نصوص أدبية

صفحات من سيرة المبروكة (13)

 حتى اعتادت النساء على نهجها الجديد وتطبعن عليه ولكن الذي لم أعتده منها، هو ذلك الشك المنبعث من نظراتها.. من طريقة حديثها.. من تعاطيها معي أو مع زوجتي، حتى لاحت لي فرصة الاختلاء بها ذات مرة فسألتها : مالك يا أما؟ .

- ما لي شيء .

- معقول .. صار لك مدة وأنت مجافية عنا .

- روح اشكيني للوالد مثل ما شكيت له عشان خاطر المحروسة مرتك.

- حرام عليك يا ما .. والله العظيم لا شكيت ولا حكيت .

- يبقى هي .. هي اللي راحت تشكي وتبكي، مستغلة غيابي في الدكان .

- والله زوجتي ما قلبت سيرة في هذا الموضوع .

- يعني فاكر أني هبله حتى أصدق كلامك . ردت بحدة تشي بما يعتمل في صدرها من غيظ .

- والله ما حكيت غير الصحيح وكل اللي في بالك ما له أساس من الصحة .

- كول في عقلي حلاوة يا ولد، أصله أنا مش مره ولا عارفة كيد النسوان .

 - يا ستي هاي بوسة راس وحقك علينا، مع أنه ما لنا هبة ولا سبة في هالموضوع .

 - يعني بدك إياي أصدق، أنه أبوك قال اللي قاله من رأسه .

 - يعني أنت ياما مش عارفة أبوي ونوادره .

 - طيب خلص ولو أني مش كثير مقتنعة، لكن عشان خاطرك بدي أعتبر الموضوع منهي .

قبلت رأسها مرة أخرى وخرجت تودعني تلك الابتسامة التي افتقدها منذ ذلك الحين، فوجدت أبي يتهيأ للنزول إلى المدينة، أخذت مكانه مبديا اعتذاري عن التأخر الذي تسببت فيه، فهز رأسه بصمت ومضى، مضي ولم يعد يومها إلا بعد أن غابت الشمس في سمائها، كان بادي التوتر والقلق، لم يحدث أحدا منا بشيء، دخل إلى غرفته وانزوى، لم يستجب لطلب أمي حين دعته لتناول طعام العشاء، ولما ألحت عليه قال بشيء من التذمر : أكلت متأخر ومالي نفس للأكل، فانتقلت العدوى إلينا ورفعت المائدة كما أتت، بالكاد أصاب الواحد منا لقمة أو اثنتين، ثم جلسنا ننظر إلى بعضنا نظرات كلها حيرة واستغراب، إلا أن وقع طرقات على الباب، أعاد لنا الإحساس بالأشياء من حولنا وأخرج أبي من دائرة العزلة التي أطبقها على نفسه ليرى من الطارق، حينها كان ما لم أتوقعه، فما أن فتحت الباب حتى طالعني وجه ابن فهيمة ضاحكا متهللا .. ضمني إليه بحرارة وهو يردد قائلا : ألف مبروك يا صاحبي .. ألف مبروك، من دون ما تحكي عارف حالي مقصر، لكن غصب عني والله يا شيخ .

- الوالدة قامت بالواجب وزيادة . رد أبي وهو يعانقه، ثم أخذ بيده وجلسنا جميعا تحت السقيفة وقد عادت إليه بشاشته المعتادة، بينما انشغلت أمي في الحديث مع المرأة وتقليب الحاجات التي جلبتها معها : غلبتي حالك .. هو هذا بينا يا وليه .

- لا غلبة ولا حاجة .. شوية سمك مدخن جابهن المحروس أبني معه من يافا، فقلت لازم يكون لك وللمحروسة كنتك حصة فيهن، حاكم هذا دواء للوحام .

