نصوص أدبية
سوق الدير (2)
وتحمل في نفحاتها شذا الزهور المنبعث من بساتين البرتقال المنتشرة على جانبي الطريق، صياح ديك أرهبه الصمت المطبق على الكائنات من حوله، فراح يؤذن في الناس بأن فجرا جديدا قد أتى .
عند منتصف الطريق سألني أبي إن كنت أشعر بالتعب من حمل الصرة التي تحوي أغراضنا، فأجبته بالنفي، لكنه عاد وكرر السؤال بعد لحظات قليلة وحين لمس ثباتي على الإجابة الأولى، واصل السير إلى جواري بصمت، إلى أن بدت لنا ملامح المحطة من بعيد كوحش يربض في وسط الظلام، فهمس بتوجس قائلا: يا خوفي ليكون القطار فاتنا .
لكن خوفه تبدد لحظة وصولنا إلى المكان، إذ وجدناه مشغولا بعدد من الناس الذين جاءوا لنفس الغاية من قرى ومضارب قريبة، تلفت أبي في الوجوه لعله يعرف بعضها، ثم أخذني إلى ركن منزو وهمس قائلا: افتح الصرة لنأكل لقمة بدل من عج السجاير اللي حرقت قلبي ع الريق .
من وسط الصرة الكبيرة التي تحتوي على ملابسنا وأغراضنا، أخرجت صرة أصغر وجدت بداخلها رزمة فطير وكوم من البيض المسلوق بالإضافة إلى قطع من الجبن وفحول بصل مختلفة الأحجام، فصفر أبي لرؤيتها مبديا استهجانه ودهشته، ثم قال معلقا: بنت المجنونة ما خلت في الدار حاجة وكأنا رايحين ع صحراء .
ناولته فطيرة وبيضتين وكذلك كانت حصتي، ثم أعدت الصرة إلى مكانها، عندها علا صفير القطار آتيا من بعيد، فبدا التحفز على الوجوه من حولنا، ثم شرع الناس بلملمة أغراضهم وكذلك فعلنا .
كانت المرة الأولى في حياتي التي تطأ فيها قدماي هذا الوحش الممدد أمامي كثعبان طويل، سمعت صفيره قبل هذه المرة، كان يصل إلى مسامعنا في المراعي البعيدة وفي أحيان متفرقة أرى عامود الدخان المنبعث من رأسه كذيل حيوان خرافي يرتد إلى الوراء بفعل الريح، ثم يصبح سحابة صغيرة تتشظى في لحظات مفسحة المجال لإحلال أخرى مكانها، عالم أسمع به وأراه لكني أجهله .. أهابه، أكتفي بسماع تجارب الآخرين ممن حالفهم الحظ أو شاءت ظروفهم بصعوده كما هو الحال معي الآن، سمعت بعضهم يدعي بأنه أسرع من الحمار ومن الحصان وحتى الشاحنة التي تقلنا إلى المدينة وعجبت لقولهم هذا بعد أن استعصى علي تصديق زعمهم الذي يزعمون أمام ضخامة هذا الوحش الذي يربض أمامي بثقل واسترخاء .
دلفت إلى داخل العربة بتوجس وخوف، كما لو كنت ذاهبا إلى المجهول .. تحسست طريقي على بصيص أضواء خافته تشع من سطح العربة وجلست حيث أشار أبي، ثم رحت أتأمل المصابيح بذهول وحيرة مردها عجزي عن الاهتداء إلى سر النور المنبعث منها من دون أن أرى له لهيبا أو دخانا .
صحوت من شرودي هذا على صوت أبي وهو يهب مرحبا بإدريس الصافي ويدعوه إلى الجلوس بقربنا، رجل في الأربعين من عمره، متوسط القامة ويميل إلى السمنة بعض الشيء، مليح المظهر بشوش الوجه، صافحني الرجل أيضا وجلس في المقعد المقابل، بدأ بالسؤال عن الحال والأحوال، ثم عن سبب سفري، فأخبره أبي بحاجته إلي في العمل، عندها أشار عليه الرجل بأن يسمح لي بالعمل في دكان قريب منه، خصوصا أن لدي تجربة في هذا المجال، فوعده أبي بالنظر في الأمر ولكن بعد وصولنا إلى يافا، ليرى إن كان في مقدوره الاستغناء عني أم لا، عندها استأذننا الرجل في غفوة غط على إثرها في نوم عميق وما أن تحركت عجلات القطار حتى علا شخيره متناغما مع صفير القطار وإيقاع محركه المنتظم .
