نصوص أدبية

صفحات من سيرة المبروكة (12)

مراسم أجريت وعقود كتبت، يا إلهي كم هي جميلة وكم أنا محظوظ بزواجي منها، رحت أتأملها بصمت، ثم مددت يدي لرفع الحجاب عن رأسها، ارتجفت واحمر خدها .. تراجعت قليلا ثم أعدت المحاولة، فاستسلمت لرغبتي، من دون أن ترفع رأسها، أو تنظر نحوي، حتى حين أدرت وجهها إلي، ظل نظرها منصبا إلى الأرض، هممت بتقبيلها فارتعدت شفتاها، خلت أنها ستذوي بين يدي، تراجعت مرة أخرى، مددت يدي إلى الطعام، انتزعت قطعة من الزغلول وناولتها، مدت يدها، فرفعتها إلى فمها .. ابتسمت قليلا واحمر وجهها، ثم قاربت فمها من يدي، فلامست أصابعي شفتيها، اضطرمت لحظتها جوانحي وتصببت عرقا، حينها وصل إلى سمعي صوت أبي : كيف الأحوال يا حليمة ؟ .

- من ساعة ما دخلوا لا حس ولا خبر . ردت أمي قائلة .

- انهي يا ولد الناس قاعدة على نار .

حاولت أن أنهي على عجل، لكن موانع كثيرة وقفت في وجهي، كان أولها حياء عروسي وإجفالها، وأخرها إلحاح أبي المتواصل ورغبته المحمومة في أن أنهي المهمة على عجل، كدني التعب ولم يعد بمقدوري فعل شيء، رغبة جارفة إلى النوم تملكتني، تمنيت لو يتركوني وشأني، أو يدعوني لأغفو ولو لبعض الوقت، حتى عروسي فقدت الإحساس بها، أصبح همي منصبا على أبي ورغبته التي لازلت أكابد من أجل تحقيقها، ترداده المتواصل على أمي وسؤالها، أصبح كابوسا يطاردني، يزيد من إعيائي المتفاقم أصلا .

صوت طرقات على الباب زاد من توتري، تبعه صوت أبي الذي بدا غاضبا : انهي يا ابن الكلب .. فضحتني مع الناس .

لم أجد بدا غير الخروج، فتحت الباب فوجدته يرتعد من الغضب، كز على أسنانه وقال بحنق : سودت وجهي مع الناس .. الدنيا صارت نص الليل وأنت ولا على بالك .

- أنا تعبان .. تعبان جدا .

- أيش يا حبيبي .. تعالي اسمعي يا حليمة، ابنك تعبان

- طول بالك يا زلمة .

- هذا اللي طلع منك , أيش أقول للناس اللي قاعدة برا .. أقولهم أبني تعبان يا حليمة .. أصير مضحكة من تحت رأسك وراس أبنك بعد هالعمر .

- نادي المبروك، يمكن الولد معمول له عمل، أو صابته عين ما صلت على النبي .

- وحدي الله يا مه .

- لسه لك عين تحكي .، قال أبي محتدا وأتبعها بصفعة دوت على خدي، فطار الشرر من عيني، لم يمهلني حتى أستفيق من هول الصدمة، فأتبعها بأخرى وقال مهددا : بدك تدخل يعني بدك تدخل، فاهم أو أفهمك ؟.

لم يعد بي حاجة لمزيد من الفهم، بل لم تعد له ضرورة من أصله، كل الغل الذي تفجر في صدري نتيجة تلك الصفعات أفرغته بها، انقضضت عليها كوحش كاسر، لم تعد تهمني أحاسيسها بعد أن جرحت أحاسيسي أمامها، ولم يعد بي إحساس بالتعب أو الوهن الذي تملكني قبل حين، كل مكامن القوة بي تفجرت وكأنها البركان الهائج، أو أن الصفعات لها سحرها الذي لا يعرفه سوى من عاش تلك اللحظة وتشرب الفهم على الطريقة المثلى .

