نصوص أدبية

صفحات من سيرة المبروكة (13-2)

ربما كان ذلك بفعل نظراتها التي ما فتئت تلاحقني، حتى حين أمرها أبي بالإسراع في إعداد العشاء، أومأت له برأسها، ثم أخذتني جانبا وهمست في أذني قائله : زوجتك تعبانه يا ما.. أدخل شوف ما لها .

ولجت إلى غرفتي على عجل، فوجدتها ملقاة على ظهرها تجوح من الألم، كان أول ما تبادر إلي ذهني، أن شيئا أصاب حملها، لكن حين سألتها أشارت بيدها إلى عنقها مبدية توجعا، تركتها وخرجت من فوري لأبلغ أبي بالأمر، فرأيت أن أمي قد سبقتني إلى ذلك، حاول أن يستفسر منا عن السبب في هذا الألم المفاجئ، فلم تجد أمي أمامها غير تفسير واحد، وهو أن زوجتي لم تعتد على التعب وأن الجهد الذي بذلته في إخماد الحريق لم يكن خارقا قياسا بما فعلته النساء : أي والله كل اللي حملته ما يتعدى العشرين جره .. أنا عارفه أيش بنات اليوم هذول !.

- أنهي يا حرمة وبلاش كثر كلام . رد أبي قاطعا عليها التمادي في الحديث .

- بسيطة . قال الشيخ إبراهيم، ثم أطرق للحظة قال بعدها موجها الحديث إلى أمي : هاتي حفنة طحين بردته وثلاث بيضات ومعلقة زيت زيتون .

جلبت أمي ما طلبه الشيخ على عجل ووضعته أمامه، ثم راحت تنظر من بعيد، تأملنا أصابع الشيخ وهي تعجن الخليط بأناة وروية، حتى أصبح متماسكا كالعجينة، فتفل فيه عدة مرات وراح يعجنه من جديد وهو يتمتم بآيات من الذكر الحكيم، استغرقه الأمر بعض الوقت ونحن نتابع صنيعه بصمت وخشوع، إلى أن أنهى مهمته، فأحضرت أمي طاسة غسل فيها يديه ثم قال : خليها تخمر شوي وبعدين رقيها زي الرغيف ولفيها على رقبة البنت وربنا الشافي إن شاء الله .

تناولت أمي الأغراض من أمامه وبعد لحظات راحت تنفذ ما أشار به،عندها هم الشيخ بالمغادرة، فألح عليه أبي بالمكوث قليلا، لكن الشيخ تذرع بطول غيابه عن البيت، حينها تراجع أبي عن مطلبه وخرج لتوديعه إلى الباب ولكن ما أن هم كلاهما بالوقوف، حتى وصل إلى سمعنا دوي طلقات ليست بالبعيدة، نظر الرجلان كل منهما إلى الآخر، نظرات تنم عن حيرة واستغراب، حينها قال أبي مبددا الصمت الذي لفنا جميعا : يبدو أنها قريبة من الكمب .

هز الشيخ رأسه ولم يعلق بشيء، لكن حدة الطلقات التي زادت وبدت أكثر اقترابا، دفعت الشيخ إلى الإسراع بالمغادرة، تاركا وصيته التي شدد عليها كثيرا : ما حد فيكم يطلع من الدار لحين ما نعرف شو القصة .. سكروا بابكم وناموا، ما تفتحوا لحد، حاكم الليل ما إلو صاحب .

عمل أبي بالوصية من دون أن يلتزم بحرفية نصوصها، ظل يحوم في باحة الدار، رغم تحذيرات أمي المتتابعة من رصاص طائش، خصوصا بعد أن أصبح أغزر من ذي قبل وأكثر قربا، غير أن أبي الذي كان مسكونا بالغضب الذي لم أفهمه في حينه، ظل يحوم كصيد وقع داخل الشباك، يهمد قليلا .. يلف واحدة من كيس تبغه .. يمج بعض الأنفاس بغل واضح، ثم يعود لدورته من جديد، حتى طال بنا الأمر وبدا الإعياء واضحا علينا جميعا، فاضطجع في مكانه وراح يتابع دخان لفافته بصمت .

