسر لازالت تنز بالدماء على أرض الشارع، البعض ألقى باللائمة على الرجل الذي ترك بغله في العراء والبعض لعن الإنجليز الذين قتلوه عن عمد، بينما الراضي يتابع زفرات بغله بصمت جنائزي حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

بكى الرجل رغما عنه، لم يقو على كبت دموعه لحظة أن مدت الأيدي بالعزاء إليه، البعض تبرع بجر البغل إلى خارج البلدة والبعض تبع الرجل إلى داره من أجل المواساة، بعض النسوة أخرجن الطعام.. جلبنه من بيوتهن على عجل، الصغيرات منهن وضعن ما جلبن ومضين بعد ما أدين واجب العزاء للمرأة المصابة والمسنات جلسن لمواساة المرأة في مصابها.

لم يمض وقت كثير حتى عاد الرجال الذين جروا البغل إلى خارج البلدة، كانت ملامحهم تشي بشيء يجهله الحاضرون، مما حدا بأبي لأن يبادرهم بالقول : خبرونا يا جماعة عن الأحوال وراكم.

- الأحوال لا تبشر بخير يا أبو حسين.

- احكي يا رجل ولا تشغل بالنا. قال الشيخ إبراهيم مستحثا الرجل.

- ما عندي تفاصيل كثيرة ولكن الخبر اليقين عند المختار، الناس بتقول أن الإنجليز كانوا عنده الليلة.

التفت الشيخ إلى الحضور وقال بعد أن أخرج جنيها من جيب جلبابه : عاونوا أخوكم على مصيبته.، ثم استأذن ومن خلفه أبي الذي وضع جنيها أخر أمام الرجل، حذا حذوهما عدد من الرجال، البعض تبعنا إلى دار المختار والبعض من أقارب الرجل آثر الانتظار بقربه.

كان المختار جالسا بين حشد من أقاربه حين لفينا على الحوش المطل على بيته، وقف الرجل مرحبا بنا ومن خلفه قومه، أفسح لنا مكانا بقربه وراح يستفسر منا عن أحوالنا بعد الذي مر بنا، فبادره جدي بالقول : الحال عندك.. سمعت أن الإنجليز كانوا عندك الليلة.

- الإنجليز واليهود وحمدان، أجوا بعيرهم ونفيرهم. قال المختار وابتسم ضاحكا.

- خير إن شاء الله.

- الخواجا يعقوب يا سيدي، مدعي عند الإنجليز، أن في المبروكة ناس تعتدي على ممتلكات الكبنية.

- و كان معهم؟.

- كان أسفلهم وأحطهم.. تصور أن هذا الصعلوك المنحط، حاول يرفع أيده علي.

- ابن الكلب.. لحم أكتافه من خيرنا. قال أبي معقبا.

- نسي أبوه لما كان يتسول في المبروكة والناس تعطف عليه وتمده بالعطايا والصدقات. تمتم الشيخ بشيء من الحسرة الأسى.

 - الأيام دول يا شيخ. رد المختار قائلا.

- ربنا لا يقيم لهم دولة يا ولدي، لأن اليهود إذا حكموا ظلموا، هم ذبحوا أنبياءهم من قبل، فكيف يرحموا الناس؟.

لكن الناس بدأوا يستشعرون مرارة الواقع الذي يعيشون، أضحوا بين مطرقة الإنجليز وسنديان الخواجا يعقوب، إذ لم يعد بمقدورهم من بعد تلك الليلة الاقتراب من حدود الكوبنينة، أو الرعي في الأراضي التي تحدها، بل أن بعض من كانوا يعملون بداخلها تم الاستغناء عن خدماتهم، وأصحاب الأراضي المجاورة، راحوا يشتكون للمختار من مضايقات يقودها الخواجا يعقوب بنفسه، مما حدا بالمختار إلى اصطحابهم لمقابلة الميجر، لكنهم عادوا بخفي حنين.. لم يجنوا غير الوعود بديلا، حينها أصر أبي على رغبته الأولى، رفضت أمي كما رفضت من قبل، لكن أبي كان حاسما في هذه المرة : يضيع الولد يا حليمة من تحت راس الغنم.