بالكاد وصل أبي إلى رفاقه، لحظة أن خرجت من الغرفة منهيا المهمة، نظرت إلي أمي بشغف المتعطش للسؤال، فأشرت إليها أن تدخل إلى الغرفة، سبقتها أم العروس إلى الداخل وما أن ألقت نظرة على بنتها حتى خرجت بوجه منشرح وأقبلت علي بالعناق، ثم تركتني وانطلقت في المهاهاة : إيوه يا دم الحمام دمها .. إيوه رفعت راس أبوها وعمها، إيوه اليوم زال همها وعقبال كل الأحباب .

على الإثر جاء أبي، بدا منشرحا باسم المحيا، أقبل علي وضمني إلى صدره وهو يقول مداعبا : أيوه هيك .. خليك سبع زي أبوك .، ثم أمسك بيدي وقادني معه إلى الديوان، فاستقبلنا الحاضرون وقوفا، حينها قال أبي وفي صوته شيء من الاعتداد : عقبال لأنجالكم جميعا .. سلم يا با على أعمامك .

بعد أيام فقط بدأت أتلمس الفرق بين عهد مضى وأخر أعيش تفاصيله بأدق تفاصيلها، يوم أن كنت أهجع إلى فراشي بلا أنيس يغزو وحدتي ويسري عن نفسي وبين اليوم وما حوى، نهاره عزائم وولائم وليله دعج وغنج يبعث شراره مع ساعات الغروب، ثم تستعر نارا تلهبنا حتى الساعات الأولى من الفجر، لدرجة أني ضبطت أمي وهي تهمس في أذن أبي قائلة : الولد راح يضيع يا أبو حسين .. فهمه بطريقتك حتى يخف شوية عن البنت .

لكن ما أرادته أمي جاء من باب أخر غير الذي قصدته، إذ لم يمض شهر على زواجنا، حتى داهم القيء والدوار زوجتي، زغردت أمي حينها وراحت تزف الأمر لأبي، استهجنت فعلها الذي لم أجد ما يبرره وقد تملكني خوف شديد على المرأة التي تذوي بين يدي، لكن حديث أمي عن حمل أطلت ملامحه الأولى، جعلني أكثر منها فرحة وأنساني ما كان يراودني من خوف قبل لحظات، لكن الذي أشعرني بالحرج، هو ما بدر عن عمتي لحظة علمها بالخبر، إذ أقبلت علينا فرحة تزغرد من باب الدار، عانقت أمي وزوجتي، ثم أخذتني بين ذراعيها، حينها همست في أذني قائلة : خف عن البنت شوية لحين ما يعقد الحمل .، ارتعدت حينها واحمر وجهي خجلا، شعرت أن كل من في الدار قد سمعوا قولها، لكن الأخطر تبين بعد حين، إذ لم تعد مهامي الليلية تسير على النحو الذي أريد، حسبت في البداية أن الأمر مرتبط بالأعراض المرافقة للحمل ولكني اكتشفت بعد حين، أن الوصية ذاتها ألقيت على مسامعها أيضا .

المفاجئ في الأمر، أن اليوم التالي حمل نفس الأعراض ولكن هذه المرة على أمي، صحونا جميعا على صوتها وهي تفرغ ما حوت أحشاؤها، فزعنا للشحوب الذي ألم بها والوهن البادي على وجهها، حتى أن أبي سألها مستهجنا : كم مرة حصل هذا يا حليمة ؟ .

 أشارت أمي بأصبعها على أنها المرة الأولى، ثم غسلت وجهها وجلست تستعيد أنفاسها المسلوبة،تنظر إلينا بعيون فيها الكثير من الحرج، حينها لمعت عينا أبي ونظر إليها نظرة تشي بالكثير مما يجول بخاطره وقال مبتسما: مش كثير تكوني عملتيها يا حليمة .

- يوه .. استحي يا رجل .، قالت وهي تنظر إلينا بأعين خجلة .

