نصوص أدبية

النـــــــــــذر / حميد الحريزي

 ايكَولون حلم الفرح ينجلب حزن والحزن يصير فرح مدري ليش وهذا بس عد العراقيين يو عد كل الوادم - هذا ماطلبته (سعيّده) من صديقتها (فضيلة).

يالله بغاتي نروح نزور مثل ماتريدين انه خايبه اكَدر اعصيلچ أمر وأنتي عزيزة اخوي (ناطور).

وبالفعل انعطفت الزوارق صوب قبة السيد يوشع التي تتوسط الهور كغيرها من عديد الأضرحة وبنايات السادة وأبناء الأئمة المنتشرة على طول وعرض الهور، وهي تزداد ويكتشف منها الجديد كلما تكاثفت غيوم البؤس والقهر والمرض والحرمان على أبناء الاهوار وضاقت بهم سبل الخلاص وخصوصا بعد تكرار فشل وانتكاس انتفاضاتهم وثوراتهم المسلحة ضد مختلف الأنظمة في العراق منذ الخلافة العباسية والعثمانية والعهد الملكي والجمهوري ولحين التاريخ من اجل نيل حريتهم والحصول على حقوقهم ونصرة من يلوذ بهم من سكان المدن من المتمردين على السلطة أو الهاربين من الخدمة العسكرية.

تمت عملية ركن الزوارق حول سياج الضريح ودخلن إلى الداخل ، (فلت)(سعيده)حزامها وهي عادة المرأة الريفية المضيومة والمهمومة عندما تريد ان تشكي همها وألمها لأحد السادة أو الأولياء لينتصر لها ضد الظالمين، جلست عند شباك السيد مسندة رأسها على الشباك ومطلقة العنان لدموعها لتنهمر بغزارة وهي تتوسل وتترجى السيد إن يحقق لها حلمها ويعيد لها حبيبها سالما من محرقة الموت على الجبهة ويخلصها من (حاشوش) وزمرته، وإنها لم تزل عند وعدها في إيفائها بالنذر فالديك الأبيض لا يمكن إن يكون إلا من حصة(سيد يوشع) وبعد وياه بيرغ ابيض وكيلو (ملبس) (واهليه) وچيس حنه احني بيه شباچك يسيد.

لا يبعد عمري يغاتي كلشي ولاتصدج بحچي اليحچون عن الشوعيه، ما يعرفون الله، وما يعرفون أليمه والساده.. تره حچي (ناطور) على (سيد مشواف) مو معناته عليكم، چا انته اتصدج (مشواف) سيد ابن رسول الله وهو صاير سري وگراش للحكومه، انته هم شفتلك سيد يعوف شارة ابو فاضل ابو راس الحار ويدور شارة الحكومه، لايسيد أنت بري من هذا الچلب....

وبعد إن مرغت وجهها بشباك الضريح جددت نذرها وزادت عليه البيرغ والحنه والواهليه و أفرغت ما بصدرها من هم وكدر ونشيج وحسرات وعبرات، وأودعت السيد كل أمنياتها وتمنياتها، وفضيلة ترقبها بحزن بالغ ودموع ساخنة، استعادت جلستها ثم نهضت وخلفها صاحبتها باتجاه زورقيهما وهي لا تريد ن تغسل عينيها خشية إن تفقد حلمها الجميل وهذه الدموع التي اختلطت بعطر شباك (سيد يوشع).

استقر الزورقان في منتصف الهور واستلت الفتاتان منجليهما وبدءا بقطف ذوائب القصب الريانة ورميها وسط الزورق على شكل حزم وفي نفس الوقت يقمن بجمع الخريط من عرانيص البردي لأكل بعضه وتسويق الفائض إلى السوق وبين فترة وأخرى يسترحن وياخذن ببث لواعجهن وهمومهن لبعض وقد تأخذهن سنة من النوم بعد التعب والاسترخاء في بطن الزورق فينهضن مذعورات ليستعجلن العودة للبيت.مصغيات بكل حواسهن إلى صوت غناء صياد يبث الهور وشباكه وطيوره المهاجرة شجونه وهمومه وعشقه المكبوت ليتفاعل صوته مع تكسرات أمواج الماء