 قالت المرأة ذلك وكتمت ضحكة أوشكت أن تفلت من فمها، خصوصا حين رأت الحرج الذي ألم بأمي واستذكرت وجود أبي في المكان، لكن أبي لم يكن معنا، كان شاردا بخياله بعيدا عنا وبين الفينة والأخرى، يقاطع صاحبي بالسؤال والاستفسار محاولا إيهامنا بأنه معنا، ربما نجح في ذلك ولم يلاحظ صاحبي حيلته وربما كان صادقا وأوهمت نفسي أو انسقت وراءها فيما ذهبت إليه، لكن سؤاله الذي سأل لابن فهيمة، جعلني أميل للاعتقاد الأخير : صحيح المشاكل بين العرب واليهود في يافا، يوم عن يوم بتزيد؟

- والله ياعم أبو حسين اليهود زودوها، من يوم ما دخلوا الإنجليز البلد وهم شايفين دلالهم .

ثم راح يسرد على مسامعنا تفاصيل التفاصيل التي عاشها هناك، منذ لحظة انتدابه للعمل في قرية سلمى المجاورة لمدينة يافا من الجهة الشرقية، إلى اللحظة التي عاد فيها للعمل ثانية في الكمب المحاذي للمبروكة، إلى أن قاطعه أبي قائلا : تصديق لكلامك، اليوم قتلوا اثنين في المدينة .. واحد منهم ابن القماش صاحبي .

- اللي كسينا من عنده؟ . قلت مستوضحا .

- نعم .. هو ما غيره . رد أبي مؤكدا .

- يا كبدي عليها أمه، شهقت أمي وضربت على صدرها .

- روحت والبلد مقلوبة، والناس مش شايفة الفضاء، قال أبي وقد عاوده الوجوم مرة أخرى .

- وكيف قتلوه يا با؟ .

- من غير هبة ولا سبة .. الولد وصاحبة قاعدين ناحية أرضهم اللي ع الطريق الشرقية، ناصبين شباكهم ليصيدوا حساسين، مرت القافلة من هناك، تقول أنه اشتبهوا فيهم، فرشوهم وظلوا ماشين .

- ربنا يبعث عليهم اللي يرشهم ولا يرحم .. يا قادر يا كريم يا رب، يله يا بني الوقت أخذنا .

- ولله بدري يا جماعة . قال أبي

- ربنا يبدر عليكم الخير إن شاء الله .

خرجت معهما إلى الباب، لحقت بنا أمي .. واصلت استكمال جزء من حديثها المقطوع هناك، فانساقت الأخرى في مجاراتها وقد نسيت أنها من استعجلت بالمغادرة قبل لحظات، لكن هكذا هي النساء دوما، بغض النظر عن الجنس واللون، مهما جلسن ومهما تحدثن، فإن للباب سلطانه الذي لا يقاوم، و إغراءه الذي يستجر الحديث ويطلق الألسنة، وكأن الواحدة منهن تخشى إن هي مضت دون أن تكمل ما تريد، يلتصق الكلام في حلقها، أو أن يفوتها ما يمكن أن يشبع نهمها .

سرنا قليلا إلى الأمام لعلهما تلاحظان ذلك وتنهيان ما بينهما من حديث، لكن شيئا من ذلك لم يكن، فاضطررنا للوقوف على رأس الشارع نتجاذب أطراف الحديث، سألني عن الأحوال في غيبته .. عن الدكان وإن كنت مرتاحا للعمل فيه .. عن إمكانية الالتقاء به إن هو عازني كما كان يحدث في المرات السابقة .

- اليوم الوضع مختلف .. لا في غنم ولا في سبب للخروج مع ساعات الفجر.

- ومين اللي قال بدك تخرج؟ .. راح يصلك كل شيء لحدك .

- الله يرضى عليك لا تورطني أكثر .. أنا اليوم وضعي مختلف وأنت سيد العارفين .

- ما عاش أبو قلب ضعيف .. يله يا ما .

أقبلت المرأة تحث الخطى، أشارت بيدها مودعة لحظة أن أدرت ظهري وانقلبت عائدا، فباغتني صوته مرة أخرى، التفت ناحيته، فإذ به يسعى إلي مهرولا، حسبته أراد شيئا فطن إليه في اللحظة الأخيرة، أو تذكر شيئا فأثر ألا يؤجله، لكن شيئا من هذا لم يكن، كل ما في الأمر أنه أقبل علي وضمني إليه ثم همس قائلا : دير بالك ع حالك وخلي بالك من أمي .

