نصوص أدبية

ليلة العم توما / زيدالحمداني

في واقع الأمر هي نسبة لا بأس بها وان كانت لا تصل الى ماعهدته في العرق العراقي الباسل: العصرية. حيث أخبرني احدُ السُكارى الثقات والذي التقيت به في الأيام الخوالي أثناء تبضُعي من مخزن للمشروبات الروحية في منطقة باب المعظم ببغداد ان نسبة الكحول وصلت في احدى القناني التي شربها الى ثمانين بالمئة مما أدى الى اصابته بالعمى المؤقت. المصنع أعرب عن اعتذاره عن ذلك الخطأ في التصنيع. الرجل بات يتحسس باصابع يديه القنينة والماء والثلج حين يريد اعداد الشراب لانه بعد أن تعافى في المرة الاولى شربَ مرة أخرى قنينة كان فيها نفس الخطأ في التصنيع. المصنع أعرب عن اعتذاره للمرة الثانية. الا ان صديقي السكير أصبح أعمى بصورة دائمية.

على اية حال  نسبة الخمسين بالمئة تكفي لتهدئة هيجاني الصامت بعد يوم عمل مُضنٍ تخلله سماع كلمات في العظم وبعبارة أدق في اللحم لاني أملك طبقة واقية و وافية من الشحم قبل الوصول الى عظامي النائية. المهم، بعد ان اخذت عدة جرعات اجتاحتني رغبة بمعرفة اسم الشركة المصنعة  وموقع المعمل التابع لها والذي ينتج هذا النوع المجيد من العرق. امسكت القنينة وحاولت بما تبق لي من قدرة على الابصار السليم قراءة المعلومات الموجودة على ملصقها الورقي. (عرق مثلث ومصنع في معامل شركة رشيد طانيوس توما وأخوانه). بصراحة عدد الاخوة غير مكتوب على الملصق. لكن هنالك معلومة تخص موقع المعمل: لبنان. وفي منطقة البقاع بالتحديد. ولهذا الأسم في ذاكرتي ذكرى مميزة حقاً. فحين زرتُ لبنان قبل سنوات خلتْ زيارةً خاطفة الغرض منها تجديد تصريح اقامتي في سوريا، مررت بمنطقة المصنع الحدودية التي تقع في البقاع الأوسط وشاهدتُ بعضاً من آثار القصف الهمجي الاسرائيلي.  أظن ان مصنع رشيد طانيوس توما لم يكن ضمن المواقع التي استهدفها العدوان الغاشم في تلك الحرب. لان خوابي العرق ان تحطمت وفاحت رائحة مابقلبها ستصيب بلداً باكمله بالدوار. وأنا لم اشم سوى رائحة البارود المخلوط بالتراب. وبمناسبة الحديث عن الرائحة الفواحة للعرق، تذكرت الآن واقعة شهدها بيتنا قبل عدة سنوات. فحينما أقلع أبي عن شرب الخمر بسبب ارتفاع نسبة السكر في دمه، سكبتْ أمي -المؤمنة حديثاً في وقت الواقعة- زجاجتي عرق "عصرية" في مجاري بيتنا. وعلى اثرها صرت اشاهدُ ولمدة اسبوع كامل صراصير محلتنا  تزحف على ظهورها في الازقة وتنام دون خوف أو وجل على الارصفة الاسمنتية الملتهبة بشمس تموز الساطعة.

اليوم وبعد الاحداث الصاخبة في سوريا فان الحركة التجارية بين البلدين -سوريا ولبنان- قد تأثرت  الى حد بعيد. ذلك التأثر أدى الى تعطل الانتاج في معامل العرق. لان تلك المعامل بحاجة الى يانسون. واليانسون يأتي من الشام. ياترى ان استطاعت الثورة السورية القضاء على النظام الحالي هل سيضمن لنا الحكام الجدد ديمومة زراعة اليانسون ووصوله الى الاراضي اللبنانية؟؟

قلت في نفسي وانا أتأمل اختلاط الكحول بالماء واستحالته الى لون حليبي ناصع. طبعا يشاركني هذا القلق جميع أصحاب معامل العرق في لبنان الفاتنة: توما وكسارى وبوران وكفريا ومسايا وغنطوس وجم غفير غيرهم... الله يستر

