نصوص أدبية

ما بين علي وجلجامش

رغم أني لا أتفق معه بشأن النظرة إلى المجاز، ما يعني أنَّ النظرية القصدية كلَّها لا تبدو في نظري ــ غير القاصر طبعاً ــ أكثر من هرطقةٍ شاكس بها (النيليُّ) بعض الأخوة السُّذَّج من النحويين، والبلاغيين، والمفسِّرين من ذوي القامات الفارعة، ليقول للناس إنَّ الدرس اعتماداً على الذات لا يؤدِّي بالضرورة إلى أن يفقد المرء اتزانه في حضرة الشيطان. فإذا كان هذا هو قصد النيليّ، وهو ما يشكِّل جوهر النظرية القصدية عنده، فأنا معه، لكن بشرطٍ واحدٍ، وهو أن يقف خاضعاً منكسراً أمام السيد محمد الصدر وهو يصبُّ عصارةَ الخلود على رأس الإنسان.

 

تقديم

أكتب التقديم بالشعر العموديِّ الذي لا أعدُّه شعراً واقعياً على الإطلاق. مراعاةً لإحساس بعض (.. من يقول) بضرورةِ أن يكون الشعرُ موزوناً ومقفّى على هيأة التلاميذ في الإصطفاف المدرسيِّ الصباحيِّ أثناء التفتيش وهم مادّو أيديهم إلى الأمام في وضعٍ أشبه ما يكون بوضعِ الفاجعة.

 

يسأل الغرُّ عن علاقةِ جلجامش بالله والإمامِ عليِّ

تلك أسطورةٌ تحدَّث عنها شعب أوروكَ بالخيالِ الخفيِّ

وعليٌّ مجسَّدٌ واقعيٌّ     دفنوهُ فعلاً بأرضِ الغريِّ!

***

 

هو غرٌّ كأيِّ غرٍّ غبيٍّ  أوَ من حكمةٍ حوارُ الغبيِّ؟!

ليس يدري أنَّ القصائد تعطي سمةَ الوهم للفتى الواقعيِّ

وتراهُ بأعينٍ من سرابٍ    وتناجيهِ بالغموضِ الجليِّ

كان جلجامشٌ نبياً ولكن   حسبته الآثارُ غيرَ نبيِّ

فعليٌّ أخوهُ من غير شكٍّ    في عناقٍ هما طويلٍ بهيِّ

 

ملاحظةٌ هامَّةٌ:-الكتابةُ عن عليٍّ بغير الأساليب المعتادة تجعل المرءَ ملاصقاً لجبرئيل جداً، حتى كأنه نبيٌّ مؤجَّلٌ في الأقلّ، بمعنى أنَّ هبوط الوحي لو كان مستمرّاً إلى الآن، لكان من الممكن أن يكون الشاعر في مثل هذه الحال نبياً.

 

النصّ

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

لنقل عن العالم إنه كان لبوةً، أو أسداً، ولنقل عن قطام أنها كانت ماكرةً جدّاً مثل (أنانا) بالضبط، أما أنا فلم أكن حاقداً من أجل شيءٍ ما على جلجامش، إلا أني كنت أستشعر أنانا في روحي، وأصغي إلى أغانيها طويلاً، وكانت تمقت جلجامش حتى النخاع، ولم يكن جلجامش يأبه لهذا، بل كان ممعناً للغاية في أن يحثو التراب عليها، ولهذا أصبح اسم جلجامش فيما بعد منغمساً حتى القيامة بالتراب.

 

أوّاهُ يا قطام

 كم يبدو هذا النهدُ جميلاً، كم يبدو العالم كأنما هو نقطةٌ بيضاءُ ما بين نهديك لا غير،كم أبدو أنا وضيعاً جداً كالعبيد المناكيد في غرفة نومك، لكنك حتى وأنت غانيةٌ لا تأبهين حقيقةً بالعفاف، ترفضين أن أتوثَّب إليك فعلاً، وتهزأين من رغباتي كلِّها في أن أكون فداءَ عينيك، أما جلجامش الجالس على عرش التراب، فقد أعياك أمره كثيراً، ولم تستطيعي أن تدسِّي رأسك العاشق في صدره، ولو بوصفك طفلةً تائهةً عن أهلها وسط الزَّحام.