ثم انصرف وتركني غارقا في بحر من الذهول، لم يشدني منه سوى صوت أمي التي راحت تستحثني بالقدوم، أقفلت الباب خلفي وولجت إلى غرفتي، تطاردني كلماته التي لم أفهم لها معنى ولم أجد لها سببا، سألتني زوجتي وقد أثارها ما بي من وجوم، فأعرضت عنها دون أن أنطق بحرف، كل ما كان بخاطري، هو تلك الكلمات وذلك الوجه البشوش ..لفح الأنفاس التي أستشعر طيبها، أعادت السؤال مرة أخرى، لكن سطوة اللحظة ألجمتني مرة أخرى، فأشاحت عني بوجهها وراحت تغط في نوم عميق، نوم بالكاد لامس جفوني أو قاربها وحل ضيفا عزيزا على كثير من خلق الله الذين ما فتئ يصل إلى مسامعي شخيرهم .

آنسني صوت المؤذن وتعذبل أبي من الشيطان الرجيم، رفعت الغطاء وخرجت متلمسا طريقي نحو يوم جديد، لا زالت تعلق به بقايا من ليل أمس وتلوح مع خيوط فجره بوادر آمل جديد، لكن وجوم أبي وإطراقه المتواصل أثناء تناولنا طعام الإفطار، دفع أمي لأن تستوضح الأمر : عساك بخير يا أبو حسين؟.

- إن شاء الله خير يا حرمة .

- بعدك مش ناسي ابن صاحبك؟ .

- ربنا يلطف فيه وفينا .

- يوه يا خيبتي .. خوفتني يا زلمة .. أحكي وطمئن بالي .

- الليلة شفت في المنام والنايم يشوف خير، أنه في طير يحوم في السماء .. طير يا حليمة قد الباهشة ..لا شفت قبله ولا بعده شيء مثل هيك، ظل يدور ويحوم فوق دارنا والدور اللي حوليها وينعق وكل ما نعق خرجت من منقاره نار كأنها الشهب .

- يا لطيف ألطف فينا يا رب . قالت أمي بفزع، ثم تابعت : وبعدين؟ .

- بعدين يا حليمة ربنا زاحه عنا وغار على ناحية بعيدة، اختفى وبعد شوي طلع ثاني، لكن هالمرة كان حامل معه ديك،يمكن بحجم الرجل،والناس يجروا ويصوتوا، بعدين صارت البلد كلها تجري .

- ولحقوه؟ .

- وبعدين معك يا حليمة، أقولك طير وطار في السماء وتقولي لحقوه ! .

- ربنا يستر .

 انفضت المائدة وانطلق كل منا في سبيله، لحقني أخي الصغير إلى الدكان، متبوعا بتوصية من أبي تطالبني بالانتباه إليه، بينما تمدد هو في مكانه تداعبه أختي الصغيرة، غير عابئة بالضيق الذي يعتريه، حتى اضطرته لأن ينادى على أمي مبديا تبرمه : خذي هالبنت عني يا حرمة، حتى عيني تغفى شوي.

لكني لا أظنه قد غفا، أو قاربت عينه من ذلك، فما أن مضت بضع لحظات على فتحي للدكان، حتى علا الصريخ والعويل، كان مصدره قريبا مني .. بل كدت أجزم بأنه معروف لدي، ثم بات أكثر وضوحا وانفعالا : جاي يا ناس جاي .. النار أكلتنا يا ناس .