هذه هربيا . قال أبي وأشار إلى الناحية الغربية، ثم بعدها بقليل أشار إلى الشرق وقال: هذه الجية ثم إلى الغرب مرة أخرى: المجدل ..وهكذا دواليك القسطينة .. ازدود .. يبنا .. عيون قارة إلى أن بدأت تلوح لنا بعض المباني من بعيد، حينها قال: جهز نفسك وصلنا .
لحظات توقف بعدها القطار .. نزلنا من العربة .. تبعنا البعض والبعض الأخر بقي في مكانه، ودعنا إدريس على أمل اللقاء، ثم راح يشق طريقه إلى وسط المدينة، بينما انشغل أبي بالبحث عن عربة تقلنا إلى أطرافها وأنا مشدود بالزحام الذي يلفنا والحركة التي تموج من حولنا، باعة ينادون وعربات تغدو وتروح .. شرطة على ظهور الخيل وآخرون يتوزعون هنا وهناك .. محلات تضج بالحياة .. رجال يعتمرون القبعات واللباس الإفرنجي وآخرون يعتمرون الكوفية واللباس العربي .
صوت أبي يناديني من بعيد، تنبهت بعد أن تكرر النداء لأكثر من مرة، أسرعت ملبيا وحين وصلته صاح بي مغتاظا: أطرش مش سامعني ! . .
صعدنا إلى شاحنة كتلك التي كانت تقلنا في البلدة، راحت تشق طريقها نحو طرف المدينة من الناحية الشرقية وحين سألت أبي عن وجهتها رد قائلا: قريب من يزور .
بعد لحظات أصبحت المدينة من خلفنا، بينما العربة تشق طريقها كسلحفاة هرمة، لدرجة أن بعض الركاب تغامزوا متسائلين إن كان في مقدورها إتمام الرحلة أم لا، عندها علا صوت أبي مجلجلا: عندك .
خفت ضجيج محركها الذي كان يصم الآذان، ثم راحت تتهادى ببطء شديد إلى أن توقفت بجانب الطريق، قفز أبي من على ظهرها أولا، فناولته الصرة وتبعته، حينها صاح أحد المسافرين على السائق قائلا: يله روح .، فكادت أن تروح أرواحنا وأبصارنا بفعل غمامة سوداء انبعثت من مؤخرة الشاحنة لحظة انطلاقها ولفتنا كليل أدغم .
تريثنا إلى أن انكشفت الغمة، ثم رحنا نتابع سيرنا بحذر شديد وسط خطين حفرتهما عجلات الشاحنات التي تمر في الطريق الطينية التي نسير في وسطها .
كانت السماء ترسل بأول الغيث وفي الأفق بوادر خير آت، فتزداد الطريق وحولة ووعورة، لدرجة أن حذرني أبي أكثر من مرة، مشددا على أخذ الحيطة حتى لا أنزلق مع الصرة في الأوحال .
حين وصلنا إلى الباب الكبير وجدناه مغلقا، تمتم أبي بصوت خافت: الظاهر ما في قص اليوم .، ثم ضربه عدة ضربات قوية، فجاء الصوت من الداخل مستفسرا: من؟ .
- أبو حسين يا سالم .
- هلا .. هلا بالطيب الغالي .
