نصوص أدبية

الزيـــــــــارة / حميد الحريزي

(سعيده) نهضت مرتجفة، وهي لم تزل تعيش حلم زفتها وكأنها تشم رائحة العطر والبخور والحناء والدخان وصرير الرياح، فوقعت عيناها على مرآتها المعلقة في (هطار) * الكوخ الذي تنام فيه فقالت منبهرة بصورتها وجمالها- أنعمت عينچ هاحلاتچ وأنتي جاعده من نومتچ مرعوبة چاشلون لو طلعتي من الحمام وصرتي عروس- آه ربي وصدگ هچي ويصير ناطور من نصيبي وآنه أصير أبيت ناطور وهي تتحسر ناظرة لديكها الأبيض الذي كان يسميه (ناطور) بگبن (سعّيده) وهو يعتلي الجرداغ ولكنه لم يطلق العنان لصوته كعادته كل يوم معلنا فجر يوم جديد من الهم والترقب والجهد المضني والنظرة الدونية ل(سعيّده) وعيشها في كنف والدها وامرأة أبيها وهي تسعى جاهدة لإقناعه لتزويجها من (حاشوش) السر كال ومسوؤل الحزب والذي يشاع انه كان عشيقها قبل زواجها من (سرحان) وقد ضمها حاشوش للحزب(القايد)  وحصل لها على أمر تعيين في مقر الفرقة الحزبية لتكون معه حيثما يشاء وهناك لغط كبير في القرية حول طبيعة علاقة (حاشوش) بيت(سرحان) وزوجته (مريوده الخفيفة) كما يسميها أهل القرية، التي كانت دائما تتهم (سعيده) بحب (ناطور) الشوعي،ورفضت الانضمام الى (اتحاد النساء).

أكدت (سعيّده) نذرها (للديك الأبيض) وهو ملكيتها الوحيدة ل (سيد يوشع) لو حقق لها مرادها بالتخلص من (حاشوش) وتحقيق حلمها بالزواج من حبيبها (ناطور).

 سمعت (مريوده) همهمات  (سعيده) فقالت لها:-

ولچ يمهبوله تريدين من سيد يوشع يزوجچ للشوعي الحّمر (ناطور) امچان ديچچ المعَظّم!!! .

تدرين (حاشوش) نذر له خروف إلا صرتي من نصيبه وكرفت الحرب (ناطور) وربعه الشوعيه.

برد حيلچ...برد حيلچ والبين هطرچ أنتي وحاشوش الوصخ، وكون (ناطور) أو ربعه رواياهم حمر، العباس أبو رأس الحار رايته حمره وبيرغ عشيرتنه أحمر والسيد ينصر بيارغ أهله مو بيارغ الظلام وربعهم أعله مود طلي ماخذه حاشوش الوصخ رشوه من الوادم الفقره حتى لا يلبسون جيش شعبي.

اللهم سترك يارب، صباح الخير والستر ولعافية بچاه سيد يوشع والله بعد گلبي ما يحمل ضيم وقهر يارب العالمين، رددت (سعيده) هذا القول مع نفسها بعد سماعها نعيب الغراب فوق الدار وتوجهت للشريعة، ثم قفزت بخفة داخل ( البلم ) دافعة إياه ليشق ماء الهور بعنقه منسابا بين أكمات القصب والبردي بقوة دفع (سعيده) وكأنها تفرغ بالمردي كل شحنة همومها ونار شوقها وقلقها على حبيبها (ناطور).

ألفت (سعيّده) كغيرها من بنات الهور منظر اغتسال قرص الشمس عند الفجر في مياه الهور المترامي الأطراف وتحولات ألوانه كفتاة تغسل الحناء عن شعرها متحولا من اللون الرمادي الغامق فالأحمر فالذهبي المشع كلما ارتفعت مبتعدة عن الأفق ليبلغ أوج بريقه وتألقه عند الظهيرة لتعيد في المساء خضا بها من جديد وتنام في حضن أمها الأرض محروسة بنجوم السماء وترقب القمر طوال الليل، فتعيد المشهد نفسه مع حبيبها القمر وكأنه يتبع خط سيرها آملا بلقائها لقاء عاشق ولهان يحيا ويموت لأشهر وسنوات طوال حالما باحتضان حبيبته (الشمس ) دون جدوى، ولكنه لا يعرف الكلل ولا الملل وكأنهما يقضيان حكما لآلهة السماء ولا يعرفان له نهاية دون أن يبلغ احدهما الآخر فما ان تستيقظ الشمس حتى تخطف  القمر قوة مجهولة لاتطلق سراحه إلا بعد اكتمال غيبتها ثانية عند الغسق وهكذا هو حال العشاق وصراعهم مع العواذل و(والعريضية ) ومرارة وقسوة الأعراف والتقاليد.