- بعيد الشر عنا، كل الغنم فدى أظفر من أظافره.

- من بكره كل الغنم ع السوق. قال أبي بنبرة واضحة وحاسمة.

- لكن يا رجل قبل ما تغيص قيس، من وين بدنا نعيش. قالت أمي بما يشبه الرجاء.

- قست وتوكلت على الله، من بكره راح أنظف الزريبة وأحولها إلى دكان بثمن الغنم.

- والشيخ إبراهيم؟. سألته أمي مستفسرة.

- مثل ما هو شريكي في الغنم، هو شريكي في الدكان.

يومان وكان لدينا دكان يغص بالبضائع من كل صنف تقريبا، ناولني أبي كراسا وقلم كوبيا أزرق أحضره خصيصا من المدينة وقال لي : هذا دفتر الدين وأظنك تجيد الكتابة؟.، فأومأت برأسي مؤمنا على قوله، ناولني حينها القلم وقال : بلله بريقك قبل ما تكتب فيه حتى لا تمحى الكتابة.

راقت لي الحرفة الجديدة، خصوصا أن أبي لم يكن يباشرني إلا قليلا، كان أغلب الوقت في طريقه إلى المدينة أو عائدا منها، مردود البيع على ضآلته، فتح شهية أمي على شيء لم يكن في واردنا مطلقا، حتى أن أبي قال مبديا إعجابه بالفكرة : صحيح الدراهم تفتح العقل وتطلق اللسان.

- هو أنا مجنونة يا رجل؟.

- لا ما قصدت ولكن فكرتك عظيمة.

- ولا عظيمة ولا شيء الموضوع وما فيه أني حابه أساعدكم بدل ما أنا قاعدة لا شغلة ولا عملة.

- صحيح.. كل كلامك صحيح، من بكرا سأباشر راح أحضر لك كل اللي تطلبيه من لوازم النساء.

وللنساء شئون عجيبة، فما أن أتمت أمي مشروعها، حتى بدأن في التوافد عليها فرادى وجماعات، الواحدة منهن تشكي وتبكي من سوء الحال والأحوال، لكنها تصبح أجلد من الصخر إذا أرادت شيئا، تتدبر أمورها على نحو يصعب فهمه أو تفسيره، حتى تصل إلى مبتغاها.

 كان أبي يحتد كثيرا من هذا الفعل، يأتيه الرجل راجيا متمنيا أن يمهله في السداد حتى يتدبر أمره، فيستجيب شفقة بحاله، لكنه يستشيط غضبا، حين يكتشف بأن زوجته تقتني من أمي ما تشاء وتنقدها ثمنه، فيقسم حينها بإخبار الزوج، حتى يعلم أين تذهب نقوده، فترجوه أمي، تختلق لها الأعذار والتبريرات : حرام عليك يا رجل.. يمكن باعت فراخها، أو باقي عيديه وفرتها، خلي الناس تفرح وخلينا نرتزق.

يستجيب أبي وتهدأ غضبته، لكن الأمر يتكرر، فترجوه أمي من جديد، إلى أن أعياه الحال، فترك الأمر لي ولأمي، كان يكتفي بجلب البضائع لنا والجلوس أخر النهار أمام الدكان، حتى تحول المكان إلى ما يشبه الديوان، استقطب وجود أبي والشيخ إبراهيم كل عجائز الحي وشيوخهم، حتى أولئك الذين أمضوا جل حياتهم يستظلون في حائط المسجد، نقلوا سيجتهم وراحوا يتبارون بقربنا، لدرجة أن أمي اشتكت إلى أبي من هذا الجمع وما يسببه من حرج للنساء اللاتي يقصدنها، فارتعد أبي وأزبد وصاح في وجهها : ما شاء الله يا حليمة.. بدك أطرد الناس اللي تحترمني وتقدرني، عشان خاطر الناقصات اللي ما في رجال تلمهن. 