لكن حدس أبي كان في محله، إذ تكرر الأمر في اليوم التالي والذي يليه، حتى ثبتت الرؤيا ولم يعد من مجال لإخفائها أو التستر عليها، فرح أمي بالحمل الذي جاء بعد انقطاع طويل، نغصه عليها حديث المبروكة عن المرأة التي ألهبتها الغيرة من كنتها، فحملت .. حملت بعد انقطاع الرجاء، على عكس أبي الذي راح يتباهى أمام الجميع : عشان تعرفوا أنو الرجال مش واحد، ولا أيش رأيك يا أبو فايق ؟ .

نكس الرجل رأسه وسط عاصفة من الضحكات التي انطلقت من حوله، ثم انسل وغادر المكان تتبعه نظرات الجالسين أمام الدكان وتعليقاتهم، كان الرجل في منتصف العقد السادس من عمره، ماتت زوجته قبل خمس سنين وتركته وحيدا، يومها تحدث الناس عن عدالة السماء والقصاص الذي أوقعته على امرأة شريرة وزوج لا يرقى إلى مصاف الهمل من الرجال، استعادوا ماضيها منذ اليوم الأول لدخولها عليهم، كانت تصغر زوجها ببضع سنين وتفوقه بمسحة بياض سلطتها عليه، فأوهمته بأنها هبة السماء إليه، إن هو فاتها أو غفل عنها ضاعت من بين يديه، وأنه مولود في ليلة القدر، أو لعله صادفها في إحدى ليالي الشهر الفضيل،حتى صار كلامها حكما وطلباتها أوامر، فما عاد يرى في الكون من أحد سواها، استعدى الجميع من أجلها، بما فيهم أخواته اللواتي ساءهن حاله، طمعن بأخ يسد الفراغ الذي خلفه أبوهن، بعد ما وافته المنية وارتحل، فجاءت اللحظة التي تمنين فيها لو أن الله أبدله بأبيه، كان وحيد أمه من البنين وإلى جواره أختان، توفي والده وهو في العاشرة من عمره والبنات دون ذلك بقليل، فانزوت المرأة على أبنائها، رفضت التزوج من أحد، كابدت لكي تبقى على أبنائها، جافاها الأهل وقد رأوا في رفضها للزواج من أحد أسلافها خروجا على طاعتهم، لكنهم كانوا يباشرونها من بعيد، يتابعون إصرارها العنيد على مواجهة الحياة، وهي تراقب أملا رأته يكبر بقربها، حتى لحظة أن جاء من يخطب بنتها، أرادت أن توكل الأمر كله لأبنها، لكن الولد كان أضعف من أن يقوم بالمهمة، فاستدعى أعمامه على مضض منها، تكرر الأمر مع البنت الصغرى وحين خلت الدار من البنات، أرادت أن تبحث لها عن كنة تسد الفراغ الذي حصل، أرادتها جميلة تباهي بها وصغيرة تربيها بطريقتها، لكن السحر انقلب على الساحر، فالصغيرة اتخذت من صغرها ذريعة للتهرب من مسؤوليات البيت وألقت بها على عاتق عمتها، التي لم تشأ أن تبدي تبرما حتى لا يشمت الشامتون والجمال انقلب رسنا تسوس به زوجها إلى حيث يشاء هواها، إلى أن أرخت المرأة أحمالها واستقر بها المقام بعد الولد الأول والثاني، فجعلت من عمتها حاضنة لأولادها، تقبلت العجوز الأمر عن طيب خاطر، بل وصل بها الحال إلى أن تصارحها ذات مرة بالقول : أنت خلفي واتركي لي الباقي، بس هاتي أولاد يملوا علي الدار وأنا أربيهم .