جاء ترحيب الرجل يسبق خطاه وحين فتح الباب، أقبل على أبي بالعناق كأنه واحد من أقرب الناس إليه، لم يكن الأمر مثار دهشة لي، فلقد تعودت مثل هذه الأمور مع أبي وإن كنت قد عييت من قبل في البحث عن سر هذا القبول الذي يلقاه من معارفه وأحسده عليه،
كان الرجل في الخمسين من عمره، قريبا من عمر أبي، لكنه اقصر منه بقليل وأنحف بعض الشيء، يميل إلى السمرة وخفة الظل أيضا، بل كان أجرأ من أبي في هذا الجانب تحديدا، إذ لم يكد يسير إلى جواري حتى سألني بشيء من الخبث والدعابة قائلا: ولد يا حسين، مين أسبع أنت ولا أبوك؟ .
بدا الإرباك واضحا على وجهي ولم أدر بم أرد على هذا الرجل الذي رأيته للتو، لكن تدخل أبي العاجل أنقذ الموقف: شبل من ظهر أسد .، قال أبي متباهيا .
- وأنت؟ .، وجه الرجل سؤاله إلى أبي، فرد بشيء من التوجس قائلا: ربنا يستر .
- بعدها ما ولدت؟ .
- ربنا يجيب اللي فيه الخير . رد أبي معقبا .
تابعنا سيرنا بين أشجار البرتقال المنداة حباتها بقطر الندى و خيوط الشمس المتسللة من بين الأغصان والسحب التي تسعى جاهدة لحجبها، فتضفي عليها بريقا يحيلها إلى كرات ذهبية تسر الناظرين، اقتربنا من المبنى الجاثم في آخر الطريق، كان يشبه في شكله وهندسة بنيانه قصرا من القصور العريقة ولكن على نحو أصغر، التفت إلي أبي وهمس قائلا: مصيف الأفندي صاحب البيارة .، ثم عرجنا في طريق تمر من أمامه وتنتهي بحوش كبير، تتربع في جوانبه غرف طينية، كتلك التي نقطنها في القرية، دلفنا إلى داخله، فأشار الرجل إلى غرفة مستطيلة هي الأكبر من بين الثلاث الأخريات وقال: هذا بيت البابور وهذه حظيرة الغنم وهذا المخزن اللي يبيت فيه والدك .
وضعنا أشياءنا في المكان الذي بدا مكتظا بالصناديق والبراميل الممتلئة والفارغة، أغراض هنا وأخرى هناك، الأمر الذي حدا بالرجل لأن يتوجه إلي قائلا: يله حرك حالك ورتب مكان تبيت فيه .، ثم التفت إلى أبي واستأذنه بالمغادرة لبعض الوقت، حينها سأله ألا يكلف نفسه، فتبسم الرجل ومضى من دون تعليق .
_ أكيد راح يكلف نفسه .، قال أبي موجها الحديث إلي إثر مغادرة الرجل.
- بيته قريب من هان؟.، سألته مستفسرا .
- في سلمى .. بعيد عن هان مثل دارنا والمحطة .
- ببدو أنه رجل طيب؟ .
- رجل ولا كل الرجال .
بعيد الظهر بقليل كنا قد هيأنا المكان على أفضل وجه، فجاءنا صوت الرجل يسبق خطاه، رد أبي وخرج ملبيا،وأنا سرت في أثره إلى حيث قادنا الرجل .
كانت الدالية التي افترش حصيرا تحتها بباب القصر، تظلل بأوراقها اليانعة مدخله وتضفي على صمته لحنا عذبا تعزفه أسراب الحساسين المغردة فوق الأوراق وحولها،
نادى الرجل على زوجنه، فخرجت من داخل الغرفة تحمل طبقا من البوص يتربع على صحنه وعاء نحاسي كبير، بداخله ذكر بط مشوي، ظهره يفترش طبقة من الثريد وقدماه مرفوعتان إلى السماء،وضعته أمامنا، فابتسم الرجل في وجهها وقال مشيرا إلى أبي: أخوي أبو حسين وهذا حسين أبنه .
- أهلا وسهلا يا عمي .، قالتها على استحياء ثم عادت من حيث أتت .
كانت في الأربعين من عمرها، في مثل عمر أمي تقريبا، لكنها لم تكن بجمالها وإن كانت أشرع منها قليلا، تلفت الرجل نحونا وهمس قائلا: تفضلوا على ما قسم .
- قسم الغالي .. كلفت نفسك يا خوي يا سالم . عقب أبي قائلا .