- يوه يا عيب الشوم يا رجل.. إذا هن ناقصات، فأنا بالتأكيد أنقص.

- كلكن زفت.. كلكن ناقصات عقل ودين.

-لا.. أنت أكيد شايف لك شوفه.. هذا الحكي مش لله.

- وحدي الله واتركيني في حالي، اللي بدها تشتري أهلا وسهلا واللي ما بدها مع ستين سلامة.

- لكن هذا باب رزق يا رجل ومش شق.

- هذا الباب مفتوح طوال اليوم، وما نقعد إلا قبل الغروب، ولا النهار كله مش كافي.

- فيك شيء وما بدك تحكي، من يوم ما فتحنا الدكان وأنت عصبي ع الأخر.

- و كيف بدي أكون وكل مالي فيها وداير أشحته من الناس بالشلن والتعريفة.

- أصبر يا رجل كل شيء في بدايته صعب، وبعدين صبرك على الناس صدقة.

- وابنك اللي وقف حاله، لمتى يصبر؟، خلص العزاء وما قلبنا ساكنة.

- توكل على الله ومد.. ما تنقل هم. قالت أمي وأتبعتها بابتسامة تراخت على إثرها ملامح أبي الجامدة.

- من وين يا حليمة؟، اللي معي ما يكفي الغداء.

- أهل المبروكة راح يقفوا معنا.

كان حدس أمي في محله، فما أن شاع الخبر بين الناس، حتى أوفوا بما عليهم، لا تدري كيف تدبروا أمورهم، البعض جاء بكل دينه والبعض جاء بجزء منه متبوعا بالعذر الشديد، لكن أطرفهم صنعا كان أبو يوسف الحلاق، لم يجد ما يسد به ديونه، فتعهد بأن يحلق لأبي وذريته عام بأكمله.

انتظرنا إلى أن يصبح القمر بدرا، لكن أبي لم يقو على الانتظار وقبل أن يكمل تمامه بأيام افتتح العرس، أسبوع بأكمله والسامر منعقد، في اليوم الأول ابتدأه بالجالسين أمام الدكان، وفي اليوم الثاني انضم بعض الأقارب والجيران وفي الثالث لم تعد حاجة لدعوة المزيد من أهل المبروكة، صاروا يجيئون بدافع منهم، لكن الأيام الثلاثة الأخيرة كانت ذات طعم خاص، وصل خلالها ضيوف أبي من القرى المجاورة، وكل جماعة راحت تقدم ما لديها من فنون إكراما للعرس وأهله، غير أن اليوم الأخير كان الأكثر تميزا من بين تلك الأيام، إذ وصل فيه ضيوف أبي من آل عبدون، جاءوا بعبيدهم وقودهم التي امتلأ بها حوش الدار، عشرون رأسا من الخراف أو يزيد وعدد من أكياس القمح والبرغل المجروش، إضافة إلى بعض جرار السمن واللبن، حتى أن أبي قال مبديا ابتهاجه بما يرى : رزقك في رجليك يا ولد.

وعند المساء أبدع العبيد في رقصهم، لم تعيهم مشقة الطريق أو عناء السفر، كانوا يرقصون على وقع يرغول جلبوه خصيصا معهم، ويبدعون أهازيج خاصة بهم، استصعبنا فهم الكثير منها، لكنا رحنا نردد خلفهم بحماس شديد، حتى أعياهم التعب، فاستبدل مكانهم بعض الشيوخ والشبان من نفس العشيرة، اصطفوا جميعا في صعيد واحد وشبكوا الأذرع بالأذرع، ثم راحوا يرددون في صوت واحد : حي حو.. حي حو.، يتقدمون بخطى محسوبة ويعودون بنفس الخطى، ثم انفصل واحد عنهم.. كان الحادي الذي يقودهم.. تقدم الصف ووقف في المنتصف، راح يغير عليهم مصفقا بيديه مرددا نفس الكلمات وأخرى بدت أصعب كثيرا من تلك التي كان يترنم بها العبيد، ثم يرقد القرفصاء أمامهم وهو يواصل نفس الحركات، يهب واقفا من جديد.. يتراجع ثانية إلى الوراء بنفس الخطى وهم من خلفه، يستمر المشهد فيستبد الحماس بعدد من مسنينا، ينضم الشيخ إبراهيم إلى الصف يتبعه أبي وزوج فهيمة والحلاق، حتى المبروك شده الهوى، فراح يلوح بعصاه ويدور حول الراقصين،الذين راحوا يتمايلون على وقع كلمات جديدة : رايحين نقول انريدا.. رايحين نقول انريدا.