غالبا ما تشعر(سعيّده) بالحرج واحمرار وجنتيها وهي تراقب تودد وقبل وتناسل طيور الهور بحبور وسرور وانسجام دون خوف من حسيب أو رقيب فتغبطها على حريتها وانطلاقها لا تخشى إلا مكر وغدر الإنسان المتربص بها دوما وأينما ذهبت وهاجرت.

تشعر بالخوف والهلع حينما تستعرض قصص الشيخ(روضان) مع زوجاته " الذي يعرف عنه انه اشتهى إحداهن في رابعة النهار ووسط جمع من الأطفال والنساء والعبيد :عندما تمنعت عنه خجلا لفها في (باريه) حصيرة من القصب وأضرم بها النار لتموت حرقا أمام عيون الجميع دون ان ينبس أحدا ببنت شفه!!!!

داعب احد أطفاله فوق سطح غرفته وحينما مد الطفل يده الصغيرة بعفوية على لحية الشيخ، استشاط غضبا ورماه أرضا من عل ليفارق الحياة على الفور دون الاكتراث الي أمه وإخوانه وأخواته الصغار!!!!

إذا رفع احدهم في الديوان نظره على نظر الشيخ او علا صوته او تكلم بدون إذنه كان يعاقب بان يتبول عليه العبيد أمام أنظار الناس ليكون عبرة لمن اعتبر والويل لمن يعترض...."

إنها أفلام رعب لا يمكن تصورها في الخيال كان يمارسها شيوخ وإقطاع المنطقة ضد الناس وخصوصا النساء.....

تنفث سعيده حسرات وآهات أحر من الجمر وكأنها تخاطب مجهولا:-

- يارب العالمين ماتگلي احنه شمسوين... شنهو هذا القدر الينكتب علينه .. ماصدگنه خلصنه من خيزرانة الشيخ، لگفتنه خيزرانة (الزيتوني).. من يد ظالم ليد اظلم... والله هل العيشه ماتنراد... ونوب ايگلك لاتصير شوعي

يعتصر صدرها الحزن والألم وتتألم (سعيده) كثيرا وهي تصادف زوارق الصيادين،عائدة من الهور قاصدة المدينة لتسويق صيدهم من الطيور،متدلية الرقاب الذبيحة مرصوفة على جانبي الزورق مخلفة خيوط حمراء من الدماء التي تقطر من رقابها في مياه الهور الجارية،تتساءل (سعيّده) كيف يمكن إن يكون قلب الصياد قاسيا إلى درجة قطع رقاب هذه الطيور الملونة الجميلة لتكون طعاما له أو مصدرا من مصادر مال يحصل عليه من بيعها في السوق ولم يكتفي ببيع  السمك والقيمر واللبن والزبد والـ(خريط ) والقصب والبردي وغير ذلك بما تجود به جنات (عدن) في اهوار العراق منذ آلاف السنين.

كانت (سعيّده) ترافق فضيلة شقيقة(ناطور) عندما تذهب لجلب الحشيش من الهور فانعطفت بزورقها صوب دارهم.

فضيلة..فضيله خايبه فضيله ..

نادتها وهي في البلم الذي ركنته في باب دارهم..فخرجت لها فضيلة ممسكة بمردي زورقها وبعد إن صبحتها بالخير وقبلتها كعادتها. أرخت حبل زورقها ثم دفعتا زورقيهما لينسلا داخل الهور.

- فضليه ماچه خبر من (ناطور) قالت(سعيّده).

-إي يخيّه كَبل يومين أچه ابن حواس من يمه ويكَول (ناطور) وچبته وراي ويچي مجاز انشالله.

- انشالله خيه انشالله يچي سالم بچاه كلمن عنده چاه عدالله هسا احنه شنه بهل الحرب ألسواها هذا المچنون ويه إيران وخلاه انچلبت عليّنه

- إي يخّيه قالت فضيلة :-الله يساعد كلبچ هاي نار العشچ فوك نار الحرب  نار اضرب من نار،ضحكا سوية ودفعتا زورقيهما متجاورين يسابق احدهما الثاني نحو الأمام كثعابين الماء.

-ولچ خيه هذا المنعول والدين (حاشوش) باليني بلوه اهو ورفيجته (مريوده) وتدرين أبوي مسلم لحيته بيد مرته ومرته مسلمه نفسه لحاشوش، ألحطه يمه (فراشه) بمقر الحزب ويريد يطبكَنه سوه انه ومرة أبوي حتى أنصير بخدمته وخدمة (الرفاق)؟؟!!