 

لمَ لم أكن بطلاً عملاقاً وطيِّباً جدّاً مثل أنكيدو يا قطام.

لمَ تمكَّن الصيادُ مني، قال لي إني أرى في هيأتك هذه قوَّة الصياد وبراعته، صدَّقتُ ذلك، ولم أكن أتوقَّع أنَّ الصياد يصيد نفسه في النهاية، لكنه قبل ذلك، يحتاط لنفسه بأن يقتل كلَّ من توجد فيه أمارات المهارة في الصيد، يفتك به غيلةً قبل أن يصبح صياداً بالفعل، ثمَّ يطبهج لحم الصياد المقتول في سفافيدَ متخذةٍ من حديد روحه، ثمَّ يأكله هكذا وهو متمدِّدٌ على الأرض، وعيناه شابحتان إلى السماء كالموت الزُّؤام.

أوّاه يا قطام

كنتُ وديعاً جداً قبل أن أراك، ولم أكن هكذا متوثِّباً للموت بالحياة، كانت الحياةُ قطةً أمسِّد ظهرها، وتموء قربي، تموء وعيناها مصوَّبتان نحو وجهي أثناء الطعام، وكنت مبتهجاً بطعم الأرض، تعلمين أنَّ الأرض أمي، جميلٌ أن يمضغ المرءُ أمه مثل ملح الخبز، جميلٌ أن يموت ويحيا على اسمها وهي في مريئه شربةُ ماءٍ.

أما الآن يا قطام

فها هي الأرض تفقد سحنة آدم.

فلماذا لا تقتربين مني قليلاً، قبل أن أدخل نفق الأموات في الحياة، وقبل أن يصبح الزاد سمّاً في المريء، وقبل أن يتبدَّل طعم الماء والهواء أيضاً، فلا يعود الطعم إلا ممعناً في القتل مثل السمِّ الناقع في شفرة الحسام.

 

الصلاة فجراً كالرضاعة من ثدي الأمّ، خاصَّةً في الركوع والسجود، فهما حالتان شبيهتنان تماماً بوضع الكائن في رحم الأمِّ قبل الولادة. دعني أقبِّل آثار قدميك أيها الربّ، دعني أضع على رأسي من ذلك التراب حتى يلتهب الجسد كلُّه، لا سيما الرأس، ثمَّ يتوهَّج كثيراً كثيراً، فلا شيء بعد ذلك إلا الكهرباء، وفي آخر المطاف يستقلُّ شخصُ النور.

 

لا أستغرب من أنَّ الكون هذا الفجر متَّخذٌ لقميصه لون الدم

ولا أستغرب من أنَّ الناس يبتسمون، لكنهم يبتسمون مثل الثكالى.

لا أسمع إيقاع الحرب، فالحرب بريئةٌ من فارسها هذه الليلة، وإنَّ علاقتي بالحرب منذ الطفولة حميميةٌ جداً، ومع ذلك فإنها في هذا الفجر بالذات لا تقابل مسامرتي إلا بالصمت، وتريد مني أن أحدِّق فيها لا غير، أن أحدِّق فيها حتى مشاهدة العظام.

صحيحٌ أنَّ الحرب أنثى، بيد أنها لا يجري عليها ما يجري على النساء من بنات حواء، فهي تعانق فرسانها بكامل العري ولا تخشى اتهامها بما يناقض العفاف، وهي أي الحرب، لا تعشق واحداً على وجه التحديد، إلا إذا كان عارفاً بمزايا غدرها، بحيث يستطيع أن يطبِّق عليها قواعد الهرمنيوطيقا الفلسفية إلى حدِّ الألفة مع مفاجآت التأويل، حتى إذا كان غدرها وفاءً مثلاً، وكانت خيانتها الزوجية في نظر العاشق منتهى العفاف، هجرت سائر فرسانها على حين غدرةٍ، لتعيش لذَّة عشقها الوحيد مع هذا الفارس، حتى إذا ما هرمت وطعنت في السنِّ كثيراً نفخت على فارسها نفخة الموت الهادئ قبل أن تموت.