بعد لحظات هدأت حدة الرصاص، ثم تلاشت كلية، لكن صوت الخيالة حل مكانها، كان قريبا منا، فأثار الخوف في نفوسنا، كان القلق باديا على وجه أبي، وكذلك الأمر مع أمي، حادثة اعتقال أبي، عادت ذكراها من جديد وكلما دنا صوت الخيالة وعلا ضجيجهم، تضرعت أمي بالدعاء : يا رب تبعد شرهم عنا يا رب .

مع منتصف الليل دب العويل من مكان قريب، زلزل لحظة السكون التي تلت انحسار العاصفة، تكرر الأمر مرة أخرى، فاعتدل أبي في مكانه وأرهف السمع، ثم اتجه قاصدا الباب فاعترضته أمي، لكنه أزاحها بلطف وظل في طريقه، تبعته إلى هناك من دون أن تنطق بشيء، وقفا أمام الباب يستطلعان الأمر .. فلحقت بهما .. رحنا ننظر بحذر شديد إلى الشارع الرئيس، لعلنا نجد ما يفسر هذا العويل الذي تزداد وتيرته مع مرور الوقت، وفي لحظة ما تحرك أبي قائلا : الظاهر أن الإنجليز انصرفوا .. الناس قدامي تجري ع الحارة الشرقية .

- طول روحك يا زلمة . قالت أمي بما يشبه الرجاء .

- وحدي الله يا حرمة واتركيني .. الناس كلها هاجمة وأنت الخوف قاتلك .

لحقت بأبي غير عابئ برجاء أمي، وكذلك فعل أبي.. لم يلتفت خلفه أو يطالبني بالانصياع لأمرها، كل ما سمعته يهمس به حنقا : نسوان ناقصات عقل ودين .

لكن هذا الحنق بدأ يتحول إلى شيء من الخوف والقلق، خصوصا حين بدأ المسير يتجه بنا ناحية الحي الذي يقطنه ابن فهيمة، سأل أبي أحد الصبية المتواجدين في المكان، فرد الفتى قائلا : قتلوا علي .

شعرت بالأرض تميد بي .. رنت في أذني كلماته الأخيرة – خلي بالك من أمي – كدت أهوي في مكاني لولا أن أمسك بي أبي وقال بأسى بالغ : البقاء لله يا بني .. شد حيلك وخليك رجل، ثم جفف دموعه وسار ممسكا بذراعي إلى أن وصلنا الدار .

كان المشهد مفجعا .. حلقات اللطم معقودة في أكثر من مكان، بينما الرجال يتقاطرون على الأب العجوز معزين بالشهيد، لكن ما لفت انتباه الجميع هو ما قاله حسين الشادي : يا ناس والله الشاب ما مات .. والله بعيني هذه، اللي راح يوكلها بكره الدود، شفتهم من خرم الباب وهم جارينه ع السيارة .. صحيح كان ينزف والدم تاليه، لكن كان يحكي، أنا سامعه وهو بيحكي .

لم تطفئ كلمات الرجل لهيب النار المستعرة في النفوس من حولنا، ربما خففت من حدتها قليلا، لكنها لم تقو على إخمادها بالكامل، بينما ظل السؤال الذي لم يجد له إجابة في أذهان الكثيرين من حولي، هو السر الكامن وراء عملية القتل التي استهدفت ابن فهيمة دون غيره وما الذي كان يفعله في هذه الساعة المتأخرة من الليل وهل كان بمفرده أم هناك من كان برفقته؟ .

ظل السؤال يتوالد في أذهان الجميع مفجرا أسئلة أخرى ربما طفا بعضها على وجوه البعض وأحيانا في زفراتهم المكلومة وفي أحيانا أشد وضوحا كان يجري التعبير عنها بالبكاء، بينما أنا الوحيد من بينهم من كان يعرف بعض الحقيقة، بل أكاد أزعم بأني كنت أعرفها كاملة، فوصيته الأخيرة لي، لم تكن مجرد كلام أراد أن يلقيه على مسامعي وكفى، لكنه كان يعلم ما الذي ينتظره، أو ما هو مقدم عليه .

