نصوص أدبية

في ضريح الصدر المقدَّس/ الهرمنيوطيقا تسجد مرَّتين

 لم يغادر بعدُ كينونة الحزن والبكاء، لكنَّ محمَّد الصدر لم يكن يذرف الدموع بيسرٍ كما أتخيَّل، ليس لأنَّ قلبه قُدَّ من حجرٍ قطعاً، ولكن لأنه لم يكن ينظر إلى الحزن من زاوية البكاء، ومع هذا كان محمَّد الصدر يبكي أحياناً، وأعرف هذا عندما يحمرُّ وجهه كثيراً استعداداً للقول: إنَّ الجمر هو سيِّد الموقف في صعيد الإله.

ربما كان يقصد بالجمر ما لا يفهمه الناس عادةً، فللعرفاء لغةٌ أخرى غير هذه التي بزغت من قواعد سيبويه، ولهم أيضاً قلوبٌ أخرى، بها يعرفون أنَّ طعم الجمر باردٌ جدّاً إلى درجة أنَّ النوم في التنّور أقصى ما يتمنّاه العاشق، فإذا مات والحال هذه لم يقترب من جثَّتِهِ عزرائيل، بل يتحوَّل رأسا إلى شيءٍ شبيهٍ جدّاً بقرآن الله، فلا يكون ملائكة الربِّ جميعاً آنئذٍ إلا أقناناً في حضرة هذا الميت الذي شاكلت عيناه أمَّ الكتاب.

2-محمَّد الصدر رجلٌ حادُّ البصيرة جداً، كما إنه كارزميٌّ للغاية، وبالرغم من أنه كثُّ اللحية عريض المنكبين كجدِّه الأبطح البطين تماماً، فإنه يحسن فنَّ تحضير أرواح القديسين الفلاسفة، ليس من المؤمنين فقط، بل يحسن تحضير أرواح الفلاسفة الملاحدة معهم، فهو مثلاً يحضر روح الملا صدرا، ويستدعي إليه اسبينوزا في ذات الوقت، ثمَّ يستفزُّهما معاً من أجل الحوار، فإذ يغضب الملا صدرا على الفيلسوف الملحد، وإذ يشمِّر اسبينوزا عن ساعديه لينقضَّ على عنق الملا صدرا، ثأراً لكرامته المهدورة، لا يسع السيد محمَّد الصدر إلا أن يضحك، ويهدِّئ من غضبهما قليلاً بعد ذلك، ويفاجئهما بأنه كان منصتاً إلى همس الثعبان في جيبه، وأنَّ حوارهما الغاضب لم يكن يعني شيئاً في نظر الثعبان، الذي هو قديسٌ فيلسوفٌ بدوره، وإذ يسألانه عن السبب، يجيب بأنَّ الله قد أشعل في المكان بخوراً، وشاء للثعبان أن يكون سيد الحكمة في مجلسه هذا، لأنَّ لدغه فقط هو ما يصلح أن يبثَّ روح الله في الجسد الكلام.

 

3- لمحمَّد الصدر قيامةٌ أخرى غير قيامة الأموات، ما يعني أنه نورٌ في صلب النور، بيد أنَّ محمَّد الصدر هو الوحيد الذي يمنحه الله في القيامة حقَّ تكرار القتل في عشق الله، فلا الجنيد ولا أبو يزيد البسطاميُّ يحقُّ لهما هذا، لأنهما لم يقفا على المسامير طويلاً وهما يبتسمان، كما أنهما لم يمضغا الجمر وهما يهزآن، ولأنهما كانا يحبّان الصوم عن الكلام كثيراً، فيكون العشقُ في قلبيهما بلون البحر الجافّ، خلافاً للسيِّد محمد الصدر، الذي كان عشقه ناطقاً جدّاً، إلى حدِّ أنَّ البحر الجافَّ بمجرَّد أن تدور الفكرة في رأسه، لتتخذ هيأة المحيط، يعود إلى حالته الأولى، إذ كان الله ولم يكن معه شيءٌ إلا البحر، زاخراً حدَّ انتباه الناس للقيامة بالمياه.

 

4- الحقيقة أنَّ قامة محمَّد الصدر تصلح أن تكون بديلاً عن قامة الحزن في قلوب الأنبياء.

لا تتخيَّلوا لون الحزن أسودَ في قلوب الأنبياء رجاءً،لكي لا تشكلوا عليَّ بأنَّ الصدر مشرئبٌّ دائماً إلى البياض، فالحزن في قلوب الأنبياء أبيضُ جداً، وهذا بالضبط هو ما يمنح حزنهم ــ في نظر الأطفال خصوصاً ــ طعمَ الحليب.

سأقول لكم شيئاً آخر، فربما كان فيكم من لا تعجبه الهرطقة بحقِّ حزن الأنبياء، رغم أني لم أقصد وجودها في كلامي، وإلا لكان صومي الساعةَ باطلاً، ولكن مع هذا، لنقل شيئاً آخر، غير ما قيل على لساني آنفاً.

كان محمَّد الصدر ممتدّاً في فضاء الأزل بهيأة نخلةٍ بالضبط، وكان محمَّلاً بالتمر حدَّ الإنحناء، وكلَّما خلق الله نبياً قال له: تناول من تلك النخلة رطباً، وأعقب طعامك منه بلبنٍ مستخلصٍ من جذعها، فإذا أكلت وارتويت، فتوجَّه إلى قومك الحيارى، وكن من المنذرين.

 

[email protected]

 

 ............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1158 الجمعة 04/09/2009)

 

 

في نصوص اليوم