كدنا التعب، فافترشنا الأرض، لم يتسع الديوان لنا، بالكاد وسع الضيوف الذين جاءوا من أماكن بعيدة، أصر المختار أن يستضيف بعدهم لكن جدي أبى، فرش علية البيت فأفسحت مكانا أخر لمن ضاق بهم المكان، وقبل الفجر بقليل دبت الحياة في المكان من جديد، دارت الأباريق على الحاضرين توطئة لصلاة الفجر، ثم راحوا يقصدون المسجد فرادى وجماعات، بحثت عن أبي، فوجدته منهمكا في نحر الخراف، كان يمسك بالواحد منها، يعمل في عنقه السكين ولا يلتفت إليه، إلى أن صاح به أحد العبيد الذين هبوا لمعاونته : كفي يا أبو حسين.

- كم واحد صاروا؟. سأله أبي مستفسرا.

- خمسطعش. أجاب العبد قائلا.

- كمان خمسة. قال أبي ويده تطبق على كبش أخر.

أكمل أبي ما أراد فعله، ثم ألقى بسكينه والتفت إلي قائلا : أبدأ بالكبد وتوابعها، أرسلها لأمك حتى تجهزها بسرعة، لازم الناس تفطر حال ما نرجع من الصلاة.، ثم تركني ومضي خلفهم، من دون أن يلاحظ حجم الإعياء الذي يلفني، كنت بالكاد أحرك نفسي وكأن ثقل الدنيا بأسره قد حط علي، أحس من كانوا حولي بما أشعر وسمع بعضهم كلام أبي، فأشار إلي أحدهم بأن أجلس جانبا وأدع المهمة لهم، فانصعت من فوري، رحت أراقب فعلهم من بعيد، لحظات وكانت الأشياء التي أرادها أبي جاهزة أمامي، حملتها إلى أمي التي منعتني من دخول الدار : هات وخليك برا.. الدار كلها حريم.

- أبوي مستعجل عليها. قلت بعد أن أوصدت الباب في وجهي.

- أبوك مستعجل دوم.. قبل ما يتموا الصلاة تكون جاهزة.

كان ما أراد أبي ووعدت أمي، ثم انشغل الحضور باجترار الأحاديث والذكريات، أمر الطعام ترك للعبيد وبعض الحاضرين، بينما بوادر هزال راحت تنخر بي في كل جانب، بالكاد كنت أنقل الخطى، رحت أتحين الفرص للجلوس في أي مكان أصادفه، لم تنعشني مظاهر الفرح من حولي، بل شعرت أنها أصبحت عبئا علي، حتى أن أحد الحاضرين بقربي لمس ما أشعر به، فأعد لي كوب ليمون أنعشني قليلا، لكن مباشرتي للمدعوين أثناء تناول الغداء، أعادتني إلى المربع الأول، تملكتني رغبة جارفة إلى النوم، لم يحيدها عني سوى الحمام الذي أعد خصيصا قبل البدء في الزفة، كان وعدا قطعه الشيخ إبراهيم على نفسه منذ اليوم الأول للخطوبة، يومها تسابق الحضور للفوز بحمام العريس وزفته، لكن الشيخ إبراهيم أصر وأبى ألا يفوت الأمر، استهجن الناس يومها صنيعه، إذ لم يكن من المعهود لديهم، أن يغتسل العريس لدى أقاربه، لكن الشيخ إبراهيم ألزم الجميع بقبول رغبته، حين ادعى بأنه نذر ذلك منذ أمد بعيد.

