نصوص أدبية

ابتسامة / قصي الشيخ عسكر

ظننته أصمّ لم يسمع النداء أو أبله يسمع فلايفهم أيّ مأزق نحن فيه وأيّ مصير ينتظرنا بعد لحظات.قبل قليل نعمنا حقّا براحة لايشوبها أيّ كدر إذ تراءت أشبه بالخشوع فأنستني أن ألتفت إليه ولم يكن ليعنيني أن أتعرف به من أجل أن أ قضي الوقت بالثرثرة معه طوال ساعات الرحلة الثلاث.كلّ ماأعرفه أنّه اتخذ مجلسه على المقعد المجاور لي،ولم أنتبه له حيث كنت منصرفا - شأني كلّ مرّة – بالتطلع عبر النافذة لنجد نفسينا بعدئذ متجاورين.تناولنا وجبة الغداء وسعدت بكوب من القهوة المرّة ، وأشاع البهجة في نفسي اندفاع الصغار بين الممرات الواسعة وركضهم هنا وهناك حالما استقرت الطائرة وتحلل المسافرون من أحزمة الأمان!

حينها بحثت عن جميع الكوابيس التي مرّت بي فوجدتها أقلّ رعبا مما يمرّ بي الآن.كابوس جثم ذات ليلة على وجهي.شلّ شفتيّ، فصارعته وقتا ما واستفقت، ومن عهد قريب جثم كابوس ما على نصف جسدي،دفعته وصرخت،لكن كيف أتخلّص من هذا الكابوس الذي يجثم على صدري ويطوي الآخرين معي.

منذ لحظات قليلة سمعت صراخا،فعرفت أنّ أحدهم مات من هول الصدمة،فقلت والجزع يستبد بي شأني إذا غزتني الأحلام المزعجة البغيضة : وحدي من دون الآخرين غادرت الكابوس فتخلّصت من حلم مخيف،أحدها يدركني هذه الساعة مع غيري.أكثر من مائتي شخص نحن.حلم بغيض ينتشر كالداء. رجّة عنيفة بل رجات محمومة وخرخشة توحي ان الطائرة على وشك أن تتكسر عظامها مثل الطير.رحت ألوذ بالآخرين فأجدهم أسوأ حالا منّي،وقد اهتزت الطائرة هزّات عنيفة ومالت نحو اليمين وترنّحت..قائد الطائرة أمر بشد الأحزمة ولم يضف شيئا. ربما تحاشى أن يبعث اليأس في نفوسنا غير أن جنوح الطائرة وميلانها وتذبذب حركتها جعلت الآخرين يدكون بالبديهية أن مايحدث أبعد من أن يكون مطبا جويا بل هو خلل طاريء اعترى المحرك،فتعثرت مضيفة كانت تهرول نحو المقصورة،حاولت أن أقبض على يدها لأوقفها مستفسرا عن نجاة أصبحت من المحال،واندفع مضيف من غرفة الكابتن كأنه يهرول إلى حيث لايدري،صرخت امرأة في الصفّ الخلفيّ ومالت من صرختها الطائرة .. تهادى إليّ بكاء أطفال كانوا قبل لحظات ينطون فوق الممرات،ولمحت امرأة تقدّ ثوبها،والجالس أمامي كالصخرة...تمثال من حجر قديم لاتقرأ على ملامحه سوى غبار الزمن...العالم ينقلب...يحترق في لحظات،كنت أرى الطائرة هي العالم كلّه. الأرض ذاتها يصيبها زلزال عنيف يرميها بعيدا  فتخرج عن مدارها لتسقط في الجحيم أوتدلت إلينا  عن بعد الأرض ،فهمّت بالتهامنا مثل حوت جائع. صمت دام لحظات تبعه نداء من قمرة القيادة التفت إليه متسائلا كأني ألوذ به :

- هل سمعت نداء الكابتن؟.

فهز كتفيه غير مبال وارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة لاتنببيء عن قلق ثم علّق بهزة من رأسه وكلمة مقتضبة:

- نعم جيدا فلست أصم!

أبله أم ماذا أهو بليد لايعنى بالحياة والموت. هذه المرة تفرست بوجهه رغم الخطر المحدق بي والمأساة التي تنتظرنا جميعا فبعد لحظات نتحول كلنا إلى رماد لاسيما أن وضع الطائرة تحول إلى الأسوأ فبدا لي أنه في الأربعين من عمره  ذو ملامح توحي بالوسامة ولاتوحي بالغباء وكأنه شعر بي ألوذ به فالتفت نحوي قائلا:

- لاعليك منه.

- كابتن الطائرة أمرنا بشد الأحزمة .