لجأتُ الى التلفاز افتش في القنوات الفضائية السورية عما يطمئن قلبي على الشام وأهلها ويانسونها. فجأة استوقفتني احدى القنوات. كان يظهر فيها رجل أثار حفيظتي فيما بعد ولكني لا أذكر اسمه بالتحديد. لربما مأفون او ملعون او جرذون او شئ من هذا القبيل. وجهه حين يبتسم يجعلك تشعر بحزن لا تعرف سبباً له. وما علق في مخيلتي عن ملامحه الباهتة هو شاربه الذي لا تستطيع الوقوف على حقيقة سمكه لان له صبغة تماثل في لونها لون وجهه الاصفر. أما تكويرة رأسه فهي تشبه والى حد بعيد استدارة البطيخ الايراني الأحمر. كان يتكلم بحماسة شديدة وجدية ظاهرة. انصت لما يقول لبرهة.

يا الله!!! انه يتوعد الشعب القاطن في الساحل السوري والمنتمي الى نفس طائفة الرئيس بالابادة الجماعية وسط الساحات العامة وعلى رؤوس الاشهاد وبطرق عديدة اذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الرمي من شاهق اعتمادا على طريقة مليشيا فدائيي صدام الذين هربوا قبل ان يفدوه. والرجم على طريقة عناصر طالبان الذين رجموا بقاذفات ال "آر بي جي" الروسية الصنع التمثال المسالم للنبي بوذا والمنحوت في حجارة جبلية يتجاوزعمرها الالفي عام في مدينة باميان. وفصل الرؤوس عن الأجساد بآلة المقصلة الفرنسية وعلى طريقة أسلاف السيد ساركوزي زوج الجميلة كارلا بروني. لا لا انا آسف، فاسلاف ساركوزي لم يكونوا فرنسيين. والرجل يمكن وصفه حسب قانون الجنسية العراقية السابق: تبعية مجرية. وحسب قانون الجنسية الكويتي الحالي: بدون. ولو كان والده المجري قد هاجر الى أي بلد عربي بدل فرنسا، أقول لو فعل تلك الفعلة الطائشة، فان ابنه لم يكن ليتمكن من الالتحاق حتى كجندي مكلف بأية مؤسسة عسكرية أو أمنية في بلاد الضاد. اما في فرنسا فيعتبره الفرنسيون فرنسياً حتى النخاع ولا فرق بينه وبين اي مواطن آخر الا بالتقوى. اقصد تقوى القانون.

المهم، ارتعدتْ فرائصي وذهلتُ تماماً وانا أتخيل مناظرالاعدام الجماعية. انزلتُ قدح العرق السابع او الثامن ولربما العاشرفي جوفي. أضعت الترتيب. فبعد الجرعة الرابعة يصبح العد غير ذي بال. أحسست بدبيب الفناء يسري في أوصالي وخُيل لي أن ذلك المأفون يخرج من شاشة تلفازي السوني ذي الأربعين بوصة -الشاشة كبيرة نوعما وتسمح بخروج دابة من قلبها- ويقف في صالة بيتي ويصرخ في وجهي:

 

"طز بصالح العلي"

الشيخ المجاهد القادم من قرية المريقب في جبال الساحل السوري والذي حارب الغزاة الفرنسيين ورفض عرضهم عليه باقامة دولة مستقلة في المنطقة الساحلية يكون هو رئيساً لها لانه كان يؤمن بسوريا حرة موحدة.

 

"طز بعلي أحمد سعيد"

ادونيس المفكر والشاعر القادم من قرية قصابين في مدينة جبلة السورية والذي ساهمت اعماله الشعرية الفذة في بلورت حركة جديدة في الشعر العربي ساهمت في نقله الى محافل الشعر العالمي. الرجل له عداء ظاهر للانظمة الدكتاتورية ويقيم حاليا في المهجر -اظن المملكة المتحدة- لان حكومة بلاده المستبدة ضاقت بفكره الحر المستنير.      

 

"طز ببدوي الجبل"

الشاعر اللاذقاني المعروف والذي يعتبر أحد أعلام الشعر العربي في القرن المنصرم وكانت له صولات وجولات في مقاومة الفرنسيين بقلمه الهادر أضف الى ذلك فانه كان من مؤيدي الرئيس السوري طيب الذكر شكري القوتلي.  

