نصوص أدبية

بالسلامة يا وطن / سعد الصالحي

علمتُ أن عازف الكمان الأول في الإذاعة والتلفزيون يخدم كجندي مشاة في الخنادق الأمامية، مما دعاني إلى التوسط لنقله إلى وحدتي كي أحفظ حياته وفنه العظيم .

إعتاد منتسبوا وحدتي الإستمتاع بالتلصص على سهراتنا معاً بعد منتصف الليل ونحن نلحن الأغاني ونؤلف المقطوعات الموسيقية، وقد وجدوا فيه شخصاً يلازمني حتى في واجبات صحة الميدان مصطحباً معي قيثاري، أو إخلاء المصابين من ميادين المعارك على الرغم من أنني نسبته لعمل مكتبي في الوحدة .

سرعان ماتوطدت علاقتنا عائلياً وفوجئ الوسط الفني في العراق بهذه العلاقة بين ملحن شاب وموسيقي من أساطين أساتذة آلة الكمان لاسيما وأن أستاذ العود الفنان الدمث علي الإمام إلتمس مني يوماً :

- عيني دكتور، دير بالك عليه، تره هذا (باغانيني) العراق ..!

قضينا معاً سنتين في الجبهة المشتعلة، ثم عدتُ لإكمال دراستي العليا في تخصصي الطبي وعاد هو بعد نهاية الحرب محاولاً حياته كما عهدها في بغداد، لكنه وقع أسير الإدمان على الكحول بشكل مفرط فأملق وطلق زوجته وراح يصيح مخموراً :

- صرعتُ الموتَ لكنَّ البقاءَ ظل يصارعني في كل واد، فلمَ تركني الصديق الذي احتملني طيلة تلك السنين؟

كنتُ حينها بعيداً عنه أمارس مهنتي في مدينة نائية، ولم تكن المسافة هي التي أبعدتنا، بل عضات نيوب الحصار وسنين جدبها . حتى مضت بيننا عشرون عاماً، لأجدني أكتمل بعزلتي في تلك البقعة النائية أجتر ذكريات ألحاني ومؤلفاتي الموسيقية معه عبر أشرطة كاسيتات كانت تضم صـــدى سويعات الليالي التي قضيناها معاً في الوحدة الطبية .

وجدوا عام 2002 في صبيحة صيفٍ على الرصيف المقابل لمقهى (أبو ناطق) في الصالحية، جثةً شديدة الهزال غارقة ببحر من القيء والكحول .. ولم تكن تلك سوى جثة الفنان الكبير وأستاذ آلة الكمان ألأول في العراق، الموسيقار العظيــم الذي ألف اللحن الخالد :

(بالسلامة يا وطن ... ما هزتك ريح) .

 

من: مراثي غيلان

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :1998 الأربعاء 11 / 01 / 2012)

 

في نصوص اليوم