لكن الملعونة أرادت أن تستغل ضعفها في هذا الجانب إلى أبعد حد، فجعلت منها خادمة تطبخ وتكنس وتعد الفراش للصغار، وتكتفي هي بالتهيؤ للحراث الذي يعود مكدودا من العمل لدى ملاك الأراضي في القرية وأحيانا في القرى المجاورة، تنتظر حتى بربط بغله في حوش الدار، ثم تقوم لملاقاته بتثاقل واضح، تتأوه قليلا فيرتجف الحراث مبديا تخوفه، يسألها بلهفة الأم على ولدها، فتلعن الدار وأهلها وتندب النصيب الذي أوقعها في هذا الجحيم الذي لا ينتهي والشقاء الذي لا أخر له، يبتلع الطعم بيسر شديد، فتبدأ دورة الملاطفة والمراضاة، تزداد وطأتها بعد أن يلتهم ما وضع أمامه من طعام، تنسل العجوز إلى غرفتها وتطبق الباب خلفها، فتتحول المراضاة إلى ملاطفة ثم مداعبة ثم ضحكا وغنجا، فآهات تمتد لتلامس أذني العجوز المطروحة إلى جوار أحفادها في الغرفة الأخرى، تبتسم من فوق جراحها وتهمس بالدعاء لهما : ربنا يسعدكم ويكثر ذريتكم .

 غير أن السعادة التي أرادتها لهما، ظلت قاصرة عليهما، لم يصلها منها ولو الشيء القليل، بل راحت تمتد وتكبر على حساب سعادتها هي، لم تقف كثيرا عند هذا الأمر باعتباره صار مألوفا لها، لكنها بدأت تتحسس منه حين راح يطال بناتها، كانت العجوز في البداية لا تأبه لاستخفاف كنتها بالبنات وأزواجهن ولا تلقي بالا لقصورها في تقديم واجب الضيافة لهم، فقد اعتادت مثل هذا الأمر منها، حتى حين شكت البنات من سوء المعاملة، أرادت العجوز تهوين الأمر، لكن حين خفت الزيارات عنها، بدأت تعيد حساباتها وراحت تراقب فعل المرأة مع أهلها أو من لف في فلكهم من الأنساب والأحباب، رأت ما يغمرها من كرم وما يعصف بها من حسن ضيافة، حين يهلون بصغيرهم وكبيرهم، استفزها صنيع ابنها ذات مرة وقد ألهبه الحماس بمجيء عديله وزوجته، فهب إلى برج الحمام وأفرغ ما به من زغاليل، همست في أذنه العجوز حينها : كان ذبحت ديكين وخليت الزغاليل إلك .. أنت طول النهار تعبان شقيان .

سمعتها الكنة فلم تقلب ساكنا، بل راحت تعمل بكد واجتهاد حتى أنجز الطعام، فتناوب عليه الحاضرون والعجوز في غرفتها لا يصل إليها سوى تجشؤهم وضحكاتهم ، لكنها ضحكات لم تدم طويلا، فما أن غادر الجميع حتى، بدأ يصل إلى مسامعها، زعيق كنتها في الغرفة المجاورة : هي أيش يخصها أمك .. مش كفاية طول النهار وأنا خدامة لها ولأودك لما كبرت على غير أوان .

- خلص يا حرمة .. الدنيا ليل وبلاش فضايح .

- فضايح .. قل لأمك اللي بدها تفضحني قدام أختي وزوجها .. روح اسألها عن الحمام والبيض إللي دايره توزعه على بناتها وكأنه أنت مش أبنها .

- يا حرمة جاهة الله عليك تسكتي .. أنا بأحكي معها الصبح .

- مش بكفي حاملين همها .. كمان بدها تقطعني من أهلي، خليها تروح على بناتها، وأشوف مين إللي تتحملها مثلي .