- يا رجل .. القصة وما فيها ذكر بط مش جمل .
- والله كأنه جمل وزيادة .
- واجبك كبير يا أبو حسين .
- ربنا يزيدك من نعيمه .
قبيل الغروب بقليل توجهت برفقة أبي لإطعام الأغنام الموجودة في الحظيرة، كانت في معظمها شامية ضخمة على عكس تلك التي نربيها في المبروكة، أذكر كم تمنت أمي لو أن لها واحدة مثلها، خصوصا بعدما رأتها في دار المختار يوم أن ذهبنا لخطبة زوجتي، منذ ذلك التاريخ وهي تلح على أبي بأن يقتني واحدة مثلها وفي كل مرة يعدها خيرا، إلى أن فاض به الأمر ذات مرة، فصاح بها غاضبا: فكينا من هالسيرة عاد .. هذا اللي ناقص أشتري معزة بحق مرة .
لا أدري كيف خطر ببالي لو أن هذه الأغنام كانت لنا، هل ستفرح أمي حينها؟، أم هي نزوة ستزول تحت وطأة الإعياء والتعب من كثرة ما تعوز من رعاية واهتمام؟، غير أن حلمي تلاشى تحت وقع الرقم المفترض لثمنها، مما جعلني استعيض عن ذلك بالاكتفاء بواحدة منها، ربما أقايض عليها بالأجر الذي سأتقاضاه في آخر الشهر، حينها سأحقق أمنية أمي التي عجز أبي عن تحقيقها، أو لم يكلف نفسه عناء النظر فيها .
ولكن ماذا لو رفض أبي الفكرة من أصلها؟ .، فهل ستبقى أمانيها أحلاما مستعصية؟ .
مع حلول الظلام كنا قد أنجزنا المهمة التي كلفنا بها، لملم أبي بعض العيدان ووضعها في الكانون المتربع عند مدخل المخزن الذي نبيت فيه، ثم أخرج ولاعته وأوقد تحتها، تصاعدت ألسنة اللهب وأضاءت المكان من حولنا، فبدونا على ظللها كوحشين يجوسان الصمت .
أمرني أن أحضر صرة الطعام وأمسك بإبريق الشاي ليملأه من الحوض القريب، فتهادى إلى سمعي صوت طلقات بعيدة، أرهفت حينها مستهجنا وقد تركنا المبروكة من خلفنا، فلاحظ أبي ذلك واختصر علي الطريق قائلا: ما تستغرب بين الحين والحين راح تسمع وتشوف .
- لكن ما في كوبانيات في المنطقة؟. قلت متعجبا .
- لا يا بني .. الكوبانيات في كل مكان وقاعدة تنبت مثل الفطر .
مع انتصاف الليل هبت نسائم باردة، فأدخل أبي الكانون إلى مكان قريب من مخادعنا ودس نفسه في الفراش غير عابئ بشيء، حدوت حدوه من دون أن يغمض لي جفن، جاءت المبروكة بأهلها لتكمل السهرة معي، كان أول الحاضرين ولدي الذي لم تنطبع صورته في مخيلتي بعد وزوجتي التي يطل من عينيها ألف سؤال: من شان هذا تركتنا؟ .
كانت كلماتها تقطر حسرة وألما، ثم أمي التي بدت ملهوفة قلقة .. تتحسسني من كل جانب .. تضمني إليها .. تؤنب أبي الذي حرمني من رؤية ابني وجلبني إلى هنا .. لم تمهلني لكي أسألها عن حالها وقد ألجمتها الدموع، فتعاودني نفس الصورة التي كانت عليها يوم أن ربطني أبي في بيت الحمار، أحاول الهروب منها وقد بت إربا ممزقة، فتشدني إليها من جديد وكلما حاولت التملص من أمامها لا أرى غيرها، تلاحقني في كل مكان، حتى جاء صوت أبي من بعيد مجلجلا: اتركي الولد يا حرمة ليشوف عيشه .
صحوت على صوته وهو يحاول إيقاظي، بادرته بالتحية فرد متذمرا: كل هذا نوم !. . كأنك ما نمت من سنة .