ساعات الفجر الأولى حملت تطورا أخر، إذ وصل إلى المكان عدد من رجال الشرطة وطلبوا المختار والأب العجوز، اختلوا بهما جانبا رغم تدافع البعض من حولهم، ثم أبلغوا العجوز بضرورة القدوم معهم للتعرف على جثة ابنه من بين الجثث الأخرى، حينها دب العويل من جديد وانهار الرجل، سكبوا الماء على وجهه، لكن تجاوبه كان ضعيفا، حملوه إلى الداخل، بينما التفت المختار إلى من كانوا حوله من الرجال وقال محاولا ضبط مشاعره : إنا لله وإنا إليه راجعون .. يله يا جماعة نحضر الجثة، إكرام الميت دفنه .

تبعناه جميعا، الأمر الذي جعله يتوقف ويشير بعودة الشبان بلا استثناء، نظرا لحساسية الوضع وخطورته، اعترض البعض واحتد البعض الأخر، لكن إصرار المختار المدعوم برأي غالبية الآباء المتواجدين في تلك اللحظة، ألزم الجميع بالنزول عند ه، رغم أن هناك من تقبل الأمر على مضض .

طال الانتظار بنا والشمس أصبحت في كبد السماء، حار الناس في سر هذا التأخير الذي لم يجدوا له مبررا، حاول البعض الذهاب إلى المخفر واستطلاع ما يجري هناك، لكن البعض الأخر اعترض مبديا تخوفه من تبعات ذلك، فظل الأمر بين شد وجذب، إلى أن بدأت تصل إلى مسامعنا تهليل الجمع الذي غادر منذ حين، تحلق الناس حولهم .. أقبلوا على الشهيد من كل جانب .. أمطروه بالقبل والدموع وأنا واقف في مكاني لا أجرؤ على الاقتراب .. أدخلوه إلى الدار لكي يودعه أهلها، فدب الصراخ مزعزعا الأبدان، عندها جاء صوت المبروك من أول الشارع صائحا: حرام عليكم يا ناس .. الشهيد ما ينبكى عليه ولا تنقد فوقه ثياب .

لم يعبأ بقوله أحد .. ظل المشهد في تأزم متصاعد إلى أن أشار المختار بالتحرك، فانطلق الموكب متبوعا بالمبروكة كلها، حتى النساء لحقت بنا، حاول البعض إرجاعهن فلم ينصعن لهم، طفنا به في الشوارع كلها قبل أن نتوجه إلى المقبرة، وعند المقبرة نثرت السماء بعضا من فيض قطراتها، هلل الناس وكبروا مستبشرين بحسن العاقبة، وارينا الجثمان الذي أقسم البعض على طيب ريحه ولين ملمسه، ثم عدنا أدراجنا يصاحبنا الأسى ولوعة تعتصر القلوب التي لازالت عاجزة عن استيعاب ما حدث .

في المساء تجمع الناس حول مواقد النار المشتعلة، نسائم الشتاء الأولى بدأت تسجل حضورها، وبعض العجزة والمسنين انسحبوا إلى داخل الدار اتقاء لسعها، بينما ظل الكثيرون من أمثالي ومن هم أكبر سنا متجمعين حول مواقد النار، استمع لما يدور من حديث وأحيانا أشارك فيه، إلى أن جاءت اللحظة التي استوقفني فيها حديث المختار إلى أبي : عارف يا أبو حسين .. عندي شك أنه الشهداء الثلاثة اللي عند الشرطة شفتهم قبل هيك.

- وأنا كمان، رد أبي باقتضاب يشي، بأنه راغب في إنهاء الموضوع .

- واحد منهم على ما أذكر، شفته عندك يوم ما خرجت من السجن .. كان جاي يومها مع جماعته يسلموا عليك .