لم يلتفت هذه المرّة إليّ بل بسط يده وراح يحدّق فيها،وعاد إلى الصمت.كانت الطائرة تتأرجح،وتهتزّ ،وزعيق المسافرين يكاد يصمّ أذنيّ. ،شعرة واحدة نبعد عن الموت.. حوت أسفلنا جائع يفتح شدقيه أم جحيم تهوي إليه الأرض؟دقائق معدودة..كارثة...سوف نصبح خبر الساعة،وتغصّ بموتنا الجرائد .. محطات التلفزة.. الإذاعات.. وسائل الإعلام...الطائرة المنكوبة على متنها مائتا راكب...اختفت من على شاشة الرادار مازال البحث مستمرا عن الصندوق الأسود.. جلالة الملك .. يعزي.. فخامة الرئيس يبعث برقية مواساة.. سمو الأمير.. جثث تحترق وتتناثر..وسائل الإعلام تحركت ورؤساء العالم أما الصنم الجالس جنبي فلم يتحرك بعد!كلمة واحدة من كابتن الطائرة أروّض بها هواجسي،يمكن أن تخلقني أنا والمسافرين من جديد وتجعل الأطفال يمرحون في الممرات كما كانوا يفعلون قبل دقائق..تمّ إصلاح الخلل.كنت أزعق فيختلج زعيقي بحشرجة  الرجال وصرخات النساء،وهيجان المضيفات الائي تشبثن بالكراسي،كلنا نهتزّ ونصرخ ونرتعش.سكارى ترنحوا في مقاعدهم ،والصنم الجالس جنبي لايتحرّك،ومع كلّ يأسي،وفقداني الأمل فقد كنت ألتفت إليه فأراه جامدا لايتحرّك،مما زرع الشكّ فيّ كون ما أمرّ به كابوسا وليس حقيقة.كان أشبه بالكوة في غرفة معتمة مختنقة أطلّ منها بأنفي إلى هواء نقي،فأتنفّس الصعداء إلى درجة أنني كدت أنسى المصيبة التي نحن فيها فأهوي على وجهه بقبضتي أو أهزّه بعنف لأنتشله من جموده غير المعقول.

لامجال أمامي إلاّ أن التفت ثانية إليه.وجدته يتطلّع في يده،وكأنّما حاولت مرة أخرى أن أتخلّص من كابوس ثقيل قلت آيسا من أية ذرّة للنجاة:

- ستسقط الطائرة.

أجاب ببرود:

- لاأظنّ!" وأردف": كن متفائلا " وبعد لحظة صمت" لاعليك مما يقال  ثق بكلامي!

مع عبارته تلك جاء البشير،كما لو أنّ الهدوء الذي سبق الغداء تناسخ من جديد فقد اعتدلت الطائرة وتوقفت الرجفات،وأطلّ صوت الكابتن يعلن أن المهندس تمكن من إصلاح الخلل وإنّ الطائرة ستهبط هبوطا اضطراريا في أقرب مطار.

ولم يسفر الحادث البشع إلاّ عن وفاة مسنّ بالسكتة القلبيّة.نسيت أنّ الطائرة قبل لحظات همّت أن تبصقنا من داخلها كوحش يتقيّأ ما في أحشائه.كانت تهرب منّا فنراها تهمّ أن تتفكك.الذيل يهتزّ لينفصل.الجناح يرتعش،ونحن لاندعها تهرب منّا. كنا نطاردها ونضم صدورها وقبضاتنا عليها لئلا تتمزق بعيدا عنا فنتناثر بالهواء. شغلني الفرح عن الموت الذي داعبنا وتركنا.الزعيق انقلب إلى ابتسامات على الوجوه،وشغلي الشاغل التمثال الذي حافظ على رباطة جأشه فترة المحنة.فضول غريب يجعلني ألتفت إليه وأنسى مأساة كادت تتحقق،فأعهده بهدوئه منذ أن وجدته أو وجدني في هذا المكان:

- كيف أدركت ذلك؟

أجابني بابتسامة نمّت عن الثقة بالنفس:

- السرّ في يدي.

- لم أفهم ماتعنيه.

- طبعا لأنّ ذلك يحتاج إلى وقت لكي تفهم هذا العلم.

وبسط يده وقال كمعلم يفسّر لتلميذ مبتديء:

- أنظر هذه يدي.. الخط الذي أمامك طويل في علم الهيرو... يعني أنّي سأعيش بحدود التسعين عاما،عمري الآن لايتجاوز التاسعة والثلاثين.

وواصل حين رفع عينيه عن يده،واستدار نحوي نصف التفاتة:

- مهما يكن فإني سأكون غير سويّ إذ أكذب يدي وأصدّق أيّ خبر لايمت إليّ بصلة! " وعض على شفته السفلى كأنه يوبخني" هل تكذب عضوا في جسدك وتصدق الآخرين؟

فتفرست بوجهه برهة وبسطت يدي أمامي أتابع خطوطها فأقرؤ عمري ،وفيما يشبه الحلم رحت أبحث عن الرجل الذي يملك موته بيده.كانت الطائرة في تلك اللحظة تهبط رويدا رويدا ومعها تكبر أحلامنا على الأرض.إني لأذكر تلك اللحظات الآن فيكاد قلبي يسقط بين قدميّ،وحالما هبطنا استقبلتنا سيارات الإسعاف.أجريت لنا فحوصات عامة.قابلنا موظفو المطار بالتهاني،وَ نُثِرت علينا ورود.خضعنا لإجرآت روتينية.طول تلك الفترة التي دامت ساعة أو أكثر بقليل ظلّت عيناي تحومان كالنورس حول الوجوه.حاولت أن أعثر عليه.. هممت أن أسأل عنه لكني لم أعرف اسمه.كنت أغادر المطار على أمل أن أراه مرّة أخرى لعلني أجده جنبي في حافلة أو زورق ذات يوم.. ربما !.

لكني لحد الآن لم أعثر عليه.

 

قصة قصيرة  

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2004 الثلاثاء 17 / 01 / 2012)

 

 

في نصوص اليوم