(چبتيني للضيم اشمالچ ييمه شبيچ چبتيني للضيم شو بس علي دنياي تمطر بلا غيم)

فتختنق (سعيده)بعبرتها وتود لو أنها تستطيع أن تطلق العنان لصوتها المشهود له بالعذوبة والجمال من قبل رفيقاتها أثناء حفلات النساء في الأفراح والأعراس في مجالسهن الخاصة وقد خبرت صوتها (فضيلة) حيث تبدآن بالغناء المكبوت وهن يتقابلن على (الرحه)* للطحن وغالبا ما تردد ( اطحن بكَايا الروح ماطحن شعير) و(كون الحبيب يصير مكَلد وضمه مابين النهد والثوب كل ساعه اشمه) وسط هذه الأفكار والأحلام والتخيلات وأمواج الهور وسماع (الابوذية) الحزينة للصيادين عادة لا تصحوان (سعيّده) و(فضيلة) إلا وهن على مشارف القرية عند الضحى.

لفت نظرهن هذا اليوم مشاهدتهن لرهط من الزوارق وهي متجهة صوب قريتهم قادمة من مركز مدينة الفهود ويبدو إن الزورق الذي في المقدمة يحمل (نعشاً) ملفوفا بالعلم العراقي مع أصوات بكاء ونحيب وعويل تناهت لمسامعهن ، فأصابهن الذعر والخوف والرعب وأخذت كل منهن تنظر في وجه الثانية وهن كالمصعوقات تخوفًا من هذا المشهد الذي غالبا ما أخذ يتكرر في القرية بعد معركة القادسية المشؤومه وسوق الشباب والشيوخ الى محرقة الحرب مع إيران وقد زاد كدرهن وتطيرهن صوت نعيب الغراب وهو يحوم فوق بيوت القرية!!!

- يمه بعيد البله ولاكَالله الله(ناطور) أچه منه طارش لهله كَبل چم يوم ويگول راح يچي مجاز، ولچن صخام وچوهچن أچاب هاي السالفه على بالچن اشو كل زلم القرية بالجيش والجيش الشعبي خوما بس (ناطور).

ودون وعي منهن وجهن زورقيهما لتتبع الزوارق المتجه صوب القرية ثم أخذت تتوجه صوب دار سيد (غضبان) أبو ناطور،

ارتجف المردي في يد(سعّده) يتبخر حلم الصباح وتغرب الشمس ويلفها الظلام لتسقط فاقدة الوعي، بعد إن تيقنت أنها تسير خلف نعش حبيبها (ناطور) ولم تسترد وعيها إلا عند ضحى اليوم الثاني فتفتح عيناها وسط جمع عائلتها وجلوس (حاشوش) عند رأسها مناشدا إياها بان تصحو وان (ناطور) ذهب شهيدا، وفداء للقائد والحزب والوطن وسمعت زعيق ديكها المكبوت والمستغيث وهو يرفس مذبوحا تحت قدمي والدها ليقدم غداءا لضيفهم العزيز( حاشوش)، فهالها المشهد وفقدت القدرة على الكلام، وهي تذرف دموعا مكتوية بنار الفراق الأبدي وضياع الأحلام ومشهد(حاشوش) مستبشرا وفرحا بخلاصه من ناطور متوهما إن (سعيّده)ستكون من نصيبه!!!

فقدت (سعيده) قدرتها على الكلام بشكل نهائي رغم محاولات أهلها ومحاولات (حاشوش) الذي جلب لها طبيبا من الناحية ..ولكن دون جدوى، أخذت تسير وتتكلم بعد صحوتها دون ان تعي ما تقول.. تصرخ حيينا وتبكي حينا آخر ... تضحك ضحكا هستيريا في أوقات أخرى دون سبب ظاهر لمن حولها.. تهرب مذعورة من هجوم ذئب موهوم ... تقذف حاشوش كلما شاهدته ب(سرجين الجاموس) ... تسب تلعن .. تضرب خدودها تبكي بكاء مرا ثم تسقط كأنها جثة هامدة، عزفت عن الأكل .. وان أكلت شاركت حيواناتها بعلفها... تلطخ وجهها بالوحل والطين ورماد الحطب، وصل بها الأمر الي التجديف والتطاول على بعض الأسماء المقدسة بعد عتب وخطاب طويل كأنها تعاتب وتساءل احد أبناء قريتها وقد شمل هذا حتى سيد يوشع.