أقفلت الدكان على عجل وانطلقت نحو مصدر الصوت، كان الأمر على النحو الذي توقعت، ألسنة اللهب تتصاعد من بيت الفرن الخاص بالشيخ إبراهيم وتتطاول لتصل ألسنتها إلى سقف غرفته المجاورة، بينما الشيخ ونساؤه يحاولون إخمادها بكل ما أتيح لهم من جهد، قبل أن تمتد إلى أسطح الجيران، لم يبقوا على شيء في جرار هم، ولكن من دون جدوى، كانت سرعة النيران أقوى بكثير من كل جهد بذلوه، حتى حين صعدت إلى السقف لكي ألقي بالحطب الذي لم تصله النار جانبا، أعجزني شديد وهجها .. حاولت مرة تلو مرة، فكان نجاحي محدودا، صاح أبي محذرا حين بدت بوادر انهيار السقف تلوح في الأفق، إلا أن الانهيار لم يأت إلا بعد أن علقت النيران بسطح الجيران، حينها اندفع جمع من الناس لاعتلاء أسطح أخرى، أحدهم صاح بملء فيه : حد يشغل بير البلد بسرعة،المية اللي في جرار الحارة خلصت .

صوت الصغيرة في نساء الشيخ زلزل الأبدان وأزم الموقف أكثر: يا حبيبي يا ما.. يا قتيل أمك يا ما، تدافع الناس حولها، سألها الشيخ عن السبب؟، فلم تجبه .. ظلت منساقة خلف حالة الهستيريا التي ألمت بها، لا يجري على لسانها سوى شيء واحد : الولد .

 صاح بها الشيخ محتدا : فسري يا حرمة .. ماله الولد؟، فردت بشيء من الذهول والاستهجان : الولد كان جنبي وأنا بأخبز، تركته ودخلت أجيب باقي العجين ولما خرجت ما لاقيته .

انهار الشيخ .. لوم يقو على الوقوف، راح يردد بما يشبه الهذيان : منه العوض وعليه العوض .

اندفع أبي كالمجنون حينها، لف جسده بكيس خيش مبلل، وانطلق إلى داخل الغرفة المتهاوية، شهقت النساء خوفا وصاح الرجال محذرين، مكث بداخلها قليلا، ثم خرج على هيئة أخرى .. انبطح على الأرض يستعيد أنفاسه المحبوسة بفعل الدخان، ثم أعاد المحاولة مرة أخرى، بعد أن أشار عليهم بفتح ثغرات في جدران الغرفة .

 انطلقت المعاول من كل صوب، نسي الناس حينها الأسطح الأخرى، أرادوا إنقاذ الطفل بأي ثمن، تركوا أمرها للمدد الذي جاء من الحارات المجاورة، عندها خرج أبي على نفس الشاكلة التي خرج بها في المرة الأولى، لكنه بدا أكثر ثقة من عدم وجود الطفل بداخل الغرفة : فتشت في كل قرنه .. الولد مش في الغرفة .

صرخت أمه من جديد : يا وردي عليك يا ما .. أكلتك النار يا قلبي يا ما .

بكى الشيخ بحرقة و بللت دموعه ثنايا لحيته .. علا صوت نحيبه مستثيرا من كانوا بقربه من الشيوخ والمسنين، فقال أحدهم مواسيا : المؤمنون أشد ابتلاء، غمغم الشيخ من بين دموعه بأشياء مبهمة، ثم رفع أكفه إلى السماء قائلا : ألطف بحالي يا رب واسترها معي ..، ثم أجهش بالبكاء حتى أنسى الناس مصابهم، تركوا ما بأيديهم وجاءوه، أقسموا أن لا وجود لبشر داخل الغرفة أو بجوارها، استعاد الشيخ أنفاسه وراح ليتأكد بنفسه من الأمر، وهج النار لازال لافحا، رغم انحسار ألسنتها التي لازال بعضها يقاوم جرار الماء المسكوبة فوقها والمعاول التي تتناوب عليها، قلب بعض الشبان الحجارة أمامه .. أزاحوا بعض الركام .. داروا حول المكان .. فتشوا بقايا عيدان الحطب المتفحمة، فجاء الصوت من قبل الشارع مبشرا : لقيته .. لقيته .

 كان أخي عمر يجر الطفل من يده ويصيح بملء فيه : لقيته، وكأن لسانه لم يعد ينطق بغير هذه الكلمة .

