نصوص أدبية

التحـول / حميد الحريزي

لقوى وأحزاب مختلفة في الاهوار تقوم بعمليات الاغتيال والخطف وشن هجمات مسلحه على مقرات الأمن والاستخبارات والمقرات الحزبية وتستهدف الرفاق وتقطع الطرقات مما يستوجب الحذر واليقظة التامة واستخدام كل أساليب الردع مع هذه المجاميع...وقد وضعت خطة مفصلة من قبل جهاز الأمن والاستخبارات والمخابرات والحزب للمتابعة والملاحقة والمراقبة... وقد أوكل لحاشوش و(مريوده) دور هام في هذه اللجان لملاحقة المخربين ورصد تحركاتهم .......... وإنهما مرشحان لدورة في مركز المحافظة او في بغداد لغرض التدريب لرفع قدراتهم في أساليب المراقبة والحصول على المعلومات... وقد حصل ذلك بالفعل حيث ادعى كل منهم على انفراد بأنه ذاهب لزيارة أقاربه...وقد أوكلت مريوده أمر العناية بسعيده الى الجيران........

بعد فترة من عودتها أحذت (مريوده) تتردد على مأتم العزاء ألمقامه على أرواح القتلى في المنطقة لشتى الأغراض وقد عرضت قدراتها لتكون (مله) او (عداده) من الطراز الأول مستغلة حلاوة وطراوة صوتها وقدرتها على حفظ قصائد المديح والرثاء في مختلف الأغراض، انقطعت علاقتها بحاشوش والفرقة الحزبية وأخذت تكثر من زيارة أضرحة الأولياء والأوصياء ولا تفوتها مناسبة في هذا المجال لابل تبنت أمر تسير زيارات النساء الجماعية لأضرحة الأئمة والأولياء(الدوره)، كما إنها برعت في أمور نسائية أخرى...مكنتها من دخول ان لم يكن كل فاغلب بيوت القرية وما جاورها من القرى الأخرى، أصبحت ذات هيبة وصيت ووجاهة عند المسؤولين وعلى مستوى القيادات العليا......

أما (حاشوش)فقد أشيع انه قد طرد من الحزب لأنه الح كثيرا في مطالبة السلطات بالكشف عن مصير المعتقلين من أهالي المنطقة وحاول الاعتداء على الرفيق المسئول.... شاع الخبر بين الناس وسط استغرابهم ودهشتهم وسبحان من مغير الأحوال من حال الى حال...

فقد قرر(حاشوش) ان يحترف الصيد حاملا شباكه على زورقه ليجوب الاهوار طلبا للرزق وتدبر أمر عيشه من صيد الأسماك والطيور، متبرعا بالفائض لمن يصادفهم في الهور بأريحية غير معهودة قربته من قلوب تجمعات الصيادين في ثنايا الهور ، وغالبا ما يجد أخبار معارضته للسلطة وطرده من الحزب متداولة بين الصيادين في الهور مما يجعله يحظى باحترام وتقدير وإعجاب البعض في حين يواجه الصدود والابتعاد من قبل آخرين، والشك والريبة من قبل تجمعات أخرى على علم بتاريخ وسلوك (حاشوش) متخذين قرار عدم السماح له بدخول مناطق سيطرتهم وتجمعاتهم ولا التعرف على عناصرهم، بلاضافة إلى تسريب أخبار كاذبه ووهميه إلى سمعه على سبيل الاختبار والتحقق من شخصيته ومهمته في الهور..كان حاشوش يتعرض بين فينة وأخرى للاعتقال من قبل قوات خاصة لا احد يعرف من أين تأتي....وبعد فترة من الزمن يطلق سراحه ليعود الى ممارسة عمله مرة أخرى..لم تكن شباك حاشوش مخصصة لصيد الأسماك والطيور فقط بل تصطاد أحيانا بعض القرويات في أثناء تواجدهن في الهور او مشا حيفهن المحملة بالملح لإيصاله الي اهوار ألعماره ومن ثم الي إيران، كان مشروع مساعدة دائمة ونخوة مثارة على طول الخطوط حتى لإعطاء بعض المال بسخاء لمن يتقبلنه منه على سبيل المساعدة والنخوة والإنسانية لحين ابتلاع ال(طيرة) للطعم لتفرش له جناحيها برضي ومتعة تامة، استطاع حاشوش ان يكون عبر هذه الممارسة شبكة من العلاقات الحميمة مع عدد غير قليل من القرويات البائسات متمكنا من بناء عرش ذكوريته على أكداس حرمانهن وكبتهن وحاجتهن وجهلهن........

