نصوص أدبية

هـــو

 فتكّون من خلال عناقها الكاتب طوقاً وردياً تفوح منه رائحة عطر (السباونيس) الجديد، روشان شيرازي اللفيفة الخضراء على رقبتها والكحل العربي الاسود كأيامهم وان سأل ساءل من هم؟ قلنا : "لتحزر انت"، تبتعد مُنفضة عن صدر الكاتب فيسعل بخفة، يخنقه الاشتهاء بالمزيد، تتعامد اشارات الحزن، تتدبب مداخلها في جسده فتنخره، اي حنية تضاهي توأمته غير المباشرة؟.

 

في غرفة الاستقبال يتوزع كرسيان من الخشب الهندي ذو الطراز المجوف والمرصع بأسنان الفيلة وحين يمر الكاتب على مشهدها يتذكر كم من الاسنان اقتلعت لبشر عرفهم لا ذنب لهم سوى انهم واجهوا الواقع على خلاف الجميع، التلفاز الممدد على قاعدة فضية بعض الغبار يصاحب شاشته، شهادتا التخرج معلقتان بدنو من الباب وعلى ما اظن فأن روشان هي من اختارت المكان والارتفاع و(الفريم) اما زوجها الكاتب فكان نصيبه التثبيت في جدار طالما خضع للترميم، الا يكفي انه اعتاش لعشرين عاماً دون مؤن.

 

تنسكب عيون روشان شيرازي على بضع اوراق متفرقة ملئها كلمات من اليسار الى اليمن مرصوفة بدقة طباع ماهر وبين سطور الكلمات اشارات خضر وحمر من بعيد لا تعني سوى خطوط لا تشكل معنى، عند جلوسها على الطاولة الخشبية المربعة يتهيء امام ناظرها ما ترجمته من قصة لاحدى الانكليزيات قد تكون جدة احد المنتسبين للخدمة في الجيش البريطاني عند تخوم البصرة او هناك في اعالي جبال الافغان، من يعلم ؟ القصة التي بين يديها تتخذ طابعا غريبا يحصر فيه هيئة أمرأة ضمن حدود نص مشحون بفضاءات الرومانسية والعشق ورغم طول الاحداث وكثرة المواقف لا يبرز في القصة اسمٌ للبطلة سوى وصفها الطبيعي بـ(هي).

 

روشان شيرازي وزوجها الكاتب لا تنفصل عيونهما عن الورق فهما على الدوام في عبادة وتصوفهما غير المعهود يقوم على اساس واحد هو ان عبادتهما للخالق تبدأ من ايصال العلم والادب والمعرفة الى الناس قد يكون سبب ذاك مدينتي التصوف القديم بغداد والبصرة التي ينتميان اليها والتي طالما قالا انهما ارثهما الذي لا يورث.

 

تتقرفص رجلاه على (كنبة) طويلة تعلو عن الارض الباردة نسبياً بثلاثين سنتيمتراً، يحك شعره الاحمر الكث ليوازن تفكيره فتسأله زوجته:

- بماذا تفكر؟

- بكِ .

- كيف؟

- سأكتب عنكِ.

- لن تفعل، لانك لا تحب الكتابة عني، هكذا تقول دوماً.

- اليوم تغير مزاجي الكتابة عنك نوع من التمرد، ومزاجي يحن الى التمرد، الا تذكرين تاريخي؟

- لن تتجاوز حدك في الابداع عني، هل تود سماع شيء انفع؟.

 

يصمت لحظات، يتضح لمن يراه انه يفكر في ما قالت، يبتسم فتجحض عيناه وتتكسر جبهته ليجيب:

- طالما كنت سامعاً مميزاً انني انصت لك كالعادة .

- (هي) في طريقها الى النشر الا تجد ظلماً لـ(هو) حين لا يكتب عنه احد.

تتسع مظاهر البهجة في وجهه، يأخذ نفساً عالياً ليفز بعدها نحو كومة ارواق بيضاء وقلم ارزق محكوك الطرف فأسنانه اعتادت العض.

- ساواجه المخيلة سأعتني بالوصف، احدق جيداً بمكامن البناء، لكن بأي الاوتار سأعزف؟

- خذ مثلاً، (هو) ينام طويلاً، يدخن بقّلة، يعشق السمر، قليل الكلام.

- ولماذا تودينه هكذا، (هو) يلتزم بجدول عمله، حبيبته البدوية مسارات عقله معها اينما اتجهت، الى برلين او لندن او لوكسمبورك.

- اي بدوية تنتقل في هذه المدن!!؟

لا يجد مجالاً للاجابة لسر واحد او لمجموعة من الاسرار يقبض على لسانه مستغرقاً بصورة تتجاوز حدود الوصف عنده، يكمل :

- (هو) شاهد ملك لقضية فساد دولية، (هو) شريك لاحد ابناء الملوك، (هو) لا مجال له لتناول الكحول فيسكر بذكر حبيبته، قد نتشارك ياروشان ببناء اوصافه لكننا لن نتقبل ان نتوحد في رؤيتنا لدواخله ومكنون نفسه، ان الغور في اعماق الروح لعله حاجتي التي ابحث عنها اهتدي بها الى روحي التي طالما ظلت لغزاً لي قبل ان تكون للآخرين، اكتب اكتب واتشظى حد اللحظة التي لا تستطيع ان اغادرها غير انني لا املك لغاية وعيي الحالي اطاراً اتقوقع داخله، (هو) سيبحث عن تفاسير كثيرة لمبهمات تمر على حياته القصيرة فنهايته في عز ثلاثين العمر لم تبخل عليه بالمشاهدة والمتابعة والتعرف، أما الفطنة فهي نزقه المرهق، عند سن الرابعة توقف كي يشتري قطعة من الحلوى من احدى المحال القريبة من بيته وحين امسك بمقبض الباب الخشبي العتيق وجد ان جارته وزوجة احد ابناء عمومة والده تتكيء بطريقة غريبة على صاحب المحل (توما المسيحي) فتكشف له منذ ذلك الحين ان النساء في حياته سيكون لهن شوط الخيانة الكبير.

 

عند حد الخيانة اشار الى الورقة بإيماءة مركبة معلناً البدء فاستجابت له ادوات النص حتى الاكتمال اللاذع .

طالما يتبادر الى ذهن القاريء ان الكتابة في القصة من اسهل انواع الابداع، على خلاف ما يراه الكاتب زوج روشان شيرازي الذي اعتاد على ان يتمزق ويحترق وينغمس في تلاطم موج افكاره حتى ان اتته الاشارة بدأ بخوض الكلمات على الورق ويسيل النزيف رويداً رويداً فتلتقم الاسطر وتتفجر الاحرف وان ختم ما كتب فبهدوء نسبي يفرغ عقله المتعب.

طالما اشار ان ما يكتبه نتاج ذاكرته السحيقة وعندما بدأ بالقصة التي بين يديه جعل من (هو) مزيجاً لشخصيات لا تتفق على معنى واحد للحياة، منهم الموهوم بالجنة ومنهم الراكض نحو النار ومنهم من لم يجد دليلاً على وجودهما.

(هو) يغامر بأسئلة قتل الحلاج من اجله

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1166 السبت 12/09/2009)

 

 

في نصوص اليوم