الحرب إذ تموت يموت قبلها الفارس العاشق حتماً، وإذ يموت فارسها العاشق لا تكون الحرب مسؤولةً عن موته، حتى وإن نفخت هي فيه نفخة الموت، بداهة أنَّ النفخ يستبطن دائماً معنى الحياة، فتبارك الله خير النافخين.

القاسم المشترك بين الله والحرب هو النظر شزراً لكلِّ ما يجعل الحياة أقسى من الموت، فإذا حارب المرء وهو يحمل في قلبه مثقال ذرَّةٍ من خوفٍ، فتلك أمارة أنه لم يزل ينظر إلى عري الحياة ويتأوَّه على ما فاته منها، فليس من الحكمة والحال هذه أن يتَّخذ من شربة اللبن نبوءةً ويزدردَ الرماح.

 

جلجامش نبيٌّ ضيَّعه الآثاريون.

هكذا قال السيد عالم سبيط النيليّ

فإذا كان هذا حقاً، وهو حقٌّ باحتمالٍ راجحٍ طبعاً، فإنَّ عليَّ ابن أبي طالبٍ كان في الكوفة كما كان جلجامش في أوروك بالضبط،ولقد قذف الزمان اللاحق رِجْلَ الثور السماويِّ على عشتار وهي تنوح عليه مثلما فعل أنكيدو تماماً، لكنَّ الفتنة لم تكن من صنع جلجامش على أية حالٍ، فالمسؤول عن الفتنة أوَّلاً وأخيراً هو الثور السماويُّ الهائج، بحيث لم يترك منزلاً لأبناء آدم في الأحياء الآمنة إلا قصفه بالقنابل الفتّاكة وأسلحة الدمار الشامل.

لم يكن عليٌّ مسؤولاً عن الفتنة بالطبع، لكنَّ قطام حرَّضت أخيراً ثورها السماويَّ الهائج، ليفلق هامة عليٍّ وهو بثقل الوجود عدلاً أثناء الصلاة.

 

رحلةُ الكشف عن سرِّ العالم

 تبدأ بضربةِ سيفٍ على الرأس

 هذا بالنسبة لنا

نحن المخلوقين من طينٍ لازبٍ ولا غير

 فالطين اللازب لوحده

 لا يتعدّى كونه قاسماً مشتركاً

 بين الفخّارة والإنسان.

لكن ماذا عمن لم يكن الطين

إياه إلا في الظاهر

لا بدَّ أنَّ الرحلة عنده تبدأ من قبل هذا

أعني أنَّ ضربة السيف رحلةٌ كذلك

لكنها مسبوقةٌ برحلاتٍ أخرى

كلُّ واحدةٍ منها

لم تكن بأقلَّ مضاءً من السيف

إذ يفلق هامة المرء

ساعة يكون النوم على رأسه عسيراً

 

كي يعيش المرء لحظةً يتوجب عليه أن يموت كثيراً

وكي يموت قليلاً يتوجب عليه أن يكتشف الحياة دهوراً

وكي يكتشف الحياة دقيقةً واحدةً عليه أن يتملق جيلاً كاملاً من النسيان

وكي ينسى هنيهةً يعيش في جبِّ التذكُّر حتى يموت

***

 

أتعمَّد أن أحدِّث الطين بلغةٍ أخرى

غير لغة الماء

وغير لغة التراب

قد تظنون أني أحدِّثها بلغة الهواء إذن

أو بلغة النار

لكن لا هذي ولا تلك

فأنا أتحدَّث بلغة النور مع النور

لا النور المشتقِّ من حرارة النار

ولا النور المستخلص من كهرباء الماء

لكنه النور المشتقُّ من الطين رأساً، النور الذي لا يشبه الأنوار الأخرى، إلا بقدر ما يكون توقُّع بزوغ النور من أرجاء الطين محالاً، لكنَّ النور الطينيَّ تطأطئ له الملائكة، ويخشع له إبليس، أو قل إنه يشعر بالنكبة من كون الطين، وقد رآه بأمِّ عينيه دامساً، قد توهَّج أخيراً. توهَّج حتى فارق كينونة الطين، وصار على حافّات العرش يشعُّ ضياءً، حتى أنَّ الله ترك كلمات العزَّة، وصار يحدِّثه بلطفٍ:

