نصوص أدبية

وأمطـرَ البياضُ في الأخـير / سعيدة تاقي

كانت السماء مشرِفةً على الصفاء، يغمرها بالدفء فـتـتـشظّى الألوان خلف البنايات الشامخة.

ما كان الفيض عابراً، وما كان العطر نافذاً أيضاً.

ظل البياضُ الوحيدُ، مشرقاً وسط شقوق العتمة المنتكِسة. يرفع رأسه عالياً في سموٍّ مرهق، ثم تنحـني الوريقات في حنوٍّ لتغـفـو على اخضرارٍ متسلّق.

اعتقـلـتْـني وريقاتٌ يشاكسها اصفرارُ الحواشي. رنـتْ إليّ وكأنها تعْـلم ما خالج خاطري من امتقاعٍ لمرأى الموت يتسـلّـل ملوَّناً، إلى انثناءات أحلام ياسمينةٍ شفافة.

لو أردتُها أن تكون لي... لكانت، يجلِّـلُ البياضُ رقَّتَها المرتعشة. ويشّذِّب صفاءها بعضُ الوهن  الباهت.

لكنّي أردتُها أن تظلَّ هناك، حيث هي، يانعةً تشرِف برفعةً على آخر السكرات.

.. يطالعـني سخاؤها، يصلُـني عبيرهُ فينـتعش قلبي، وتومض في ذاكرتي لوحاتُ طفولةٍ منفـلتة. مرّت مارقةً كشهابٍ مُلـتَمع في طرفة عين.

كم لكِ من حياةٍ فيَّ. كم لي من موتٍ فيكِ.

ها أنا الآن أحملُـكِ في عمقِ حنينٍ أداريه، إلى طفلةٍ كانت تشبِهني، ذاتَ تبرعُمٍ أبيضَ أغرتْهُ الألوان وخذلـتْهُ المرايـا، فامتـدّت إلـيه من خلف السَّحاب ألف بابٍ وباب... وما أنصفـتْه المفاتيح الكثيرة.

.. يا لخسارات النُّضجِ الثّقيلة.. يا لمكر الأماني الصغيرة.. نُخْـفيها تحت الوسادة في الطفولة اللاهـية، ونترك الأحلامَ تحرسُها من أعين المتطفّـِلين.

ما أكرمكِ زهرتي.. وما أبخلني فيك..

لم أُقْـبِـل عليكِ لأعانِقـكِ وأطوي على أهدابِكِ لـفْح حنيني. فاعذريني.

خشيتُ عليكِ منَّي.. فاغفري لي.

أعـفـيْتُ خدّيْكِ من قبلةٍ تخطفُ منكِ كلَّ الرحيق، أو تقـتـنِص من نعـومة بياضكِ بعض الشهيق. وما خشيتُ عليكِ من إيـناعِ الصيف القصير، أوْشكَ أن يفارقـكِ، ويتركَ للأنين أن يستوطنَ الغدير.

.. تلك السويعات ما أثمنها أتحسَّسُ انصرامها بضيق لا يـميل. تلوّحُ ماكرةً بانتهاء المسير.. تفصلني عن ذبولـكِ.. تبعدني عن لـثمِ مفرِقِك.. هناك في منبتِكِ الأثير.

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2014 الجمعة 27 / 01 / 2012)

 

 

في نصوص اليوم