كادت العجوز أن تأتيها عند هذه النقطة، لكنها استعاذت بالله من الشيطان الرجيم وآثرت التريث، غير أن تريثها لم يدم طويلا، فما أن بزغ فجر ذلك النهار، حتى مضى الابن إلى عمله ممنيا النفس بأن الأمور انتهت عند اللحظة التي أقنع فيها زوجته بالسكوت، دون أن يخطر بباله أن السكوت من قبلها لم يكن سوى استراحة محارب، فما أن وثقت من خروجه ولم يعد يصل إلى مسامعها وقع حوافر بغله، حتى اندفعت إلى غرفة العجوز معربدة مزبدة : أنت يا خنزيرة الشيب بدك تسودي بختي مع أهلي .

- إخص عليك يا قليلة الحياء وعلى أهلك اللي ما ربوكي .، ردت العجوز بغيظ .

- أنا راح أعلمك من قليل الحياء .، ثم اندفعت المرأة كالوحش الكاسر وخمدت على عمتها، صرخت العجوز .. قاومت، لكنها كانت أضعف من أن ترفعها عنها، راحت تصرخ بأعلى صوتها، فهرع الجيران يستطلعون الأمر، هالهم ما رأوا، كانت العجوز مطروحة على الأرض والكنة فوقها، صاحت إحدى النسوة قبل أن تغير وترفعها عنها : يخرب بيتك يا بعيدة .. اتقي الله يا منكوبة .، ثم أقبلت على العجوز وأخذتها إلى دارها .

عند المساء عاد الزوج من عمله، انتظرت الحارة صنيعه الذي ينتظر منه، لكن شيئا من ذلك لم يكن، بل على العكس تماما، إذ تفاجأ الرجل الذي احتضن بيته العجوز بابنها يلومه على وقاحة زوجته وتأليبها لأمه عليه، فما كان من الرجل إلا أن طرده من بيته شر طردة وأرسل في طلب زوج بنتها الأكبر، جاء الرجل وزوجته، صدموا بما رأوا و سمعوا، فاصطحب الرجل عمته وشكر للمضيف صنيعه .

ظلت العجوز في بيت بنتها إلى أن وافتها المنية هناك، لم تذهب الكنة لمواساة عماتها والزوج راح على استحياء وكأن المتوفاة لا تمت له بصلة، حتى بغضه الناس ولعنته المبروكة بأسرها، بل وصل الأمر في المختار السابق، أن شاور الشيخ إبراهيم في طرده من البلدة، لكن الشيخ قال يومها : خلي غسيلنا عندنا يا مختار، بلاش ننشره برا .

من يومها والرجل محل ازدراء من الجميع، حتى حين كبر أبناؤه وراح يبحث عن نسيب يصاهره، لم يجد غير الصدود من قبل الجميع، فاضطر لأن يختار من خارج المبروكة، كان عرسه أقرب إلى المأتم منه إلى الفرح، قلة قليلة من أهل زوجته وأخواتها من لبوا دعوته والبقية أعرضت عنها إعراض السباع عن الجيف، ومع ذلك ظل منساقا خلف زوجته من دون مراجعة، أو إعادة حسابات، إلى أن جاءت اللحظة التي بدت فيها المرأة أعجز من أن تغير طباعها، فأحالت الحياة في البيت إلى جحيم، إذ لا تغرب الشمس على الحارة قبل أن يفزع الناس على صراخ واحدة من كنائنها وهي تشوى بكرباج البغل وأحيانا الاثنتان معا، حتى فاض الكيل بالمرأتين وفرتا من الدار بلا رجعة، لكن لم يمض سوى أسبوع على هذه الواقعة، حتى عاد الأب وأبناؤه محمولين على عربة أحد المزارعين في البلدة، كانت الدماء تسيل من كل جانب والكدمات تغطي الوجوه المتورمة، بينما الكلام كان بالإشارة فقط، ليتبين بعد حين أن أهل المرأتين هم من كانوا وراء الواقعة، يومها عز على المبروكة أن يهان أحد أبنائها بهذه الطريقة، لكن سخطهم على الرجل وزوجته، حد من أي تدخل يعيد للمبروكة هيبتها قبل أن يعيدها للرجل، إلا أنهم لم يعدموا الوسيلة في إيجاد ما يحفظ ماء وجههم أمام الناس جميعا، أصروا يومها على أن يكون طلاق المرأتين مرهونا بفوات ما لهما من حقوق ومتطلبات .