بوجهها الملطخ وشعرها المنفوش المعفر بالطين و (السرجين)وما تم تعليقه في رأسها وملابسها من الرقيّ والحروز وشرائط القماش الملونة صارت تشيه لوحة سريالية.. استفحل أمر هياجها يوم بعد يوم ؟؟؟ لا تانس إلا حين تتوهم إنها تجالس (ناطور) :- تناغيه تدلعه تغازله تضع رأسها في حضنه تمسد له شعره تذوب معه في قبلة حرى... تستعرض كل صور لقاءات العشق وكل مغامرات الحب والتستر والاختفاء عن عيون العواذل والحساد .... تبدو في غاية الفرح والسعادة والنشوة ... ولكن على حين غرة تزلزل الدار بالصراخ والعويل مدعية ان ناطور كان هنا ... وقد اختطفه منها الذئب مطالبة الجميع ان يهبوا معها لنجدته وتخليصه من أنيابه...تصرخ بأعلى صوتها ناطور ناطو ننننننننننننننننننناط-----ور آ نــــــــــــــه (سعده) ......

نتيجة لما آل إليه حالها قرر ابوها وبعض أقاربها ان يحجزوها في غرفة طينية لا يسمح لها بمغادرتها لاي سبب كان خصوصا بعد أن رفضت ان تربط الي شباك (سيد يوشع).. صارخة بوجوههم ...

- خايبين ياسيد يابوسيد ... اشو أكل ديچي وما حفظ ناطور.. اخذ الديچ او ماحفظ ناطور .. او مبس هاي اشو اطه ال(حاشوش) رشاشه ومسدس ... يبين استغزر ب(طلي) حاشوش وديچي صار أبطنه..... يبين كله تمشي (بالبرطيل).. چا الفغير منهو اله ... السكت راح بالرچلين والراح للشوعيه گالوا كفر بالله.....

- تظاهر حاشوش بأنه حاول جهده ومن منطلق مبادئه (الإنسانية) ان يرد ل(سعيده) عقلها لاكن دون جدوى .. يبدو ان عقلها دفن مع جثمان عشيقها (ناطور) واخذ يردد أمام محافل الناس :-

- هاي الگلناه .. هذول الشوعيه.. ما جادرين إلا عله عقول بنات الناس الاشراف... يغشمرونهن ويذبونهن وفوگ كل هذا يچرهونهن الساده ويچرهونهن بالحزب والقياده...

- لم تكن قصة (ناطور) وفاجعة(سعيده)... الأخيرة التي عاشتها القرية، فقد خيم عليها الحزن والوجوم والخوف، الزوارق الذي تحمل توابيت الموت أخذت تتزايد يوم بعد يوم مكتوب على مقدمها الإعلام التالي:- الشهيد البطل، الخائن العميل... المتخاذل الجبان...و..و) تعددت الأسباب والقتل واحد اخذ الناس يعرفونه ويغرفونه

بعد ان يأس (حاشوش) من شفاء (سعيده) انقطعت زياراته لبيت سرحان في حين ازداد عدد خفارات (مريوده)......

استدعي (سرحان) للمشاركة في قاطع الجيش الشعبي المتوجه الى جبهات القتال......وحينما راجع (حاشوش) شاكيا له كبر سنه وعجزه وليس هناك غيره من يرعى بيته وحيواناته ويسد الوحشة عن (مريوده) ويداري (سعيده) قال حاشوش

يا ابو (سعيده) لابد لك ان تشارك الجميع في الدفاع عن الوطن وعن الشرف..لابد ان تهتز الشوارب مثل ما گال (القايد) حفظه الله ورعاه... انته شلون ترضه فارسي مجوسي يدنس شرف (مريوده) يو (سعده) لا سامح الله...

