نصوص أدبية

الجرار المزنجر

بالأمس قد وزعت جوائز على تلاميذ المتوسطة وطيلة الليل لم يكف الجيران عن الضوضاء. مع الصباح الباكر جابت السيارات الأحياء زمنا طويلا  فتعالت وتغنت بالمرسيلية أصوات نشوانة.

-غير معقول أن ترفض الأكل لأنهم لم يهدوك كتابا جيدا قالها الأب بفرنسية.

كان الولد يجلس أمام النافذة ذات حافة قاعدية عريضة يتخذها بمثابة طاولة. وكان من حين لأخر يمرر بإصبعه على الزجاج حتى تتضح رؤية ما بالخارج.

- إن كان الأول فهو الأول، قالت الأم هي أيضا بالفرنسية.

ثم جاءت لتقف وراء ابنها. كانت ترتدي فستانا قصيرا جدا. كان الولد يكظم غيظه .

 ثم سمعها تغادر الصالة نحو المطبخ.

اقبل السيد ريفي مسرعا على الرصيف المقابل يرافقه ابنه وفي يده مطرية مغلقة. الاثنان يحثان خطاهما.الابن يضم تحت ذراعه كتابا ضخما. طرق الأب والابن بابهما. انفتح الباب. فظهر رأس امرأة في مقتبل العمر... السيدة ريفي...

- انظرا انظرا، صرخ الولد...

حينها فتح الأب النافذة مومئا بسخافة، صائحا في جاره: صباح الخير سيدي ريفي... صباح الخير سيدى ريفي... الطفل لا بأس...

 فرأى ابنه فيما يرى في المنام خياله النحيف الحزين أمام منصة قسم من أقسام الكوليج قبالة خيال اخر فضفاض مسترخيا على المكتب، قائلا: هيه صباح الخير سيدي الغراب...

أدار السيد ريفي وجهه الشاحب بجبينه المتجعد نحو هذا الجار الفريد من نوعه، بيده دفع زوجته وابنه ثم صفق الباب من ورائهم.

 

- قد حياني بغمزة ،قال الأب بصوت خفيض ثم أغلق النافذة. بعدها نظر مليا في وجه ابنه وأضاف: بالنسبة إلي إنك الأول وهذا المهم؛ ثم – مرر بيده الغليظة على رأس ابنه- إنه زميلك، روبير؛ هو أيضا تلميذ مجتهد.

- غير صحيح، صرخ الابن... الكل يعلم إنه ينقل...

- كان عليك بالجلوس مع زميل أخر، جاء صوت أمه رقيقا من المطبخ.

- المهم بالنسبة لنا، قص الأب، إنك أحسن من زملائك العرب.

- ابن الغيطان، أتسلم جائزة، سألته أمه من المطبخ.

- لا شيء، دمدم الطفل  

- هذا كل ما يهمنا قال الأب؛ لا نريد أكثر؛ لا نريد أكثر؛ ثم دس قطعة نقدية في يده.

أسبل الطفل جفنيه نحو راحته المفتوحة ثم ترك الفرنكات العشرة تسقط على الأرض.

التقط الوالد قطعته وبقي واقفا وقد تراجع قليلا من النافذة. كان هو أيضا ينظر في الخارج.

ألان، كان المطر يسوط الزجاج بضراوة. شيء ما دوي ناحية الجبل.

تذكر الطفل ابن عمه علي، الساكن بالبادية الذي يهرب شبان نحو الأدغال...

 بدا كل زجاج النافذة يذوب كالشمع، حينها خرج السيد ريفي من شقته وانطلق يجري تحت المطر.

انقض وقت طويل ثم من اليسار، على خط واحد ، برزت الدبابات تتقدم تحت وابلة بمدافعها المائلة.

كان الوالد يقف من وراء الطفل وكذلك أمه المرتعشة بردا في فستانها القصير. كان الثلاث ينظرون إلى العرض.

-قال لنا أستاذ الجغرافيا بأن ليس من حق الجرار أن يعبر طريقا معبدا...فقد يتلف الحمر ...

- نعم تمتم الوالد، ولكن هذه الآليات خفيفة جدا.