كان بعضهن يحضرن مجالس المله (مريوده) وينقلن إخبارها لحاشوش أول بأول.. واستطاع ان يستغفل بعضهن بإيصال رسائل وتعليمات وطلبات عن طريقهن الى (مريوده) باعتبارها نذور او هدايا ل(أهل البيت) كمشاركة من (حاشوش) المظلوم الغريب المطرود..

لم تكن (مريوده) عديمة الحيلة في التواصل واللقاء بحاشوش سواء في ثنايا الهور او في المدينة..........

بالتعاون مع بعض المتعاطفين معه من الصيادين والقرويات استطاع (حاشوش) ان يقيم له (چباشه) صغيرة في منطقة نائية من هور الحمار ، وخلا هذه الفترة زهد في الصيد والعمل واخذ يكثر من الصلاة والسجود والركوع وقراءة القرآن والأدعية ويتنبأ بمصائر الناس، هذا سيطلق سراحه وذاك سيعتقل وفلان سيتعرض لشر..وووو... وكانت كل تنبآ ته صادقة وحقيقة... أطلق لحيته وحلق شاربه وتختم بأكثر من خاتم.... غير متناسيا مسبحته السوداء ال(101) ، مسورا (الچباشة) بالرايات الملونة من الخارج ومزينها من الداخل بصور الأئمة والأولياء..... بسرعة مذهلة بانت على جبهته آثار السجود والورع، اخذ الناس نساء وشباب وشيوخا يقصدون المله لمعرفة الطالع والتزود بالرقي والحروز والأدعية للشفاء من مرض او تحقيق أمنية ، وبالخصوص كانت رقى المله بخصوص الحصول على وظيفة او الحصول على عمل لدى السلطة مجاباً، فلم يرجع أحدا خائبا وهو يحمل دعاء او رقية من المله، الذي تطلب الأمر ان يوسع (چباشته) أضعاف مما كانت حيث يتطلب أمر بعض المرضى وطالبي البركة والزوار المبيت في مضيف المله، وغالبا ما يتطلب الأمر ان ينفرد المله بالمريض او المريضة والمبيت معه ليلة او أكثر، واستحمام المرضى او المريضات وخصوصا من المصابات بالعقم او تأخر الحمل،ونظرا لما امتاز به المله من بركات وورع فقد اخذ الناس يسمونه بالمله (نعمه) فهو نعمة وهدية من رب السماء لسكان الاهوار...نسي الناس (حاشوش) وصار المله (نعمه).

في احد الأيام دعا المله كل معارفه من الرجال والنساء وكل من تصله دعوته وأولم وليمة كبرى لان هناك أمر هام يريد ان يطلعهم عليه المله.

وفي اليوم الموعود تقاطرت المشاحيف على مضيف المله وهي تغص بالنساء والرجال من مختلف المناطق وحتى من مركز ألمحافظه، وعند دخولهم المضيف فوجئوا برجل مهيب الطلعة ، يرتدي ملابس بيضاء ناصعة ويعتم بعمة سوداء ذات تنسيق جميل يلف على رقبته يشماغ اخضر مزخرفة بزخرفة إسلامية ساحره، نوراني الطلعة ذو لحية بيضاء وجبهة وضاءة، كل من يدخل ينحني مقبلا يد السيد الجليل ويتنحى جانبا لفسح المجال للآخرين، اكتظ المضيف بالمدعوين، وكانت هناك حركة نحلية خارجه تقوم بتهيئة الطعام والشراب واستقبال الوافدين وتوزيع البركات على الزائرين والزائرات والجميع يتلهفون لمعرفة الخبر المفاجئ الذي يريد ان يعلنه المله.......