- تعبان . قلتها بإعياء واضح .
- الشاب إذا قال تعبان كذبه، أما إذا قال جوعان صدقه، بعدين يا بني أكل العيش مر .
- شايف حياتنا كلها مرة .
- ربنا يعدل الحال .. يله يا بني حاكم البيارة صبحت تطبل وتزمر بالناس .
جلبة في كل مكان، رجال ونساء بين الأشجار وحولها وآخرون افترشوا الأرض على شكل حلقة كبيرة يجلب إليها البرتقال في سلال تحملها النساء والرجال على حد سواء، ثم يصلب أمامهم متخذا شكل هرم صغير، فتلتقطه الأيادي وتلفه بأوراق شفافة كأنها تداري بريقه الذي يخطف الأبصار، ثم يوضع في صناديق يرفعها الحمالون على ظهور الشاحنات المتوقفة بقربهم وحين تكتمل الحمولة تهدر المحركات إيذانا بالرحيل وسط دعاوى الحاضرين وزغاريدهم، سألت أبي عن وجهتها، فقال إلى الميناء ومن هناك إلى الخارج .
بين الفينة والأخرى يصدح صوت بالعتابا من تحت الأشجار أو بقربها، فتردد البقية من خلفه متبوعين بالزغاريد وكأننا في عرس كبير أنساني المبروكة وما أصابني بالأمس منها، ومع ساعات الظهيرة تحلق الكل في مجموعات صغيرة، افترشوا العشب الأخضر وفردوا صررهم توطئة لتناول الغداء .
تكرر المشهد على مدى الأيام التالية .. استمر أسبوعا بأكمله، ثم انتهى كحلم جميل، لدرجة أن الفراغ الذي تركوه من خلفهم بدا واضحا علينا جميعا، حتى لحظة أن استأذن أبي بالعودة إلى المبروكة كعادته في نهاية كل أسبوع، سأله سالم إن كان سيأخذني معه وحين أعلنت عن رغبتي في ذلك، أطرق الرجل قليلا ثم رجانا بألا نزيد في الغياب عن يومين، بعدها ناول أبي مبلغا من المال بدا كبيرا بعض الشيء وابتسم قائلا: الراتب والنقوط مقدما .
لحظة وصلنا إلى موقف الحافلات في يافا، كانت الحافلة الآتية من غزة تتهيأ لأخذ مكانها فيه، تتبع أبي الوجوه التي تغادرها و همس قائلا: ما فيهم حد من المبروكة .، ثم التفت إلي وأمرني بأن أتبعه إلى سوق الدير القريب من المكان، وحين سألته عن هذا التعديل المفاجئ علل ذلك برغبته في شراء بعض الحاجيات للأسرة، خصوصا أن الحافلة لن تغادر قبل مضي بعض الوقت، أو بالأحرى قبل أن تمتلئ بالركاب .
كان السوق عامرا بالنعم من كل صنف .. بالضجيج .. بالحياة، بضائع مكدسة في كل مكان .. في المحال وعلى أبوابها، بعضها أعرفه وجلها لم أشاهده من قبل .. روائح تفوح من كل جانب، فتنعش النفوس بعبقها الزكي، شوارع وأزقة تضج بالنشوة والحياة .. بصوت الباعة الممزوج بعبق الأمكنة الضاربة في عمق التاريخ، بحركة العربات التي تجرها الخيل والناس أحيانا .. بالفتية الذين يطوفون بسلالهم في كل مكان، حسبتهم في البداية متسوقين جاءوا فرادى أو برفقة آبائهم، لكن أبي صحح ذلك اللبس حين أخبرني بأنهم مجرد فتية يعيشون من وراء هذا العمل، يصحبون الرجال خلال تسوقهم، ومن ثم يحملون حاجياتهم ويوصلونها إلى البيوت، خصوصا أن الناس هنا لا يسمحون للنساء بالنزول إلى الأسواق إلا فيما ندر، التفت حولي لأرى حقيقة ما يدعي، فلم أشاهد سوى بعض القرويات الآتيات من خارج المدينة، يبعن ما جلبن من القرية ويشترين ما ينقص فيها .