اندفعت الأم كالمجنونة .. كادت أن تسقط على وجهها .. تبعها الشيخ ومن كانوا حوله .. تحلقوا جميعا حول المرأة التي أطبقت على طفلها وغرقت في النحيب .. حينها صدحت زغرودة أطلقتها أمي، فالتفت الشيخ مبتسما، تبعتها أخرى، ثم أخريات حتى تحول المكان إلى ما يشبه العرس، بينما الطفل في أحضان أمه ينظر لما يدور حوله بأعين ملؤها الدهشة والاستغراب، حينها التفت الشيخ إبراهيم إلى الناس من حوله وقال : يا أهل البلد، أول حاجة، ربنا يخلف عليكم واحد واحد، وثاني حاجة، جيرانا اللي ولعت بيوتهم، تصليحها بالكامل علي، وثالث حاجة الغداء بكرة عندي وما بدي حد منكم يتأخر .

أسبوع والحارة مشغولة في البناء والترميم، نساء تجلب الماء بالجرار على رؤوسهن من بئر البلد ورجال يحضرون الطين والحجارة من الوادي المحاذي للبلدة، يومان وهم يجمعون ويجهزون مستلزمات البناء وفي اليوم الثالث ابتدأ التنفيذ، انقسموا إلى فريقين، فريق راح يجبل الطين المخلوط بالقصل ويهيئه و فريق راح يعمل على بناء بيت الفرن وإقامته من جديد، حاول الشيخ إبراهيم إقناعهم بالبدء لدى جيرانه أولا، لكنهم أقنعوه بضرورة البدء عنده قبلهم، حتى يرتفع البناء ومن ثم يصبح عملهم محصورا في ترميم الأسطح دفعة واحدة، فتراجع الشيخ عن مطلبه وانحسر دوره في تقديم واجب الضيافة لهم .

 كان أبي المشرف على هذا الجانب وكنت أراقبهم من أمام الدكان، أرى الجهد الذي يبذلون وأحمد الله أن جعل لنا دكانا احتمي بها من هذا الشقاء، وحين يجهز الغداء تصلني حصتي كما لو كنت واحدا منهم، وربما أفوقهم أحيانا .

في اليوم السابع انتهت المهمة، جاءني الشيخ برفقة أبي وأخذ كل ما في الدكان من حلقوم وملبن، ثم راح يوزعه على كل من حضر، ثم التفت إلى أبي بأعين يشع منها الرضى و قال : شفت الناس كيف وقفت معنا وقفة رجال .

-اللي تزرعه يا عمي بتجنيه .

- صدقت،اللي تزرعه بتجنيه، ولولا فضل الله علينا لخربت ديارنا، ثم تحشرج صوته وغلبه البكاء .

- وحد الله يا شيخ .

- لا إله إلا الله .

جفف دموعه وهم بالمغادرة، لكن اندفاع المبروك الذي باغتنا جميعا، ألزمه مكانه و جعلنا نحدق في الرجل، الذي امتزج أسفه بالرجفة والبكاء، وكأن غيابه الذي اعتدنا عليه، كان السبب في حدوث ما حدث، لم يكفه ذلك، بل راح يقسم بأغلظ الأيمان، أنه لم يعلم بالأمر إلا قبل لحظات، ولو علم به حال وقوعه، أوفي أي وقت أخر، لجاء ممتطيا الريح أو الجان نصرة للشيخ وأهله، فما كان من الشيخ، سوى الجلوس ومواساة الرجل وكأنه من حل به المصاب، إلى أن هدأت سريرته وكف عن الأعذار، فسألني جدي حينها، إن كان لدي شيء من الحلوى أعطيها للرجل، فأشرق وجه المبروك عندها وقال : حلقوم يا حبيبي .. أطعمني ربنا يطعمك الصبيان .

- لكن وين كانت الغيبة هالمرة يا مبروك؟ . سأل أبي وغمز الشيخ إبراهيم .

- طول روحك لما أنهي اللي في أيدي . رد المبروك دون أن يرفع رأسه عن العلبة الموضوعة في حجره .

- هو أنا قلت لك أحكي لي قصة سيدنا يوسف ! .

- واحد عملها في قبلك، بس طلعت من خرجه .