- يخلق من الشبه أربعين يا مختار . قال أبي محاولا مداراة ارتباكه .

لكن ارتباك أبي الممزوج بمسحة غضب واضحة، ظل يلازمه طيلة فترة العزاء، حتى بعد أن تكشفت بعض الحقائق لنا جميعا، لكنها لم تغير من الأمر شيئا، صحيح أن مقتل حمدان وأحد أبناء الخواجا يعقوب في تلك الليلة، قد أشفى غليل الناس، لكنهم لم يفهموا ذلك التواطؤ المفضوح بين الخواجا والإنجليز.. لم يستوعبوا كيف باع الخواجا كل علاقة كانت تربطه بهم وارتمى في أحضان الإنجليز دفعة واحدة، لدرجة أن قال حماي ذات مرة معلقا على الأمر : يخرب بيته ما أتيسه .. ناس ناهبين سلاح من الكمب وشاردين فيه، شو دخله فيهم حتى يعترض طريقهم !.. يعني هيك أحسن لما قتلوا ابنه؟ .

- طول عمرهم على هذا الحال .. دوم يصفوا مع الواقف، لا يحترموا عهد ولا يحترموا دين . رد الشيخ إبراهيم معقبا.

أربعون يوما والمبروكة لم تبرح مكانها .. انعزلت عن العالم تماما ولم تدر بما يدور من حولها، الرجال لازموا العزاء طيلة تلك المدة ومن كان يذهب إلى بيته لقضاء حاجة ملحة، كان يصطحب معه من يرافقه وحين استثارني الأمر سألت أبي عن السر في ذلك، فأخبرني بأنه يدخل في باب درء الشبهات، فلو أن أحدا ظن بالرجل سوءا، كأن يخلو بزوجته في هذا الظرف مثلا، أو يغتسل ويبدل ثيابه، يجد حينها من يدافع عنه في حال حضوره أو غيابه، أما النساء فكان النهار أقصر من أن يتسع لهن، يتناوبن فيه على وجبات الطعام المتلاحقة وفي المساء يهدهن التعب فيخلدن إلى المضاجع بلا حراك .

 لكن الحراك دب فجأة في جمع النساء المحتشد في الجانب الأخر من الدار، كان ذلك قبل انتهاء العزاء بيوم واحد، علا الكلام بغتة، ثم تحول إلى تلاسن مقذع وألفاظا نابية، كاد في لحظة ما أن يصبح عراكا، لولا اندفاع بعض العقلاء لحسم الموقف، لكن الحسم على الجانب الأخر أوشك أن يفجر الأمر عندنا، إذ لم يرق لأبي حسين الراعي أن تهان زوجة أبنه على النحو الذي حصل، حاول أن يدافع عنها متذرعا بصغر سنها، لكن رد أحد أقارب الشهيد فجر الموقف : هذا كلام فاضي و ما يرضي حدا.. الصغير في وراءه كبير يفهمه ولا كمان عمتها ما بتعرف في الأصول .

- عمتها مش واقفه على رأسها طول الوقت يا سيدي .

- على هيك اللي بتعرف تحفف حالها وتتعقد ما هي صغيرة يا أبو حسين .

- ضب لسانك واحفظ أدبك .. فاهم . رد أبو حسين محتدا .

- أنت اللي ضب كنتك وبلاش تلف على المياتم محففه .