حينها اضطرت المرأة للبحث من جديد، فكان سعيها مدحورا، كل من أتته صدها شر صد، حتى في القرى المجاورة لم تجد من يلتفت إليها، ووجدت صيتا قد سبقها إلى هناك، إلى أن أعياها البحث، فاستسلمت لرغبة الكبرى من أخوتها، كانت قد فاتحتها قبل حين برغبتها في أن تبدل معها، لكنها رفضت في وقتها لخوف في نفسها، خشيت أن تقع فريسة للبنات وأمهن، لكن نظرات الشماتة التي تشع من أعين الجميع حولها، دفعتها للارتماء في أحضانها مكرهة .

 يومها انتظر الناس وقوع الزيطة، لكن وقوعها تأخر كثيرا، وحين جاء، جاء باهتا لم يشبع فضول المترقبين، صخب انطلق من الدار بعيد الغروب بقليل، امتزج فيه زعيق العمة بزعيق الكنتين، تبعه خروجهما من الدار، غابتا وسط جنح الليل وعاصف من الغضب يؤزهما أزا، وقبل أن ينفض مجلس الشامتين، جاءت البديلتان على نفس الشاكلة .

أسبوع والناس يترقبون صنيع المرأة مع أختها، بل وصل الأمر في بعضهم للمراهنة على ذلك، فكان الفوز من نصيب الذين راهنوا على خنوعها ومن خسر منهم أسعده الأمر، بل أن بعضهم كان أكثر ابتهاجا من الذين فازوا .

انطفأت نار المرأة بعدها، لم يعد يسمع لها حس في الحارة، بل لم يعد أحد يشاهدها إلا في النذر اليسير من الأوقات، حتى دب الصراخ في دارها ذات مساء، فوقف الناس يستطلعون الأمر، لم يقترب أي منهم الدار، ظنوها قد عادت لطبعها و نسيت ما سبق و حل بها، لكن استمرار الصراخ وقوته، حفز البعض للاقتراب والسؤال عما يحدث، فكانت المفاجأة التي لم تخطر ببال أحد، اندفع الناس حينها إلى داخل الدار، فشاهدوا المرأة ملقاة على الأرض والبغل يدوس في بطنها، كان في حالة هياج شديد، كل من حاول الاقتراب منه طال شيئا، الزوج والأبناء كل راح يتأوه من ألم يعصره في نقطة من جسده، فزع الناس بالعصي .. تناوبوا على البغل حتى طرحوه أرضا، فكانت المشكلة أكبر، إذ لم يرق للبغل غير جسد المرأة مكانا لينهار فوقه، حاولوا جاهدين أبعاده لكنهم فشلوا في ذلك، كان عناده باقيا رغم انحسار أنفاسه، كل من حاول الاقتراب منه هاش عليه برأسه، فلم يجدوا من بد سوى أن يجهزوا عليه بأسرع وقت، طمعا في إنقاذ المرأة التي جحظت عيناها وازرق لونها، فتتابعت الضربات على رأس البغل حتى لفظ أنفاسه فوقها، أحاطوا به من كل جانب وأزاحوه عنها، فلم يجدوا بها من مظاهر الحياة سوى أنفاس ضعيفة، تشاورا في الجهة التي ينقلونها إليها، فكان الكمب وجهتهم .

 لم يقنع الإنجليز برواية الناس الذين نقلوها إليهم، فبعثوا من طرفهم من يحقق في الأمر، جاء إلى المكان عدد من رجال الشرطة، سألوا كل من حضر الواقعة، شاهدوا البغل وما حل به، دققوا كثيرا في رسم المرأة المنطبع على أرض الزريبة، سجلوا الواقعة ومضوا .