- كيف؟ . سأل أبي وقد ارتسمت الابتسامة على وجهه .

- خلانا قاعدين في رحمة السنة اللي فاتت وحط عينه على اللحمة اللي قدامنا، بدو يلهفها لحاله .

- كيف؟ . سأل أبي مرة أخرى .

- طول روحك .. جايك في الحكي، هذا يا سيدي خلى آذان الفطرة قرب وقال لي يا مبروك قول حاجة للناس تنفعها في أخرتها، قلت أحسن القول ذكر الله، قال احكي لهم قصة يتعظوا منها زي قصة سيدنا يوسف .

- وبعدين؟ .

- بعدين أذن المؤذن وما لقيت غير أقول: ضيعوه أهله صغير ولاقاهم لما صار كبير .

قهقه أبي بملء فيه، كذلك الشيخ إبراهيم، بينما واصل المبروك حديثه من بين ذرات السكر المتناثرة على جانبي فمه ولحيته، مؤكدا على أن ذلك القرين لم يعد يجرؤ على مجالسته، في أي مكان يتصادف وجودهما فيه، فاستغل أبي حينها إنهاءه لما بين يديه وأعاد له السؤال مرة أخرى .

- يا سيدي كنت في القدس طول المدة اللي فاتت .

- يا رجل قول وغير؟ . رد أبي مبديا تشككه .

- سبق وكذبت عليك يا أبو حسين؟، على كل حال ربنا يسامحك .

- لا.. ما قصدت أكذبك لا سمح الله، لكن استبعدت الأمر .. الطريق بعيدة وأنت صحتك ع قدك .

- رحت مع الجمالة ورجعت معهم .

- هيك صار الحكي مفهوم .

- وكيف الأحوال هناك؟ . سأل الشيخ مستفسرا .

- الأحوال ما تسر يا عمي .. اليهود سايقين دلالهم ع الأخر وما يمر يوم إلا وتقع مشاكل بينهم وبين العرب، خصوصا عند حايط البراق .

- والإنجليز؟ .

- عاملين بالمثل اللي يقول لاعبوا سعاد يا أولاد، إن ضربتكم سعاد، العبوا سوا يا أولاد وإن ضربتم سعاد، هجوا وارحلوا من البلاد، لما اليهود يعربدوا الإنجليز ما معهم خبر ولما العرب يدافعوا عن حالهم، غراب البين ساعتها يصيبهم من الإنجليز .

- ربنا يصلح الحال .

- اللي جاي نار وموت .. نار وموت .. نار وموت .. حي، ثم انتفض كما لو أصابه مس وراح يدور حول نفسه دورات متتابعة، حتى خشيت أن يسقط بيننا، لكنه انطلق كالهارب من شيء طارده وهو يصيح بأعلى صوته : يا خلق الله استعينوا ع اللي جاي بالله .

- ربنا يكفينا شر اللي جاي . همس الشيخ بتأثر بادي، ثم لفنا صمت لم يقطعه سوى طلب أبي، الذي أشار علينا بالمغادرة، فلم يبد أي منا اعتراضا، رغم أن الوقت مازال مبكرا على الإغلاق، إلا أن حالة الوجوم التي أصابتنا، بفعل ما بدر عن المبروك من قول وعمل، ولدت بداخلنا نفس الرغبة التي تملكت أبي، وكأن ما ادعاه المبروك عن شر آت، أصبح قاب قوسين أو أدنى، بل كدت أجزم بأني أراه يتربص بنا من مكان قريب، نفس الإحساس كنت ألمحه على الوجهين الهائمين بقربي، هكذا شعرت أو هكذا خيل لي، لكن ستارا من الصمت كان يلفهما .. يحجبهما عني وربما عن المحيط كله، حتى لحظة أن اقتربنا من الدار لم يفطن الشيخ إلى ذلك،أراد التراجع في اللحظة الأخيرة، لكن إصرار أبي على استضافته لتناول العشاء معنا، جعله يعدل عن رأيه .

تابع القسم الثاني من الفصل 13 من النص

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1166 السبت 12/09/2009)

 

 

 

في نصوص اليوم