أما (سعيده) اله الله وإما مريوده فهي برعايتي ورعاية الرفاق، إنها تشعر بالألم وهي تراك لم تشارك أبناء شعبك في الذود عن الوطن، طلبت منا ان نُلبسك ثوب الشرفِ لباس الخاكي كمقاتل في الجبش الشعبي... وقد كرمها الرفيق المسؤول على طلبها هذا كامرأة ومناضلة عراقية أصيله....

أيدته (مريوده) في ما قاله لزوجها حول ضرورة الالتحاق بالقاطع وإلا فستلجأ الي طلاقه لجبنه......

ذهل (سرحان) لما سمعه من كلام وتصور نفسه واقفا على راسه، او زاحفا على أربع وان كلامه ثغاء عنزة وسط قطيع من الذئاب...

استقبلته مريوده بالزغاريد حين دخل (سرحان) الدار مرتديا الخاكي متمنطقا بجعبة العتاد متنكبا الكلاشنكوف...

صلوات على محمد .. عين الحاره بارده ... شوف شلون طالع هيبه بهدوم الحكومه...

... ولچ آنه هيبه بغير سلاباتكم هاي...گرة عينچ وعين المهطور (حاشوش) من كون راح تودون هذا الرچال الچبير للحرب..... الراح تحصد الزغار والكبار... وظلت الولايه تلعب بيه (الگدعان)...

رمى (سرحان) البندقية من يده على الأرض لاعنا اليوم الذي رأى به حاشوش وزمرة حاشوش ملقيا نظرة غضب نحو زوجته مدركا تماما سبب فرحها بذهابه الى جبهة القتال....

نهض ملقيا نظرة على ابنته التي لم تعد تدرك أي شيء مما حولها....تكالبت عليها أسراب الذباب والبعوض والقوارض.......

خلع سرحان بدلته (الخرائية) كما سماها، مرتديا (دشداشته)، فتح باب صريفة سعيده جالسا بجانبها، متأملا ما حل بها، كلمها وعيناه تنثر دموعا حرى دون تلتفت إليه او تكلمه... اخرج كيس تبغه وبعجالة لف سيكارته، اخذ يمتص وينفث دوامات كثيفة من الدخان، كمن يبعد أسرابا من الجراد والعناكب التي هاجمته من كل مكان.....

ماذا حل بكم ....يا ابناء الاهوار ألستم أبناء من كانوا يصارعون السلاطين والوحوش والثعابين، الم يصرع أجدادكم الأسود والضواري التي كانت تسكن الهور في سالف الزمان..ألستم من حارب العثماني والانكليز وكانت لكم ايام مشهودة في مقاومة كل دخيل وكل مستبد عنيد.... ..

رحمة الله عليكم أبي وجدي

.. إننا لم نعد نستحق ان ننسب أنفسنا لكم لقد كنتم أحرارا لم تصبروا على ضيم، اخذ سرحان يسترجع حكايات جده وابيه وكبار سكان الاهوار حول بطولاتهم وصولاتهم ضد الترك وضد الانگليز وضد غزوات قطعان السلب والنهب التي كانت تستهدفهم من باطن الصحراء بين حين وآخر، كانوا يسحرونهم بأحاديث طوال ليالي السمر السومري الموروث، حول أحداث لم يتبقى منها سوى أشباح صور لازالت تقوى على النسيان وتقاوم الاندثار، يتحدثون عن أحداث غريبة وحيوانات عجيبه، عن مدن مندثرة وعن (چباشات) ارتفعت للسماء، عن جد طائر، وعن حيوانات تتكلم، عن عرائس وحوريات القصب والبردي، وعن آلهات والهة عجيبه، عن ملك حكم الجهات الاربعه.ووو..و لم تكن الذاكرة تتعب ولا تكل عن سرد ما قاله وتناقله الآباء للأبناء والأجداد للأحفاد..... كانوا كثيرا ما يعثرون في ثنايا الهور بقايا رماح او دروع او أنصال سيوف، او قطع من الذهب او الفضة او الخزف منقوشة او مرسوم غليها مالا يعرفون، كانت تثير دهشة وإعجاب الأجانب من زوار الاهوار، اللذين يستميتون من اجل الحصول عليها بأي ثمن.....كان هناك من أجداد ناطور وغيره من ذوي العلم بذلك الزمان يرون ان هذه الأشياء لا تقدر بثمن إنها حاجيات تسكنها أرواح أجدادهم... فكان بعضهم يقول الحفاظ عليها يعادل حفاظكم على شرفكم!!!!