 

"طز بممدوح عدوان"

الكاتب والشاعر والمسرحي السوري الراحل والقادم من قرية مصياف والذي اغنى المكتبة العربية بمؤلفات قيمة في الشعر والمسرح والترجمة. ولي مع ممدوح عدوان قصة طريفة. ففي زيارتي لمعرض الكتاب الذي اقيم مؤخرا في مدينة الشارقة كنت اتجول بين اروقة المعرض افتش عن زادي السنوي. مررت بدار ممدوح عدوان للطباعة والنشر. تصفحت في تلك الدار سفر اليونان الخالد (الالياذة والاوديسة) وقررت شرائه. الترجمة كانت لممدوح عدوان طبعا. سألتني البائعة وهي امرأة اربعينية تنم عن جمال غابر كما يقولون:

-" هل تقرأ لممدوح عدوان؟".

-"قرأت له مسرحية ليل العبيد وبعضا من قصائده المنشورة على الشبكة العنكبوتية." قلت لها ثم واصلت كلامي مظهرا لها حجم معرفتي بتأريخ ذلك الرجل المبدع:

-"اتعرفين ياسيدتي؟ رغم كونه من الساحل السوري ومحسوب على طائفة الاقلية الحاكمة الا انه كان ينافح الدكتاتورية وينتقد الطغيان باسلوب رشيق وفطن." ابتسمت المرأة ابتسامة خفيفة ثم قالت لي:

-" بكل تأكيد أنا اعرفه جيدا، فهو زوجي!"

 

"طز بسعد الله ونوس"

ياجاهل اتعرف ان الأدب المسرحي العربي ارتقى في اعمال سعد الله ونوس -المنحدر من مدينة طرطوس- الى مصاف العالمية؟ أتدري -وانت لا تدري بكل تأكيد- ان هذا المسرحي العملاق هو من قام بكتابة الرسالة الدولية في يوم المسرح العالمي؟ هل قرأت -وانت لا تقرأ شيئا البتة- المنمنمات التاريخية؟ اتعلم بأنها واحدة من ابرز ان لم تكن ابرز المسرحيات العربية في القرن العشرين لما فيها من اسقاطات تاريخية على الواقع العربي الراهن؟

 

"طز باصحابك في العمل اولئك المنتمين لنفس طائفة دكتاتورهم البغيض"

لا تفتني في اولئك الزملاء أرجوك لاني اعرفهم جيدا واعرف مكامن خطورتهم ومدى الضرر الذي يمكنهم الحاقه بالكائنات الحية على وجه المعمورة. وانا ايضا على اطلاع واسع بما يخص انواع المبيدات التي كانوا يستخدمونها في اعتداءاتهم الآثمة. فالمجازرالتي ارتكبوها في حق الذباب وأنواع عديدة من الحشرات التي كانت تغزو مكاتب عملنا باستخدام مبيد "البف باف" الشهير هي شاهد خطير على حقيقة جرائمهم التي تريد ان تحاكمهم عليها!

 

"طز ب..........."

ضغطت على زر اغلاق التلفازمضطرا لاني شعرت بنوبة غثيان تجتاحني بعد الوجبات "الطزية" التي كان يقدمها لي الرجل الخارج من تلفازي. و أنا على يقين بأني لو واصلت الاستماع اليه لكنت قد التهمت عشرات بل مئات "الطزات" الأخرى  لوفرة "المطزوز" بهم.

انتابني قلق حقيقي على كل اولئك الابرياء. وانتابني قلق اعمق على  تراث مفكريهم. ايمكن ان يحرق ذلك المأفون وأمثاله ان وصلوا الى سدة الحكم  في غد او بعد غد بعضاً من النتاج الانساني الفذ تحت مسمى الطائفية الأعمى؟ ولم لا فكذلك فعلوا مع ابن رشد وابو حيان التوحيدي والمعري ووو.... اشتطت غضباً وأمسكت بقلمي لأكتب رسالة طويلة الى الشعب السوري ادعوه فيها الى ضبط النفس وانتظار اصلاحات الحكومة في دمشق الحبيبة ووعدتهم على لسان الحكومة المنوي اصلاحها بالاتي:

لن تقتل حكومتكم الرشيدة القادمة عشرين الفاً او ثلاثين الفاً من مواطنيكم كما حدث في احدى مدن البلاد المنكوبة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. ولن تهدم البيوت على رؤوس الآف الابرياء  بحثاً عن معارض مسلح فار... 

لن تسمح حكومتكم الرشيدة القادمة بنزول ملايين الليرات في جيب شخص لا يملك اي امتيازات سوى انه ابن خالة الرئيس ومدير اعمال العائلة الحاكمة. ولن نسمع ان فلانا صار من اصحاب البلايين الا ان كان عبقرياً حقيقياً كالمرحوم الامريكي الجنسية والسوري الاصل ستيف عبد الفتاح جندلي "المعروف بستيف جوبز"...