- أنت راجل قليل حياء . وهم بالوثوب عليه ,

تدخل الحاضرون للفصل بينهما، لكن تبادل الشتائم بين الرجلين، حدا ببعض الحاضرين لاصطحاب أبي حسين مع جمع من أقاربه ومغادرة المكان، تذكرت حينها ما قاله أبي وحمدت الله لأن أمي كانت تنوب عن زوجتي بالحضور، أو جلب الطعام، وإلا لكان موقفي مشابها لموقف الرجل وربما أعسر منه وذلك بحكم العلاقة التي تربطني بالشهيد، خصوصا أن زوجتي لازالت عروسا، يبهج وجهها وينضر إذا ما أصابه الماء، فكيف لو أنها نسيت بقايا كحل عالقة في رموشها، أو أن أحدا من ذوي الشهيد أحس بي وأنا أتسلل خلسة في بعض الليالي، لإشباع غريزتي العاجزة عن الصمود أمام هذا الحذر المفروض علينا جميعا وربما أحسوا بذلك وتجاهلوا الأمر، إذ لم ترق لي نظرات الرجل،الذي كاد أن يعلق مع أبي حسين، وذلك في واحدة من المرات التي عدت فيها متسحبا، لكي لا يلاحظني أحد من الحضور وبالذات من أقارب الشهيد، لكني أظنه فطن إلى حيلتي وفضل عدم تقليب الأمر، ربما كان ذلك إكراما لوجود أبي الذي لم تطأ قدماه الدار طيلة فترة العزاء وربما قدر كوني عريسا ولا أقدر على هذا البلاء، فالتمس لي عذرا وآثر الصمت .

غير أن الصمت لم يدم طويلا، فما أن انتهى العزاء وبدأت المبروكة تستعيد أنفاسها، حتى تفاجأ الناس بما لم يكن في الحسبان، فتحت الدكان يومها ورحت أتفقد ما حل به بعد هذا الغياب، فأذهلني حجم الخراب الذي ألحقته به الفئران، كانت الحبوب مرتعا خصيبا لها، لم تبق على كيس من الأكياس سالما، كلها كانت تنز كالجسد الذي مزقه الرصاص،، حاولت ترتيب المكان وإصلاح ما أفسده الفأر، فشد انتباهي زعيق أبي الذي أقبل مع جمع من الرجال وجلسوا بباب الدكان، كان الغضب باديا على الجميع، لكن أبي كان أكثرهم تأججا : أنا تروح أرضي على عيني !.، قال أبي وهو يزبد من الغضب، ثم تابع بنفس الحدة : ما عاش اللي يطول شبر منها وأنا حي .

تركت ما بيدي وخرجت لأستطلع الأمر، فاستوقفني وجود عدد من العاملين في الكمب بين الحاضرين، نظر إلي أحدهم وقال ضاحكا : تعال شوف أبوك ماله .. داير بدو يطخ ويذبح .

- علي الطلاق بالثلاثة منها حليمة، إن ما رجع الخواجا يعقوب عن أرضي ورفع سلكه عنها، لأكون ملحقه لأبنه عن قريب .

- وحدوا الله يا جماعة .. الأمور ما تحل هيك . قال الشيخ إبراهيم الذي جلبه الصوت من داخل داره .

- أنت عارف يا عمي وكلكم عارفين، أنه أنا مش من الرجال اللي يضيع حقها .

- يا رجل أنت همك بسيط .. كلها يومين ثلاثة وترجع الأمور لسابق عهدها ولا هي الأرض بدها تطير، لكن هذول الناس اللي انقطع رزقها من الكمب، وين تروح؟ . قال نفس الرجل محاولا تهوين الأمر على أبي .

- كلام فاضي .. كان رجعت الكوبنية لأهلها، ولا كان وارثها ابن الميتة عن الهالك والده . رد أبي محتدا .

- أسمعوا يا جماعة هو سوسة البلاء كله والحل لابد يكون معه، لازم يفهم إن المبروكة مش حيط واطية وفيها رجال تجيب حقها . علق أبو حسين جارنا في الأرض قائلا .

- هذا هو الكلام الصحيح . رد أبي بحماس أسكت الجميع .

حينها تركتهم ودخلت لمتابعة العمل الذي بدأت، فلم أفطن لبقية الحديث ولا لأبي الذي افتقدته بعد أن تفرق الجمع ولم أراه إلا مع ساعات المساء الأولى، كان منهكا بادي التعب، دخل إلى غرفته ولم يخرج منها إلا مع أذان الفجر، تناول إفطاره على عجل وخرج، بعد أن أوصاني بلزوم الدكان وعدم مغادرتها لأي سبب من الأسباب، شعرت حينها بأن لكلامه ما وراءه ولكن أي منا لم يجرؤ على مفاتحته بشيء .