قطع سلسلة ذكرياته هياج (سعيده) وتحذيرها من الذئب خاطف ناطور...... امسكها هدأ من روعها ضمها الى حضنه خضب رأسها بدموعه...حتى غابت عن الوعي من جديد قبلها وخرج منحني الظهر دامع العينين مبعدا مريوده عن طريقه كمن يهش بعوضة عن وجهه... حاولت ان تمتص غضبه بحركات غنج مرسلة إليه أشارت حب وغزل ودلع غير مسبوق بينهما.....غرز (سرحان) سهام نظراته بوجهها قائلا:-

...لا تتوهمين اني غير عارف بما يجري وما جرى وبما سيكون، اني عارف تماما سبب استدعائي للجيش الشعبي .....وسبب اشتغالك في الفرقة...ولكن ان عدت من رحلة الموت هذه ... ورأيت او سمعت انك ألحقت أي أذى ب(سعيده) .. فسيكون موتك على يدي...يا... اللهم صبرچ ياروح.

ابتعدت عنه (مريوده) غاضبة مستغربة ما قاله لها (سرحان) وكأنها تراه لأول مرة التفت إليه قائلة:-

والله هو مو صوچك صوچي آني اللي ردت عود أودعك ألليله ونته رابح تدافع عن الوطن...بس هاي هيه يگولون( لا تسوي زين شر ما تلگه)....

مسحت حمرة شفافها بظاهر كفها وهي تدمدم بكلام غير مسموع...

دخل (سرحان) الكوخ ليجمع حاجياته وأغراضه أخفاها في كيس من (الجنفاص)، ليكون جاهزا للذهاب للقاطع عند الفجر..ومن هناك يتم تسويقهم وإرسالهم الي جبهات القتال.... كما أخفى واضمر في نفسه امرا سيظهر بعد حين .

أبكرت (مريوده) النهوض فلم تجد لزوجها أثرا، أصلحت من حالها وزينتها لتذهب الى الفرقة، بعد ان ألقت برغيف من الخبز ل(سعيده) وغلقت من ورائها الباب مع أحكام قفله من الخارج....

لم تجد أحدا في الفرقة فقد ذهب الجميع لتوديع القاطع المتوجه لجبهات القتال وسط حالة من القلق والخوف لورود أخبار غير ساره من هناك تفيد بانهيار جبهة الفيلق الرابع ووقوع معارك طاحنة في اهوار ألعماره حيث بدأت طلائع القرويين الهاربين من نيران المعارك تصلهم، وهم يقصون عليهم أحوالهم بين نيران القوات العراقية ونيران الإيرانيين وكل منهم يتهمهم بالعمل لصالح عدوه، فقتل او اسر الكثير من رجالهم ونسائهم وأطفالهم وقتل او صودر العشرات من حيواناتهم وأموالهم وأسلحتهم الشخصية.....آلاف الأسماك طفت ميتة فوق سطح الماء ومئات الطيور قتلتها الشظايا ونيران القذائف الصاروخية والمدفعية والطائرات والأسلحة الرشاشة، ومنظر لا توصف للجثث الجنود من الطرفين طافية فوق المياه تجر ورائها ذؤابة دم حمراء، وقد أصبحت غذاء للسلاحف والأسماك والطيور...... نعم لقد قامت ألقيامه وملأت الهور رائحة الموت والبارود وأصوات هزيع القذائف المرعبة، لم يشهدوا مثلها حتى في ايام الاستعمار الانكليزي..كما يروي كبار السن من سكنة الاهوار....... تفرق شمل اهل القرى باتجاهات مختلفة ولم يعودوا يعرفون من هو الحي ومن هو الميت ومن ابتلعته المياه .....من في الجانب العراقي ومن في الجانب الإيراني..إنها لمصيبة ما بعدها مصيبة........