جلسنا في مقهى الانشراح لنلتقط أنفاسنا ومن حولنا الأشياء التي قمنا بشرائها، بعضها للأكل وأخرى للملبس، فجاءنا شاب في مثل سني وسألنا عن المشروب الذي نريد .
شاي .، رد أبي من دون تريث أو حتى سؤالي عما أريد، لعله وجدني مبهورا بما يدور من حولي، فلم يرد إفساد الأمر علي وأنا لا شيء يعنيني غير هذا الذي يجري بكل صخب وحياة، حتى لحظة أن جاء الشاب حاملا طلباتنا لم انتبه إليه، كنت مأخوذا بالمباني المطلة بأدوارها المتعددة والنقوش المزخرفة على واجهاتها، ثم شدني صوت بالغناء العذب انطلق من ركن في المقهى، رحت أبحث عن صاحبه، فلم أر سوى صندوق تنبعث منه الألحان الشجية، حاولت أن أسأل أبي عن سر ذلك الصندوق لكني آثرت الصمت، فباغتني صوته وهو يحثني على الإسراع في ارتشاف الكوب حتى لا تفوتنا الحافلة .
كنا آخر من صعد على ظهرها وبالكاد وجدنا مكانا نجلس فيه، وضعنا الحاجيات التي نحملها على رف فوق رؤوسنا ورحنا في صمت بدده الجالس إلى جوار أبي حين سأله مستفسرا: كأني شفتك من قبل؟ .
- يخلق من الشبه أربعين .
- أنا أبو صالح الديري .، قال الرجل معرفا بنفسه .
- أهلا وسهلا .. أبو حسين نصار من المبروكة .
- يا هلا .. يا هلا، طلعت خال أولادنا .
- يشرفنا يا سيدي .، رد أبي بذهول واستغراب .
- يسرا يا رجل .. بنت إبراهيم الأعرج .
- آه .. اللي تزوجها ..
- محمود الديري .. ابن عمتي .. ما شاء الله أولادها صاروا رجال .
صمت أبي لبعض الوقت، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة، قال على إثرها للرجل: نفسي أسألك سؤال لكني محرج منك .
- اسأل وخذ راحتك .. إحنا أهل يا شيخ .، رد الرجل بحماس بالغ .
- أولاد يسرا طلعوا سباع مثل سيدهم الأعرج ولا مثل سيدهم أبو محمود؟.
أدركت حينها أن أبي يستخف بالرجل ويستدرجه بخبث تمرسه نحو شباك سخريته المنصوبة بكل سهولة ويسر، خصوصا أن إبراهيم الأعرج الذي يعتز بنسبه ويباهي به لا يساوى شيئا في المبروكة، بل تعده بشيبها وشبابها في زمر الرزايا والتفه من الرجال، فلا زالت تذكر له يوم أن هرع الناس إلى داره فزعين، إثر صراخ انبعث منها لحظة إيقاد الطابون ودخان جعلهم يشكون باندلاع حريق في الدار، فكانت المفاجئة التي خرجوا على إثرها يتضاحكون، إذ وجدوا الأعرج مطروحا على ظهره يصيح ويستغيث بأعلى صوته وزوجته جاثمة فوق صدره، تشد شعره بيد وبالأخرى تحشو في فمه التراب، لم ينقذه يومها من ذلك الموقف سوى غضبة المبروك له، إذ لم يعجبه انكفاء أهل القرية عنه ولا صنيع المرأة المستفز، ارتد إلى الدار غاضبا .. اندفع يزأر كأسد كاسر وما أن وصل الباب حتى ركله وصاح بملء فيه: قومي يا فاجرة .. يا بنت أبو اللقم .، ثم هوى عليها بعصاه، فأسرعت بالهروب إلى إحدى الغرف وردت الباب خلفها.
- ربنا يعطيك مثلهم، والله ما في أسبع منهم في كل حينا .،أجاب الرجل قائلا .
- ربنا لا يوفقك ولا يسمع منك . همس أبي معقبا .