ومدري شلون بيه ولچ منين أچيب(ناطور)  ويكسر رچل هل المنعول والدين الصفاله الجو وكَام يلعب بالقرية لعب، بعد ماكتلوا سيد عبد العباس وحبسوا ربعه ودوهم للحرب والموت.

-الله اگلج فضيلة هو( ناطور) ليش ماشرد ويه ربعه الراحوا للشمال وللسوفيت ومدري وين بعد وخلصوا بچلودهم.

هذا ما قالته (سعّيده)مستفسرة من فضيلة؟؟

ولچ خيه (ناطور) وبعد جماعه من رفاكَته وعلى رأسهم سيد ( عبد العباس) وياهم واحد يسمونه (جيفارا الاهوار)،دكَوا رجل كَالوا مانفارج الهور نموت بالهور ولا نشرد ولا نطاوع الحكومة، وچنچ ماتدرين ليش مارضه ناطور يعوف الهور وتغشمين روحچ ناطور ما يكَدر يعوفچ ويعوف أهله بيد هذوله (الچلاب) ويمشي (يسعيده)،ونتي بعد تدرين شلون غدربيهم رفيجهم (سيد مشواف) وشلون نصبوا البعثيه ودليلهم النذل(مشواف) كمين (لعبد العباس) وكتلوه وهو چاي لهله ومنه ترك(ناطور ) الهور وراح سلم للجيش بعد ما انسدت عليه كل البيبان وماكَدر يوصل لربعه بالشمال الما نشدو عنه ولاعن ربعه من يوم الشردوا لليوم، ودوا اهو والمثله بأمر الحكومة كَبل للساتر الأمامي ويه إيران وحطوهم كلهم بحلگ المدفع، لزموا الباجين بهور ألعماره ومدري وين حبسوهم وره ماكَرش عليهم (حاشوش) مكسور الركَبة، وصفاله الجو وظل يتبختر بزيتونيه أو وروره بحزامه ليل ونهار مثل الچلب المچلوب.

تأوهت (فضيله) بألم وحسرة حرى وهي تذكر (سعيده) بمصاب ابن عمه (سيد وليد) الذي دفنه الحرس القومي حيا بعد انقلاب 8شبط الأسود، لم تكن الأعمال الإجرامية غريبة على مثل هذه العصابات....ولازال أبناء الاهوار يتذكرون ما حصل في الغموگه ومقتل قريبتهم (غازيه) وهي تقاوم ذئاب الهور بعد انتفاضة خالد احمد زكي ورفاقه.

(فضبله) صدگ يگولون حاشوش لفوه بالقريه؟؟

 فأجابت فضيله :-

-"حاشوش" أتى للقرية مع والده قبل أكثر من عشرين عاما من قرى الرفاعي البعيدة، نتيجة لطردهم من هناك وحكم عليهم (الفريضه) بالفصل و(الچلوه) بسبب ارتكابه مع أبيه جريمة تسليب وقتل لزوار الرفاعي، وقد احل (الفريضة) دمهم هدرا ان وطأت أقدامهم المنطقة ثانية وكذا هو الحكم على من يؤويهم او يتستر عليهم، فجاء دخيلا عند الشيخ (وردان) رحمه الله فأوكل لهم رعاية (الجاموس) في الاهوار وخدمة المضيف، مقابل إعطائهم دار سكن وحمايتهم وإطعامهم.. مع إنذارهم بالطرد او القتل ان هم أساءوا لأحد في القرية والقرى المجاورة، وهكذا استمر وضعهم، وتوفي ابو حاشوش ب(البارده) وظل حاشوش يمارس الرعي والخدمة لغاية انقلاب 1968 واستلام السلطة في العراق من قبل حزب البعث؟، فكان حاشوش أول من انتمى للحزب الذي كان اغلب الناس يتوجسون منه شرا بعد ما خبروا ظلمه في1963 فلم ينتمي إليه احد رغم كثرة المغريات.

    اخذ حاشوش يتردد على (الچبايش) والناصرية ... ثم طلب من ابن الشيخ الذي خلف والده إعفاءه من الخدمة لأنه أصبح مشغولا في المهام الحزبية، وقد كان الشيخ مسرورا بهذا الطلب انتقاما وكرها بالشيوعيين اللذين كانوا مهندسي قانون الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي على الفلاحين، فأعطاه مبلغا من المال مع رسالة الى المسؤول الحزبي في القضاء لأنه من أقاربه، وبعد ذلك نقل سكنه الى جانب المنظمة،... كان له دور كبير في التجسس على الثوار في الاهوار منذ انتفاضة هور الغموگه.. فأصبح عالي الشأن لدى الحزب وأخذ يتحكم في شؤون القرية وحتى الناحية ويرفع التقارير على الناس حق وباطل باعتبارهم أعداء للحزب والثورة.. وخصوصا الشيوعيون والقوى الدينية فأصبح مكروها يتجنبه الناس ولا يخالطونه ولا يجلسون في مجلس يرتاده.... إما قصة تزويجه (مريوده) لوالدك الإنسان الطيب فمعروفة في القرية... هذا هو حاشوش كما عرفت أخباره من والدي) .