عند المساء عاد الرفاق محملين بسيل من الأكاذيب ألملفقة حول النصر والتقدم وهزيمة العدو... وإلقاء القبض على بعض العملاء للنظام الإيراني.. وآخذو يحذرون السكان من مغبة ان تنطلي عليهم أكاذيب القوى المعادية.. ان عيون الحزب واعية تترصد العملاء اللذين بدت تظهر لهم بعض النشاطات في أعماق الاهوار.. وبعض المحاولات لضرب قواطع الجيش الشعبي والفرق الحزبية في بعض المدن......

بدى (حاشوش) قلقا خائفا كثعلب مهزوم رغم ما أظهرت له مريودة من زينتها وفرحتها برحيل معكر صفوهم (سرحان) الى غير رجعه..... أمضت ليلتها بين الرفاق اللذين حاولوا ان يهربوا من خوفهم وقلقهم في إحياء ليلة حمراء من السكر والعربدة والرقص والغناء وإطلاق الاطلاقات النارية نحو عدو مفترض، وقد أبلت (مريوده) بلاءاً حسنا في إطفاء نار الرفاق وإسعادهم بالتنقل بين أحضانهم حتى الصباح وكأنها تنتقم من إهمال (سرحان) وتهديده لها قبل رحيله......

رغم كل الهرج والمرج وفوضى ليلتهم أصبح صباحهم بالتطير والتوجس والاستعداد لزيارة مسئول مهم للفرقة، سبق الزيارة رؤية وجوه وإشكال جديدة لأناس غرباء لم يسبق لهم ان شوهدوا في المنطقة من قبل، وهم بأزياء مختلفة......عند الضحى بانت سحابة كبيرة من التراب على الطريق الرابط بين الناحية ومركز الناصرية اتضح بعد فترة وجيزة انه سرب طويل من السيارات المضللة والسيارات المكشوفة المكتظة بأناس مدججين بالأسلحة من مختلف الأنواع والأشكال

انتشرت السيارات على مداخل المدينة واختفى الناس من الطرقات ومقاهي المدينة وتقاطر ذوي النظارات السوداء لدخول مقر الفرقة..... استمر الحال لعدة ساعات، خلالها كانت بعض السيارات تداهم بيوت محددة وتقتاد من فيها من الرجال والنساء والأطفال دون معرفة السبب، عم المدينة الرعب حتى المساء حيث عاد سرب السيارات من حيث أتى مصطحبا معه العشرات من الرجال والنساء والأطفال وسط دهشة وحيرة وتساؤل اهل المنطقة..... نزلت بهم الكوارث كنزول المطر......لا يعرفون من أين تأتيهم المصائب، أخذت نيران الحروب ونيران السلطة وإعداماتها وسجنوها تلتهم الرجال والنساء والأطفال دون تمييز . انه طاعون جديد....أتى ليفتك بسكان الاهوار مضافا الى الملا ريا والبلهارزيا التي لا يوجد شخص غير مصاب بها صغير كان او كبير...

تجمع حشد من وذوي وأقارب المعتقلين في باب الفرقة للاستفسار عن مصير أبناءهم وآباءهم ونساءهم... ولم يتلقوا من الرفاق جوابا غير إنهم لا يعرفون شيئا عما جرى ويجري ولكن الأمر متعلق بنشاط القوى العميلة في المنطقة لورود معلومات من الجهات العليا حول نشاطهم في المنطقة...وان أمر اعتقالهم لا يعدو سوى استفسار وأسئلة وسيعودون في اقرب وقت ربما غدا صباحا وعلى الجميع الانصراف فورا من أمام الفرقة وإلا.....

تفرق الجمع وسط حالة من الرعب والشك والخوف على مصير المعتقلين... وأسئلة تجر أخواتها عن السبب والمسبب والمصير ومتى وكيف ولماذا... ولكن ليس في اليد حيلة لابد ان ينتظروا الى الغد ..

 

....................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2017 الاربعاء 01 / 02 / 2012)

في نصوص اليوم