- ها؟ . رد الرجل مستوضحا .
- لا .. لكن قل لي .
- تفضل .
- صحيحة القصة اللي حكاها الأعرج على لسان صهره ولا زود فيها وساق، سأله أبي باستخفاف جاهد لإخفائه عن نظر الرجل .
- تقصد قصة الفول؟ .
- هو الفول بعينه . رد أبي ضاحكا .
- صحيحة . رد الرجل رد الواثق من كلامه، ثم راح يستعيد القصة بترو لا يخلو من فخر واعتداد، بل زاد عليها بأن جعل من نفسه شريكا وشاهدا على ما حدث .
- شوف يا سيدي .، ثم راح يروي الحكاية بأدق تفاصيلها والوجوه من حولنا تتابع ما يرد على لسانه بذهول واستغراب وحين تمادى الرجل في تخريفه خرجت بعض الضحكات التي عجز البعض عن كبتها، فتوقف الرجل عن الحديث مستهجنا ما بدر عنهم، حينها اضطر أبي إلى التدخل وحث الرجل على المواصلة، من دون الالتفات إلى هؤلاء الذين لا يعرفون للناس مقاما، ثم غمز بعينه للبقية فوصلت الرسالة من دون أن يلاحظ الرجل فعلته .
انساق في سرد الحكاية، فقاطعه أحد الجالسين بقربنا وأصر بأن يعيدها من البداية بدعوى أنه لم ينصت لها جيدا .
- حاضر يا سيدي . قال الرجل، ثم عاد للحديث من أوله، بدءا باللحظة التي خرجا فيها من سوق الدير قاصدين موقف الحافلات، إلى لحظة وصولهم إليه حيث وجداه خاليا من أي مظهر للحياة،فأشار حينها على أبي محمود بأن يؤجل السفر إلى اليوم التالي، لكنه رفض بدعوى التزامات تخصه، فصمت حينها ولم يمانع، ثم راح يصف حالة اليأس التي بدأت في التسرب إليهم أثناء بحثهم عن وسيلة تقلهم إلى غايتهم وكيف أن الله قد تداركهم برحمته في اللحظة التي كادا فيها أن يفقدا الأمل، فبينما كانا سائرين في الطريق الواصل من يافا إلى غزة وإذ بشاحنة تسير في نفس الاتجاه،عندها انطلق أبو محمود كالسهم وتعرض لها في منتصف الطريق، صاح السائق وعربد لكن أبا محمود لم يبال وبطريقته أقنع السائق بأن يقلهما معه، فما كان من الأخير سوى النزول عند رغبته ولكنه اشترط بأن يجلسا في الصندوق الخلفي، فاستهجنا شرطه العجيب خصوصا أن جواره كان خاليا من أي شخص .
- يمكن خايف نوكله .،همس أبو محمود بغيظ .
ثم تابع قائلا: صعدنا إلى الصندوق وبصعوبة كبيرة وجدنا مكانا فيه، جلسنا صامتين لبعض الوقت وقد زال عنا هم كبير، بعد قليل تحسس أبو محمود واحدا من الأكياس المرصوصة بجوارنا وتساءل قائلا: قولك يا أحمد شو فيها.
- حبوب .
- صحيح .. هذا فول حب . وأخرج حبات بين أصابعه راح يتأملها بتمعن وصمت، ثم قال: أرفع هذا الكيس وهذا .. خلينا نوسع المكان .
فعلت ما أمر وبداخلي ألف سؤال آثرت ألا أجهد نفسي بالبحث عن إجابات لها و رحت أراقب صنيعه الذي لم أفهمه، بل أقسم أمامكم بأني شعرت بالخوف، خصوصا حين فتح كفيه وتمتم فيهما بصوت خافت، ثم تفل فيهما وفركهما بحيوية ونشاط يفوقان عمره والحالة التي كان عليها، بعدها نظر إلى الرصة المجاورة نظرة تحد وجذب كيسا منها كما يجذب أحدكم رغيف الخبز من الطبق ويضعه أمامه .. سل خيطه كما تسل الشعرة من العجين وأفرغه بيننا، قبض حفنة منه وراح يجرشها بين كفيه كما نجرش حبات الفريكة، فتخرج فلقا ناصعة البياض، يفتح كفه فيطير القشر .. يبتسم بتباهى مرعب، ثم يلقي الحب داخل الكيس .