بقينا ننظر أحدنا إلى الأخر بحيرة وصمت، تخللته دعاء أمي إلى الله بأن يمضي هذا النهار على خير، لكن الخير بدأت ملامحه بعيدة، فما أن بزغت شمس ذلك النهار، حتى خرجت إلى دكاني ترن في أذني كلمات أبي ودعاء أمي، لأجد ببابها عدد من الرجال المسلحين بالبنادق وبينهم أبي، كانت المرة الأولى التي أراه فيها متسلحا في وضح النهار، شعر بالذهول الذي أصابني، فأشار علي بدخول الدكان وعدم الالتفات إلى ما يجري من حولي، عملت بالشق الأول من الوصية ولكني عجزت عن تنفيذ البقية، كنت أحوم في مكاني طيلة الوقت، أطل بين لحظة وأخرى لأرى كل قادم جديد، تجمع أمامي خلق كثير بعضهم بالبنادق وبعضهم بالحراب وآخرين لم يجدوا غير العصي فجاءوا بها، غير أن ما أثار دهشتي وفضولي في آن واحد، هو ما رأيته من الشيخ إبراهيم، جاء الرجل متسلحا ببندقية، لم أدر من أين جلبها ولف رأسه على غرار ما يفعلونه في المشاجرات التي كانت تحدث في المبروكة، وقف وسط الجمع وقال : اليوم يومكم يا شباب .. لازم ما نمنع مرور القافلة بأي ثمن، حتى يعرف ابن الهالكة أن حقنا ما يضيع و ساعتها إما يعيش مثل ما كان في الأول وإما يموت من الجوع هو وجماعته، أو يرحل عنا ويفل، فاهمين يا أخوان .

- فاهمين يا شيخ . جاء الصوت من قبل الجميع .

- على بركة الله إذن .

قالها الشيخ ومضى يتبعه جمع غفير، بينما ظلت المبروكة تعيش حالة ترقب وانتظار لم تعش مثيلها من قبل، حتى ضاقت البيوت على أهلها، فأفرغت ما بها من نساء وأطفال وعجزة على قارعة الطريق، الكل ساهم حائر يترقب ما هو آت، لكن الانتظار لم يدم طويلا، خصوصا أن الطريق الذي تمر به القافلة لا يبعد كثيرا عن البلدة، بل يكاد يحاذيها من الجهة الشمالية الشرقية، إذ لم يمض الكثير من الوقت على تحرك الرجال، حتى بدأ يصل إلى مسامعنا صوت الرصاص، لم أقو ساعتها على البقاء في مكاني، ولم تمنعي وصية أبي، أقفلت الدكان على عجل وهرولت مسرعا، اعترضت طريقي أمي، فأشحت عنها وبقيت مندفعا في طريقي، كان الرصاص يزداد غزارة وقوة كلما اقتربت من المكان وحين أوشكت على الوصول دوى انفجار هز الأرجاء من حولي، علت على إثره سحب الدخان مصحوبة بالصريخ تارة وبالتكبير تارة أخرى، رحت أزحف على بطني محتميا من الرصاص الذي يتطاير من كل جانب، إلى أن وصلت إلى أقرب نقطة ممكنة، شعرت حينها بجسد يلامسني، كلمته لم يجبني .. سألته من يكون فلم يرد، تحسست جسده، فرجعت يدي تقطر دما، اقشعر بدني حينها وجفلت مرتدا إلى الوراء، رحت أنظر إليه لعلني أعرف من يكون، فحجبت هيئته عني غلالة الدخان التي تلفنا، انتظرت قليلا، ثم عاودت النظر من جديد، فانطلقت من فمي صرخة استعدت كل من كانوا حولي .. أقبلوا علي وراحوا يحدقون بذهول واعتزاز في الجثة المسجاة بقربي، ثم قال أحدهم : إلى جناة الخلد يا شيخ إبراهيم .

 

 

 

 

في نصوص اليوم