- هي من الألومينيوم، أضافت أمه وكانت بكعبيها تنقر البلاط  

في الأسفل تتدفق مياه النهر. غير مرئية، لكنها هنالك. غير مدركة كذلك. لكنها هنالك. النافذة مستطيلة. ينحني. لكن النهر باق غير مرئيا. ينحني أكثر.. حتى يحس الزجاج البارد يلمس حاجبيه. بالأسفل أرض تروب تنعكس فى رؤيته. جرار بوسطها. كان قد حدد الحقل. لون أمغر في بقعة صفراء. يقول: سوف تمطر... المطر... المطر... رائحة قش لامست منخريه. شيء مدهش وزجاج النافذة مغلقا. يسترق السمع للآخرين وهما يسكبان الشاي في قدحين صغيرين. مازالا يجلسان إلى طاولتهم منذ الصباح. يتكلمان في خليط لغو عربي مفرنس .الحرب، يقول الأول. الحرب، يقول الثاني. الحرب، يكرر الأول. مثله، قد تلقيا، دون ريب، البرقية..و ها هما يتمرنان قبل المناقشة. يبتعد الجرار من الرقعة ويأخذ على اليسار... الوطنية، يقول احدهما. عشوائيا، يضرب الرذاذ زجج النافذة. بالأسفل قد يكون النهر في زيه الغر يني. جارفا في مجراه تدفقات مبهمة. وتنقشع السماء. ثم تتقهقر.احدهما، يكون الرجل الجسيم، يحكي حكاية. لها ،بدون شك، علاقة بالحرب....جدال عبثي..البرقية تشترط : ندعوكم بصفتكم محاربين قدماء لحضور ندوتنا. الموضوع : ما هو الشيء الذي دفعكم حتى انضممتم للصف...تلاميذ راجعين من المدارس يشقون الرقعة. يمشون ببطء. ثم يأخذون في الجري.

 سحب كثيفة تبتعد بسرعة من على الرقعة نحو جبال الشرق. مطر مرة أخرى. فوق جمع من التلاميذ. بعد لحظة سوف يقول نادل الفندق سأخذ أيام راحة بعد غد لرعاية أبنائي. الآخران يطلبان فنجالين قهوة. قد يكونان غريبين عن هذه الناحية القبائلية.فضلا عدة مرات السبل قبل أن يصلا هنا. وهما الآن يضحكان ملئ شدقيهما عن هذه المغامرات. قد أصبحنا شيخين. أينك يا عمر العمر. حسب لفظ الواو قد يكون أاحدهما من الغرب. شتا شفنا... شتا تمرمدنا. يتكلم عن جبال الورشنيس. عن جبال الأوراس.

- أي عام يستعلم الثاني .

- 1958 يركز الأول .

- بالتأكيد تكون قد عرفت حسن خرفي...

- الله يرحمه، يقول الأول وبمنديل صغير ينشف جبينه.

الثاني: كنا معا بكتيبة واحدة في جبال بني صالح ، قبل انتقاله نحو الأاوراس.

- مقاتل مشهور. استشهد بالجرف.

بالأسفل يجر النهر أذيال من ألليال. أمه تتكلم في الحديد. أبوه يرحب بالسيد ريفي. تنتشر رائحة التبن المبلل والزجاج مغلقا. شخص ما، من تحت جلده ينصحه بترك كلمة بسيطة: النفاق العائلي هو الذي دفعني لانضم للصفوف ... لكنه يتشبث بمقعده.

.مرة أخرى يأخذ في الاستماع إلى هذين القريبين من طاولته

.- لا أصدقك همس الأول

.- صدق أو لا تصدق

.- إن فكرت جيدا سوف تجد ما دافعك

...- ودم الشهداء

- من غير الصائب أن يقسم العبد الفقير أو يعود لحكايات الحروب، بدأ الأخر. بدون شك نضيف شيئا ما... ننسى شطرا كاملا أحيانا. صوته هادي. صوت رجل منحني على عتبة بئر، وقد شرب، ينظر في سواد الماء مستنشقا طوبا وسائلا وورقا طاف...كان لدينا أراض شاسعة. فجاء الروامة. . بعد نصف قرن بدأ الأجداد الأولون يبيعون للمستعمرين قطعا منها.فاستمرت هذه الصفقات مع جدي ثم مع أبي. بعد الحرب العالمية الثانية انتشرت الأمراض والبؤس وكان هذا الأخير من اجل معاشنا تطرق إلى بيع أراض خصبة بثمن رخيص ثم يضطر لجث الإحراج بالأماكن النائية ثم يبيع. يبيع مقابل لكيس قمح. مقابل بقرة. مقابل لا شيء. في الأخير اضطررنا إلى ترك منزل الأجداد القديم الذي كان مبني في أخر قطعة أرض طيبة وبنينا كوخا بقرب المقبرة وقد دفن فيها منذ القرون كل أموات القبيلة. يومها لم يكن عمري يتجاوز العشرين سنة. وذات صباح كنا قد انتهينا من مزالة أعشاب ضارة ناحية سفح جبل ولما عدنا نحو كوخنا شهدنا بعيوننا المستوطن يركب جراره حارثا المقبرة. نظرنا إليه طويلا بصمت. ثم رأيناه ينزل من على آليته مهرولا باتجاهنا... لا عليك يا مسعود ، هذا من اجل ربط الكل... ثم أضاف: لن ترحل من هنا؛ سأدفع لك كذلك ثمن هذه القطعة... كان أبي ساكتا. لم نتعش ليلتها،لا أنا ولا أبي. لم يأتنا النعاس، كذلك، ليلتها. في الصباح الباكر – كان بدر على أرض الله- خرجت من الكوخ واتجهت نحو القطعة المحروثة...و نظرت في عظام الأموات...كانت كثيرة... كثيرة...

سكت لحظة ثم أضاف: في اليوم التالي قتلت المعمر ثم صعدت الى الجبل.

 

 & nbsp; أحمد بن قريش

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1176 الثلاثاء 22/09/2009)

 

 

في نصوص اليوم