أجهدني التعب وأنا أجذب كيسا وأرفع آخر، إلى أن جرش الحمولة كلها، عندها نظرت إليه والخوف يملؤني، فابتسم في وجهي وقال: ساق الله على أيام الشباب .. كنت أجر العجل من قرونه، أذبحه وأطبخه قبل ما أمي تخلص خبز الصاج .
لحظة وصولنا إلى ميدان الشجاعية توقفت الشاحنة وصاح السائق يطالبنا بالنزول، عندها احتد أبو محمود وصاح فيه مزبدا: كيف أنزل وبضاعتي معك؟ .
بدا الذهول على السائق وكأنه لا يصدق ما سمعت أذناه: بضاعتك !.، سأله السائق مستهجنا .
- بضاعتي ولا عندك كلام ثاني .
- يا حرامي .. يا ابن الكلب .
تدافع الناس للفض بينهما .. جاءت الشرطة على إثر الجمهرة التي حدثت في المكان، فاندفع السائق مستنجدا بالضابط: في عرضك يا أفندي .. هذا الضلالي حنيت عليه وجبته من يافا ولما وصل، صارت البضاعة بضاعته .
- كذاب يا أفندي أنا استأجرته ولما وصلنا طمع في البضاعة .
- أنت أيش حمولتك؟ . سأل السائق مستوضحا .
- فول حب يا أفندي .
- وأنت؟ .
- فول مجروش يا أفندي .
صعد الضابط على ظهر الشاحنة .. دس يده في كيس وأخرج حفنة منه، ثم في ثان وثالث، نزل بعدها وأمر بحبس السائق، حينها صاح أبو محمود مستغيثا: وبضاعتي .
- راح نرسل معك شرطي يقودها لوين ما بدك .
ضج الحاضرين بالضحك، البعض شكك في الرواية والبعض كذبها تماما من دون حياء أو وجل، لكن تدخل أبي قلب الأمور رأسا على عقب: وحدوا الله يا جماعة .. كل اللي حكاه صحيح .
أطبق الصمت مقرونا بنظرات ملؤها الشك والريبة، عيون تحاصر أبي من كل جانب ووجوه بدا التبرم واضحا على بعضها، فبقيت الوحيد من بينهم الذي لم ينطل عليه الأمر، فمعرفتي بأبي جعلتني متيقنا من أن وراء الأكمة ما ورائها .
- صلوا ع النبي يا جماعة .، قال أبي شادا الآذان إليه .
- اللهم صلي ع النبي .
- أنا فاكر يوم ما جاب الشاحنة ع المبروكة ونزل الحمولة في دار نسيبه الأعرج، صدقوني يا جماعة شهر كامل والمبروكة توكل بصارة وتطعم كمب الإنجليز .
ابتسم البعض وانكفأ البعض مداريا ضحكات لم يقو على كبتها، بينما الرجل ينظر إلى أبي بذهول أنساه ما يدور من حوله، فهو لا يصدق ما رواه أبي ولا يقدر على نفيه كونه يؤيد روايته، خازوق أجلسه عليه منقادا وحين استشعر حدته، حاول التملص فاستحكم فيه أكثر .
- حرام عليك يا رجل صغرها شوي.. هم الإنجليز بيعرفوا البصارة؟ . تساءل الرجل مستهجنا .
- حرمت عليك عيشتك يا نصاب يا ضلالي .. ولك هذه أصغر ألف مرة من طاحونة عمك الدجال ونسيبه الهامل .
دوت الحافلة بالضحك وغرق الرجل في عرق أجهده من دون أن يجرؤ على النظر في الوجوه التي تحاصره، لم ينقذه من الورطة التي انزلق في براثينها سوى صوت السائق حين صدح معلنا انتهاء الرحلة .
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1186 الجمعة 02/10/2009)