تملكني شعور بالخجل حين أحاط بي الشبان من كل جانب، طالبوني بخلع ثيابي، فارتعدت خجلا.. راحوا يدورون حولي وهم يرددون بصوت واحد : عريسنا دخل الحمام.. دخل الحمام عريسنا، عريسنا عنتر عبس.. عنتر عبس عريسنا.، ثم راحوا يسكبون الماء على رأسي وثيابي من كل جانب والبعض راح ينزع عني ما طالت يده، فلم أجد بدا غير التسليم بما أرادوا، البعض علق على ما رأى والبعض مد يده مداعبا، علت الأهازيج والأغاني، اندلقت كؤوس الماء من كل جانب وكذلك الأيدي التي تعبث و أحيانا تصفع بلا خجل أو وجل، كنت أعرف أن ما حدث معي لابد حاصل، فهذا تقليد طال الكبار والصغار في المبروكة، لكنني تمنيت أن أكون في حالة أفضل من تلك التي كنت عليها.

خرجت من الحمام في أبهى حلة، كان القمباز الذي أحضره أبي من المدينة، يكاد ينطق علي، تحلق من حولي الشباب ومن خلفهم الرجال، ثم النساء وانطلقت بنا الزفة باتجاه دار العروس، كان عازف اليرغول نجم ذلك اليوم، لم تتوقف أصداغه لحظة واحد عن النفخ ولم تكل أصابعه من كثرة اللعب حتى وصلنا، انتظر الرجال خارجا ودخلت تمسك أمي بيدي، توقفت النسوة عن الرقص اكتفين بترديد الأغاني والأهازيج، صعدت إلى جوار العروس، فصدحت الزغاريد من كل جانب، رقصت أمي.. لحقت بها فهيمة.. خالتي شفيقة.. تشابكت الأيدي واشتعلت الساحة بالرقص، نزلت أم العروس وأختها، تبعنها خالاتها، حتى ضاق المكان بهن، عندها جاء الصوت من خارج الرواق، تراجعت النسوة.. دخل المختار ومن خلفه والد العروس وأخوتها، يتبعهم عدد من أعمامها وأخوالها، جاءوا جميعا لنقوط العروس، فاستقبلتهم النسوة بالدور المعهود في هذه اللحظة : عدي رجالك عديها يا نشميه.. رجالك صاروا قدامك ألف وميه.

صعدنا إلى الحنطور الذي زين بالزهور والورود خصيصا لهذه اللحظة، فشعرت حينها بالخدر يسري في عروقي، بل أكاد أجزم بأني غفوت لبعض الوقت، إذ لم أشعر بطول الطريق، أو ما جرى فيها، كانت الأصوات تصل إلى مسامعي، متداخلة.. مبهمة.. كما لو جاءت من جب سحيق. ولولا وجلات الحصان الكثيرة، جراء ما في المكان من ضجيج وزحام، لرحت في نوم عميق ولربما استدعى الأمر من يوقظني من غفوتي، فأصبح بعدها نكتة المبروكة التي يتندر بها الناس، نظرت إلى عروسي فوجدتها غارقة في خدرها، أمسكت بيدها، كانت باردة ترتعش، ترجلت من العربة وسط حلقة من أمي وأخواتها، ثم أخذت بيد عروسي وسرنا.. سرنا تزفنا النساء إلى حيث نصبت الجلوة، رقصت أمي كما لم ترقص من قبل، كذلك فعلت أم العروس وخالاتها، حتى أعياهن التعب جميعا فتفرقن، تفرقن ولم يبق منهن سوى أمي وأم العروس، عندها انزوت عمتي بداخل المطبخ لبعض الوقت، ثم عادت بوعاء فيه زوجا حمام، وضعته أمامنا وقالت : عشاكم يا حبا بي.. ما تخلوا منها شيء.، ثم التفت إلى أمي بنظرة فهمت مغزاها، فأخذت الباب خلفها وقبل أن تغيب عنا أطلت برأسها وقالت : إن احتجتم شئ نادوني.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1151 الجمعة 28/08/2009)

 

 

في نصوص اليوم