قبيل الظهر تنحنح السيد المهيب فران الصمت المطبق على الجالسين والواقفين وكلهم آذان صاغية للقول المنتظر ثم صلى على محمد وال محمد ثم ثنى وثلث فضج الديوان بالصلاة بصوت واحد هز أركان الچباشة ورددته نباتات وطيور الهور فهيمن مزيدا من الذهول والخشوع على الجمع وتوجه السيد بالكلام للحاضرين:-

تعرفون أيها الإخوة ان أهل بيت الرحمة من النسل العلوي تعرضوا للظلم والاضطهاد والسجن والتشريد من قبل الطغاة والسلاطين لعنة الله عليهم، مما أدى بهم للتشرد من ديارهم والتستر على أنسابهم وألقابهم خوفا من البطش وملاحقة عسس السلاطين- وهنا اخذ احدهم ينظر بوجه الثاني، لأنه لا يفهم ولا يعرف معنى العسس- تنبه السيد بفطنته لذلك قائلا :-

لا يختلط عليكم الأمر فالعسس تعني شرطة الأمن السرية كما نقول في هذا الزمان كفانا الله شرهم ..فردد الجمع وراءه الله يچفينه شرهم. آمين

 تناول السيد قدحا من الماء من يد الصبي الواقف لخدمته قائلا :-

لعن الله من حرمك من الماء سيدي يا أبا عبدا لله....فردد الحضور نعلتاالله على بني أميه...

نعم أخوانه وما تعرض له أهل البيت من ظلم لعشرات السنين أنسى الناس نسبهم الأصلي كونهم من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم..... ولكن الله سبحانه ينتصر دائما لهذه الذرية الطاهرة ويأتي وقت لتعرف حقيقة من حاول الباطل ان يطمر نسبه ويبخسه حقه......

القصد من حديثنا أيها الأحبة هو ما عرفتموه باسم مله (نعمه) ، فهو أيها الإخوة من ذوي الحسب والنسب انه من ذرية رسول الله(ص) وقد عثرت بالصدفة او بتوجيه من الله عز وجل على شجرة نسبه وحسبه فأمرني ملك رايته في عالم الرؤيا ان اقصد ديار مله (نعمه) وكشف الستر عن نسبه وحسبه وقد أدلني الملك على مكانه وكونه كان يعرف ب(حاشوش ابن فدعوس) بينما هو السيد(نعمه السيد أيوب..السيد ..السيد..الخ)، فضج الحاضرون بالصلاة على محمد وال محمد وعلت الزغاريد والتهليل والصلوات في خارج المضيف ونثرت (الواهليات) ونذرت النذور، أسكتهم السيد بإشارة من كفه ان اسكتوا:-

ومن نعم الله أيها الإخوة إنكم أسميتموه دون علم منكم (بنعمه) وهذا أمر رباني أيها الإخوة من الله بها عليكم نتمنى ان تزيدكم إيمانا واعترافا بفضل (سيد نعمه)عليكم ووجوده بين ظهرانيكم.... هذا ما جئت من اجله وما على الرسول الا البلاغ المبين والسلام عليك ورحمة الله وبركاته

نهض السيد واخرج من حقيبة له عمامة سوداء وغترة خضراء و(وصاية) سوداء من القماش الفاخر والبسها لسيد (نعمه) مباركا ومهنئا له نعمة الله عليه... ثم تقاطر الحضور عليه للمباركة وتقبيل يده وتلقي لعابه ، مناولا احدهم واقفا على جانبه قناني ماء صغيرة اسال السيد فيها لعابه ليتبرك به الناس ملتمسين الرزق والأمان والشفاء، ومثل هذا حدث خارج المضيف أشرفت عليه المله (مريوده) التي أصبحت تسمى بالمله (فاطمه) استجابة لأمر ورد على لسان إحدى المبروكات وتكرر الأمر أكثر من مره.