لن تستأصل حكومتكم الرشيدة القادمة بدون مخدر وبشفرات غير معقمة حنجرة اي مواطن سوري شريف  يعارض رأس النظام الحاكم -رئيس الدولة- بحنجرته الهادرة فحسب كما حصل مع كروان الثورة السورية الشهيد ابراهيم القاشوش الذي وجد منحورا كخروف العيد بعد ان ترك رسالته الغير قابلة للنحر:

 

يا .... ويا كذاب
تضرب أنت وهالخطاب
الحرية صارت على الباب
ويلا ارحل يا ....

ويلا ارحل يا ....

ملاحظة: حجبت اسم رأس النظام الحاكم المعني لأن هذه الانشودة المبهرة يمكن استخدامها  في امتدادات زمنية مفتوحة ومع جميع الانظمة التي تدمن القعود على كراسي السلطة لفترات قياسية.  بل يمكن ان ينشدها حتى العمال في مصانعهم لمدرائهم البلداء والزراع في حقولهم  لمالكي الاراضي -الاقطاعيين- والموظفون "الغلابه" المغتربون في بلاد الله الواسعة لأصحاب الشركات التي تكفلهم وتمنحهم رضاها كي يتمكنوا من الاقدام على الزواج او السفر او شراء سيارة او لربما حتى حينما ينوي احد اولئك الموظفين الاقتراب من زوجته الباردة في ليلة خميس دافئة مثلا...

لن تستخدم الأحذية "الصرامي بلغة اهل الشام" في ظل حكومتكم القادمة الا لكي تلبس في الأرجل فتقيها حر الصيف وبرد الشتاء. فهذه هي الغاية الحقيقية من صنعها. أما اشهارها بوجه مواطن مسكين لم يرتكب ذنباً سوى انه اوقف سيارته في مكان ممنوع فتلك من محرمات الدولة القادمة...

لن تواصل حكومة المستقبل الرشيدة فتح أبواب سجونها سيئة الصيت لمعارضيها بل ستهدمها عن بكرة ابيها  وتقيم محلها ملاعباً  لكرة القدم او ملاهياً ليلة -بصراحة لا حاجة حقيقية لذلك لان الملاهي تملأ البلد- أو أسواقاً تجارية "مولات"  تشبه المولات المدهشة  في الامارات العربية المتحدة. كمول الامارات او مول دبي او حتى  المشرف المول الذي افتتح في امارة ابو ظبي مؤخرا ويمتاز بالمقبلات اللذيذة  -المازة- التي يتم صنعها في مطبخ سوبرماركت "اللولو" الموجود داخل ذلك المول. ويمكن للحكومة ايضا ان كانت أكثر حكمة وكرماً ان تمنح السجناء السابقين والذين يشكل الإسلاميون -المشتركون في قتال بعض الامريكان و قتل الكثير الكثير من المواطنين العراقيين اثناء وبعد حرب غزو العراق- غالبيتهم محلات داخل المولات المقترحة  ليسترزقوا منها وكي لا تجتالهم مرة أخرى شياطين ابو مصعب الزرقاوي وابو قتادة وابو قدامة وابو دلامة وابو ........ لا اعرف لم لايملك اولئك "الاشاوس" اسماءً عادية كرامي وليث ومهند وكمال وعزت؟!!!

لم يبق من قنينة العم توما سوى رشفة واحدة. رشفتها على مضض لان صحن تبولتي حل بأكمله هنيئاً مريئاً في معدتي الخضراء. بصراحة تلك السلطة هي من عجائب لبنان التي لاتنضب وعلى رأس تلك العجائب عجيبة الفصاحة المثيرة للجدل للاستاذ رئيس وزراء لبنان السابق والذي ورث الوزارة عن ابيه وفصاحة اللغة العربية عن هنود الخليج!

مترنحاً ذهبت الى فراشي. سحبت الغطاء بهدوء وأحتضنت مخدتي بلوعة ظاهرة. فزوجتي ولأسباب غير طبية كانت لا تغري بفضيلة الحضن في تلك الليلة. اغمضت عيني وقلت في نفسي قبل ان استسلم الى النوم:

-"ياشام وحياة عيونك ان ما كبرت مارح تصغر."

 

د. زيد الحمداني

أبوظبي

06/02/2012

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2022 الأثنين 06 / 02 / 2012

في نصوص اليوم