في اليوم التالي مضت المرأة محمولة إلى المستشفى، مكثت شهرا بداخلها وحين بدأت تدرك ما أصابها، لم تصمد أمام فداحته .. صرخت حتى أعياها الصراخ، ثم انقلبت سحنتها واعوج فمها، حاولت الصراخ .. الكلام .. الإشارة بيدها فلم تستطع، ولم يستطع الأطباء فعل شيء لها، فكان البيت محطتها التالية، عامان وهي حبيسة ركنها لا حراك فيها، سوى العينين والأنفاس، حتى بات من في البيت جميعا يتمنون رحيلها، لكن الرحيل له وقته المحدد، لا يخضع لرغبة أو رجاء، وحين جاء كانت له هيبته التي يعرفها الناس جميعا، وسطوته التي يستسلمون أمام جبروتها .

بعد الأربعين بقليل أفصح الرجل عن رغبته، قالها بشيء من الاستحياء : الحي أبقى من الميت يا أولاد .، فصدم الجميع .. ظنوه لن ينطق بها أبدا، لكنه أعادها وبإصرار أكبر في المرة التالية، فاضطروا حينها لأن يعدوه خيرا، لكن خيرهم لم تظهر له في الأفق ملامح، فاضطر لتوسيط أخوالهم في القضية، حينها أفصح الأبناء عن سرائرهم : أي زواج يا خالي وأي زفت .. هو قادر يعطس لما بدو يتزوج .

- يا خالي أبوك صغير .. ويمكن ما نط الخمسين، واحنا الواحد منا شهوته فيه طالما إصبعه الكبير بتحرك .

- يا خالي حرام عليك .. هو ظل فيه حيل بعد ما رفسه البغل وكان راح يروح فيها.

- يا خالي حرام عليكم تقفوا في وجه أبوكم وتقطعوا نصيبه .

دب الخلاف بين الأب وأولاده .. هدد بطردهم من الدار إن هم لم يستجيبوا لرغبته، وحين أبدوا استخفافا بما بدر عنه، اقتنص فرصة وجودهم خارج البيت و راح يرمي بأغراضهم على قارعة الطريق، ولولت نساؤهم بعد أن أعياهما الرجاء، فأتبعهما للأغراض، ثم أقفل الباب على نفسه وانزوى .

بعد أسبوع كانت نعيمة العمشة تزف إلى بيت الرجل، فتاة فاتها قطار العمر حتى يئست من طول الانتظار وحين لاحت لها أول فرصة لم تتردد في قبولها، لكن القبول بالشيء أسهل كثيرا من التعاطي معه، فما أن دخل الرجل على عروسه، حتى أبى أن يخرج، ظلت أمها في الانتظار حتى مطلع الفجر وحين أصرت على رؤية بنتها وجدتها بكامل هندامها .

- مالك يا بنت ؟ .، سألت الأم بأعين تشع دهشة واستغرابا .

- خذيني معك يا ما، حاكم أنا عارفة بختي أسود من يومه .

- أنا بدي أعرف بس، ما دام أنتم مش قد بنات الناس، تكشفوا حسبهن ليش ؟ . قالت الأم موجهة حديثها للرجل الذي لم يعتدل في فراشه .

- وحدي الله يا حاجة . قال الولد البكر مداريا سخطه .

- أنتم تعرفوا الله ؟، لو كنتم تعرفوه ما سببتم هالفضايح، يله قدامي يا بنت .

 ذاع الأمر في المبروكة وما عاد الرجل بقادر على مغادرة بيته، إحساسه بالفضيحة حجبه عن أعين الناس وعدم تسليمه بحقيقة ما وقع دفعه لأن يلقي باللائمة على أبنائه، فأشاع بأنهم وراء ما أصابه، بل عمد إلى طردهم من الدار لكي تصبح الإشاعة خبرا مؤكدا، خرج يومها من الدار حاملا لفافة ورق وراح يصرخ بملء فيه : يأهل المبروكة.. تعالوا شوفوا نكبتي .. أولادي يا ناس سوسة البلاء كله .. هم أساس نكبتي وفضيحتي .. شوفوا الحجاب اللى لقيته في فراشي .. ضيعوا مالي وفضحوني يا ناس .