عند الظهر أمهم السيد للصلاة الظهر....ثم أخذت صواني الرز العنبر المثقلة بلحم الخرفان والحولي والمشبعة بدهن الحر مع أواني (الروبه)ناهيك عن خبز الطابگ السياح والسمك المشوي فعاش الناس يوم فرح وعرس ومهرجان لم يحلموا بمثله وسط واقع حرب خيم عليهم فيه الحزن والخوف والتشرد، ختم اللقاء الكبير عند المساء عادت الزوراق والمشاحيف من حيث أتت وهي تحمل الرايات الملونة والشارات في الرقاب والأيدي وقناني الماء المباركة في أيدي وجيوب وحقائب العائدين الى منازلهم ،لم يتخلف من الركب سوى عدد من الفتيات المتطوعات لخدمة السيد وضيفه ، والمله (فاطمه) التي قدمت بصحبة السيد حامل السر والخبر السار....

وبعد ان صفى الجو وذهب المباركون التأم شمل الثلاثة المباركين خلعت العمائم وأبعدت التمائم،وأحضرت الكؤوس وطابت النفوس، وقد أبدعت (مريوده) في غناءها وأبدعت (صانعاتها) بالرقص والغناء حتى انبلاج الفجر حيث صلى (الساده) على أرداف الغواني....

جلس (سرحان) خلف مدفعه الرشاش في موضعه الأمامي المقابل لمواضع قوات العدو، كان يسمي موضعه بل(نوچه) أي المكان الذي يختبأ فيه الصياد لمراقبة دخول الطيور في شباكه وسط الهور لاتخاذ قرار سحبها لتطبق على الطيور في الوقت المناسب.......بين حين وآخر تبدد صمت الهور (صلية) مدفع رشاش او بعض طلقات متقطعة باتجاهين متعاكسين، لا لصد خطر او هجوم وإنما لإثبات وجود يقظ وتبديد الضجر على السواتر المتقابلة، بحيث أصبحت وسيلة لتبادل الرسائل فيما بين الطرفين عبر شفرة لحنية يفهم منها مضمون الرسالة هل هي ودية او سب وشتم وما إليه، وأحيانا تكشف عتمة الهور طلقات مدفع التنوير المتشظية او المظلية فتبدو كأنك في وضح النهار، سرعان ما يعود الصمت الي سابق حاله لا يعكر صفوه سوى نقيق الضفادع او صفقات أجنحة بعض الطيور المستفزة او التي تمرح وتمارس الحب في فضاءات المنبسطات المائية بين اكمات القصب والبردي، تتقافز أمام عينيه أنواع مختلفة من الأسماك، يستفزه بعضها وهو يتحداه بلامبالاته واستعراض جسمه أمام ناظريه_البز والگطان، والشبوط، والبني, والحمري، والسمتي- تظهر بأحجام قلما صادف مثيلها في منطقته خلال رحلات صيده هناك، كان يختار واحدة او أكثر ليصوب لها نيران بندقيته الكلاشنكوف، وينزل ليسحبه من الماء يصحبه معه عند حضور بديله في الحراسة إلى مقر الفصيل ،فالسمك أصبح وجبة الغذاء الرئيسية لهم في هذا المكان النائي، معوضا عن نقص التجهيزات الغذائية من مقر القاطع بالإضافة الي رداءتها وكان اغلبها من المعلبات التي لم يستسيغها سكان الاهوار، هذا الواقع أغنى (سرحان)من الحاجة الي أسماكه المجففة التي جلبها معه من بيته لعمل (المسموطه) المحببة لدى سكان عموم الجنوبيين وخصوصا سكان الاهوار .....................

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2027 السبت 11 / 02 / 2012)

في نصوص اليوم