 أيها النور اقترب مني

والتصق بي

التصق بي

 حتى نكون أنا وأنت  قمراً واحداً

 

عليٌّ كشف سرَّ الخلد

ولم تستطع الأفعى أن تخطف منه الزهور

لأنه ببساطةٍ قد أعاد صياغة الأفعى

فلم تعد أفعى بالكامل

بل صارت أفعى بعد أن نبت ذيلها في التراب

وسار في جسمها نسغ الأرض

النسغ البعيد منها

 ذلك الذي منه تشرب الوردةُ عادةً

ولم تمضِ أيّامٌ حتى جفَّ رأسها

وتفرَّع منه فيما بعد برعمُ الوردة

هي وردةٌ تتَّخذ ملامح أفعى

لكنَّها تجنح نحو نسغ التراب دائماً

وبهذا لم تعد الخصومة قائمةً

 بين باقة الزهور والأفعى

فهما معاً يشكِّلان دائرة الخلود

***

 

بالنسبةِ لعليٍّ لم تكن الحياةُ تعني شيئاً

اللهمَّ إلا إذا كانت الغايةُ منها

أن يتَّجه العالم صوب الشعر

أو صوب الحكمة

أو صوب الصمت الذي هو قمَّة البلاغة في الأقلّ

أمّا ما عدا ذلك

فالمجدُ كلُّ المجدِ لعفطة العنز

***

 

بالنسبة لجلجامش كانت الحياةُ تعني شيئاً

بمعنى أنه لم يقم في أهل أوروك خطيباً

ليقول لهم إنه مستعدٌّ لمصارفتهم صرف الدينار بالدرهم

هذا أوَّلاً

ثمَّ إنه لم يقل لهم إنَّ صدره مملوءٌ قيحاً

وإنه يرقب أن تُخضب لحيته من رأسه

وجهُ الفرق هذا مهمٌّ للغاية

لأنَّ الرغبة في مصارفتهم صرف الدينار بالدرهم

تعني أنَّ الوليَّ ليس بأيِّ شيءٍ عابئاً

ما عدا كونه قد بلغ النهاية من تطليق عهر الحياة

أما فيما لو امتلأ صدر الوليِّ قيحاً

وصار يرقب بشوقٍ أن تُخضب اللحيةُ من الرأس

فإنَّ هذا يعني بوضوحٍ

أنَّ الوليَّ لم يعد يمتلك جسماً إلا في الظاهر

وحتى هذا الظاهر لم يعد أمره مستقرّاً

لأنَّ جسم الوليِّ يذوب أمام عينيه

مثل ألية الخروف في سفّود النار

***

 

لكنَّ جلجامش كان سعيد الحظِّ جداً بأنكيدو

خلافاً لعليٍّ

فلم تغسل ((أورورو)) يديها مرَّتين في ماء الفرات

لتأخذ قبضةً من دهلة الطين

وترميها في البرِّيَّة مثلما فعلت في قضية خلق أنكيدو

ربما لهذا لم يقم جلجامش في أهل أوروك خطيباً

وربما لهذا أيضاً

لم يمتلئ صدره القويُّ قيحاً

وتبعاً لهذا لم يتمنَّ أن تُخضب لحيته من رأسه

لكن ألا يرى العاقل

كيف أنَّ علياً إذ امتلأ صدره قيحاً

وإذ تمنّى أن تُخضب اللحية من الرأس

استطاع أن يشتل في الأرض ذيلَ الأفعى

حتى جفَّ رأسها

ونبت مكانه ما يشبه الورد

ثمَّ إذ سفعته شمس عليٍّ جيِّداً

لم يتردَّد أن صار حتى محضِ المحضِ ورداً

 

باسم الماضي الحسناويّ

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1164 الخميس 10/09/2009)

 

 

في نصوص اليوم