راح يدور في الشوارع كالمعتوه، البعض صدق ما قال والبعض أشفق عليه، لكن هناك من كاد يقتلهم الحنق، لكنهم بقوا أعجز من أن يغيروا شيئا في فعل أبيهم، حتى صارت المبروكة سجنا في نظرهم فارتحلوا عنها تاركين أباهم لقدره .

من يومها والرجل حبيس بيته، لا يغادره إلا للضرورة الملحة، تأتيه في كل يوم واحدة من بناته، تغسل هدمته وتعد طعامه، ثم تعود إلى بيتها، لم يتشجع على الخروج، إلا حين أحس بنسيان الناس لقصته، وزاد من تشجعه ذلك الجمع المنعقد دوما أمام الدكان، من يومها وهو يتردد على المكان، ينصت إلى ما يدور أمامه من حديث ولا يشارك فيه، حتى جاءت اللحظة التي باغته فيها أبي فانسل على الإثر مغادرا .

- حرام عليك يا أبو حسين .. قتلته للرجل . قال المختار معقبا .

- الله لا يرفع عنه .. هو هذا راجل ولا نسيتم اللي عمله في أمه ؟ .

- ربنا أفصل فيه يا شيخ .

أدركت حينها السبب وراء انشغال أبي ليلة الدخلة وأدركت أيضا سبب سعادته الغامرة بحمل أمي، بل أكاد أجزم بأنه فرح لحملها أكثر من فرحه بالحفيد الآتي بعد حين، لكني لم أدرك بعد سر النساء وغريب طباعهن، سيرة الرجل وماضي زوجته، أشعلا بداخلي مخاوف لا حصر لها، وفجرا بداخلي فيضا من الأسئلة التي لم تراودني من قبل، فما المانع أن تنهج زوجتي نهجها وأصبح في يوم من الأيام شبيها بالرجل ؟، وهل كانت تلك المرأة بدعة بين النساء، أم أن الأمر كما يقول أبي : الفرس من الفارس ؟ .

رحت أراقب صنيع زوجتي عن كثب، لم أعد ألقي بالا للكثير مما تقول، حتى حين كانت تشتكي من كثرة العمل في الدار لانشغال أمي بدكانها، كنت أقسو عليها وكثيرا ما اتهمتها بالدلع والتبطر، حتى بدا الإعياء والهزال واضحا عليها، فتدخل حينها أبي، جاء إلى الدكان وعرج من فوره على أمي : اسمعي يا حليمة .. بنت الناس مش عبده عنا .. إلها أهل وأحسن منا كمان.

- خير يا رجل .. أنا قصرت معها في حاجة، طول نهاري في الدكان لا بثقل عليها ولا بتثقل علي؟.

- ما هو هذا مربط الفرس ..الدار حملها ثقيل يا حليمة و تركت البنت لحالها تحتاس فيها لما صارت زي الشريطة.

- يا رجل النسوان كلهن هيك في الوحام، ولا عشان أنا لا بشكي ولا بحكي بتحسب الكل زيي .

- البنت لا شكت ولا بكت يا حليمة، لكن أنا شايف حالها اللي لا يسر ولا يرضي .

- أطلع بس منها وإحنا بخير، بلاش تعلمها الدلع من اليوم .

- يا سلام !، ولما يشوفوها أهلها على هالحال، أيش يقولوا ؟.. مستعبدين بنتهم .. عيب يا حليمة .

- يوه يا زلمة اللي يسمعك يقول أنا مشتغلة فيها .

- مشتغلة ولا غيره .. لازم تساعدي البنت شويه في شغل الدار

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1157 الخميس 03/09/2009)

 

 

 

في نصوص اليوم