هيمن الحزن والكمد والخوف ليربض كابوسا على صدر (سعيده) التي لم تفارقها صورته و ذكرى لقاءاتهما في ثنايا الهور، يتسامرون ويتغازلون لا يشاركهم في خلوتهم هذه سوى طيور الماء واهتزاز ذؤابات القصب والبردي، تتقافز الأسماك حول زوارقهم كمن يرقص فرحا وطربا كقلبي الشابين العاشقين، تمر أمام عيون (سعيده) صور ومشاهد وجلسات حب وغرام لا تنتهي... صوت ناطور العذب (اليوگع طير البسمه) كما يقول المثل لطراوته وحلاوته ...مولاته ابوذياته التي كانت تجعل رؤوس القصب والبردي تنحني لها إكبارا وإجلالا وطربا، وكذا حال كل من يسمع صوت (ناطور) في عمق الهور من الصيادين وأرباب وربات المشاحيف... فليس هناك من لا يعرف صوت (ناطور)... كان الكل يقطعون حركة المشاحيف ويركنون (ألمرادي) جانبا وهم ينصتون لغناء (ناطور) ابو الغيره كما يسمونه

" منهلي هله المكتوب الفاني من هلي

قريته وهل دمع عيني منهلي

يدنينه انتي الحرمتيني منهلي

وسكنت الغرب غصبن عليه)

 

كانت (سعيده) ترقب تردي حال ناطور وشروده وقلقه الدائم بعد ان رحل من رحل وسجن من سجن من رفاقه وأصدقائه، وكان يحدس شرا مستطيرا سيحل بشعبه ووطنه، وحينما تسأله (سعيده) عن سبب تطيره وتشاؤمه يجيب:-

-     حبيّبه كل التجارب التي مر بها وطنه وشعبه ما تحارب هذا (البيرغ)،الا وكانت الكوارث والمصائب تنزل كالمطر على رؤوس العراقيين.

- الكل يعرف ما حدث للعراق بعد 1948 او 1949 والتاريخ يتحدث بألم ما حصل بعد 1963 وهنا نحن نقبل على ما هو اقسي من كل ما فات .... فنذر الحرب والخراب أصبحت واضحة وطبول الحرب تصم الآذان.....

- احاه.. والله عورت گلبي يناطور... وترست خشمي بارود.. وانترس حلگي دم... ياسيد يوشع دخيلك...

- والله (يسعيده) ما أضم عليچ هذا اليتراوالي.... وكل ماشوف الوضع راح يتخربط وايصير الفوگ حدر... وماندري شلون راح تصفي...

- حبيبي (ناطور ) اشو اني ما شوف التشوفه... فأجابها ناطور

-  بصوت حزين ووجه متجهم ليس كعادته:-

- تعلمين ماذا شاهدت في المدينة عند زيارتي لها الشهر الماضي...؟؟

- فما لفت نظري هناك تكديس عشرات لابل المئات من (الفوانيس) و(اللالات) النفطيه و(الچول) و(البريمزات) و(الصوبات) في سوق المدينة..السؤال:-

- ما لذي أتى بهذه الأدوات التي شارفت على الانقراض حتى في الريف العراقي؟؟؟

- ان هناك أمر خطير يدبر في الخفاء لنا ولوطننا سيعيدنا عشرات السنين للوراء يا(سعيده) والساتر الله...

- ...ها..ها خايبه (سعيده) هاي وين رحنه وين صرنه ... خايبه أشوفچ مدري وين سرحتي مدري وين رحتي؟؟؟؟؟

- هكذا خاطبت (فضيله) (سعيده) بعد ان أحست بها قد انكفأت الي مكمن ذاكرتها كمن يستذكر ويسترجع صور بعيده..

- خيه (فضيله) مدري شبيه ... اشو گلبي لايچ وخايفه مدري من حلم أمس مدري من نعيب الغراب الميشوم مدري من صفنت الديچ اليوم الماعوعه الصبح لااول ولاتالي ................

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2013 الخميس 26 / 01 / 2012)

 

 

في نصوص اليوم