نصوص أدبية

مـريم / قصي الشيخ عسكر

قالوا إنّ حوريّة البحر ظلّت تنتظر عريسها، ومريّم وهي في الماء فكّرت ساعة أو أكثر أن تختار عريسها حين تجتاز الامتحان النهائيّ وتدخل الجامعة.كانت وهي في الماء تفكّر بشكل العريس... أسمر طويل أو أبيض ذو عينين عسليتين، لكنّ داء الشقيقة الذي أصبح يراودها كلّ يوم، قد يعيقها عن إكمال دراستها هذا العام، ويبدو أنّ مريم قد سكتت لتنطق عنها حروق خفيفة على رقبتها وصفحة خدها الأيسر، حروق خافتة من رآها ولم يعرف قصتها يظنّ أنّها وحمة رسمها عليها القمر ذات مساء إلى درجة أننا ظننا سكوتها أوّل الأمر صوما لنذر تؤديه عن نجاتها فقد كانت بعيدة كلّ البعد عن الحياة، هلاك واحد أفضل من هلاك عائلة بكاملها.هكذا قال أبو مريم، ومثلما رسمت عودتها فرحا على الوجوه أدرك الجميع – بعد أن مرّت ثلاثة أيام من دون أن تنطق- أنّها صمتت إلى الأبد.

كان من حسن الحظ أنّ البرميل امتلأ بالماء إذ ذكرت أمّ مريم أنّها استفاقت فجر ذلك اليوم الهاديء، وملأت الخزان الكبير على السطح ولم تنس برميل الماء، ولمجرد أن حدث القصف واندلعت النيران فرّ الجميع في لحظة الفزع ونسوا مريم نائمة، .عشرات البيوت والمؤسسات والمعامل والأبنية والمراكز الحكومية اشتعلت في لحظة واحدة .كان أخطبوط النار يأكل نفسه ليصل إلى مريم التي تمطّت وهي تستفيق على دفء غير مألوف، ولو قدّر لها أن تتكلم يوما ما لقالت إنّها أعمق ساعات عاشتها، نسيت عندها التعب والخوف والصداع المزمن الذي رافقها طوال فترة الحرب فجأة وقعت عيناها على الباب المنتهي بالدهليز.كانت المسافة تنكمش والنار تمدّ أرجلها نحو المدخل.لم تصرخ على أحد، فقد ترآى لها خاطر ما نصفه وهم ونصفه حقّ، إمّا أن تكون النار أكلتهم قبلها أو أنّهم هربوا باتجاه البستان القريب يحتمون بالنخل والشجر والسواقي .

أدركت أنّها كانت أشبه بالميتة، أمّا أخطبوط الجحيم فقد راح يمد ذراعه عند الباب وفي الباحة ملتهما غرفة الاستقبال ليشرع في المطبخ فيصل سنّ منه إلى المدخل، مالذي حدث خلال نومها ؟كلّ ماتذكره أنّ السكون استمرّ يوما كاملا قبل أن يكشّر عن أنيابه حتّى ظنّ الجميع أن الحرب آذنت بالرحيل، وربما نامت وصحت على مشهد غريب يختلف عن الصور الممسوخة التي ألفتها من قبل.لابدّ من أنّها حية، ليست تتذكر كلام أبيها فقط.يوم أمس استعادت المدينة أنفاسها وهي تعانق سكونا شاملا طويلا حلّ فجأة فظنّوها صفقة غير معلنة لنهاية الحرب.الهدوء الغريب منحها فرصة لزيارة الطبيبة التي أكّدت لها أنها تحتاج إلى حبوب منوّمة حبّة واحدة تسكن أوجاع الشقيقة، وتدخل المريض في نوم عميق فلا يشعر بالدنيا وإن انقلبت من حوله.

وحالما أنهت صراعها مع الشواهد التي دلّت على أنّها حيّة وسط فحيح النيران انتبهت إلى برميل الماء.نظرت كالوزّة المذعورة، ثمّ غطّت فيه تماما.تلاشت. قطعت نفسها لحظات وأخرجت رأسها تنفست نفسا عميقا وتابعت عيناها مسيرة النار، ثمّ غطّت من جديد، وفي لحظة أو أقلّ عندما تخرج رأسها لتأخذ نفسا تسمع انفجارات وضوضاء وتبصر ألسنة النار تقبض على الباب، وتهمّ أن تخمش وجهها.كانت تغمض عينيها تحت الماء كما لوأنّها إحدى حوريات البحر اللائي يغصن في الأعماق يبحثن عن عشب يمنحنّ الخلود.كان البرميل يصارع النار.الفردوس أم جهنّم ؟يبقى مع ذلك وقت هو الدهر كلّه تخرج فيه رأسها فتقتنص نفسا وتلقي بنظرة خوف على النار الزاحفة باتجاه البرميل، وبمرور اللحظات بدأ الماء يسخن، ولم تعد تتحمّل قسوته.آخر مرّة نطّ رأسها إلى الخارج خلالها امتدت كفّ النار نحو خدّها ولمست رقبتها بيد أخرى، ولم تعد تشعر فيما بعد بما يجري حولها إذ لم تجد فسحة من الوقت لتفكر في إحدى الطريقتين التي تموت بها حرقا بالنار أم الماء؟

أمّا العابرون، والواقفون عن بعد فهم الذين شاهدوا مريم تخرج من الماء.خانت ايّ منهم الجرأة في أن يقتحم البيت إليها.سمعوا أم مريم بعد أن أمّنت نجاتها هي والعائلة تفتقد مريم وتصرخ باسمها وتؤكد أنها بقيت في البيت.قالت إنّها تركتها تغطّ في نوم عميق ويقول أبوها وهو يغالب دموعه نخسر مريم أفضل من أن تموت العائلة كلّها.كان الجميع تحت المظلات وبين النخيل، وفي الحفر يرفعون عيونهم إلى المنزل الذي أصيب مباشرة واندلعت فيه النيران، وقد رأوا النار تلتهم الجدار فينهار السقف ويميل الحائط نحو البرميل الذي يندفع وسط ألسنة اللهب باتجاه الطريق.كان الماء يندلع أمام فوهته مثل الشلال !

ومريم تخرج منه كحوريّة البحر.

حورية بحر شعرها مبلل وجيدها يلمع بحروق.

خدها الأيمن ذو هالة سمراء .

لم يجرؤ أحد أن يتقدم نحوها ويأخذ بيدها، فليس هناك من عاقل يمكن أن يرى فتاة تخرج من النار وهي تقطر بالماء سوى مريم، وبدا أنّها لاتنتظر أحدا.تحاملت ونهضت ثمّ التقطت أنفاسها وسارت باتجاه الطرف الثاني من الشارع حيث النخلات وبعض الحفر والسواقي التي يحتمي عندها الهاربون من النيران، وقد نسي الآخرون بما فيهم عائلتها أنّ داء الشقيقة لم يعد يراودها منذ خرجت من دوامة الماء والنار وتوغلت وحدها في الصمت. ...

 

قصة قصيرة

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :1999 الخميس 12 / 01 / 2012)

 

في نصوص اليوم