نصوص أدبية

طول الأمواج / صالح الرزوق

حتى في شهر كانون الثاني حينما تكون الرمال مدفونة تحت فدادين من الثلوج. أحيانا يقف على الشاطئ بخفه الرياضي ويغلق عينيه ثم يصيخ السمع. في الشتاء، هناك أصوات تزلج الأولاد على الجليد ولعبة الهوكي. وفي الصيف، الصخب المزعج والبغيض والمتواصل لضحك الآخرين. وكل يوم يقول لنفسه أن لا يعاود الكرة ويأتي إلى هنا. كان بعمر أربعة عشر عاما ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يخوض في الماء فما بالك بالسباحة. وتذكر أنه في ذلك الصيف تلقن دروسا حول ما قالت عنه أمه إنه " شاطئ حقيقي" فقد كان ذلك بظروف الماء المالح. ويومها سأله مدرب السباحة لماذا لا يستطيع أن يؤدي عملين في وقت واحد، ثم قال له:" عليك أن تحرك ذراعيك وعليك أن تحرك ساقيك. هذا بمنتهى البساطة . مثل امتطاء دراجة. مثل مد زبدة الفستق على الخبز".

ولأنه لا يستطيع امتطاء الدراجات ومد زبدة الفستق لم يتمكن من النجاح في دروس المياه المالحة. قالت له أمه إن المدرب مجرد طالب جامعي سطحي و لم يتابع دراساته.

ومع ذلك لا تزال بحيرة سكوي المنطقة الممكنة الوحيدة في الجوار والتي تتناسب مع جو تموز، ولكن كان بمقدوره أن يقتل الوقت مع أمه لفترة طويلة قبل أن يسرع بالتوجه إلى الشاطئ. ولو أتيحت له الفرصة أن يختار المكان الذي سيقطن فيه، سوف يستقر قرب المحيط. في كايب كود. هنا يأتي السواح ليعوموا في المياه المالحة. ومع أنه لا توجد جدوى من المياه العذبة الراكدة للبحيرة فهو لا يزال يأتي إليها. أحيانا كانت تستفسر منه ماذا يصنع هناك. فيقول " لا شيء" وهكذا لا تجد ما تقوله بدورها. كلاهما يعلم أن هذا شيء بمنتهى الغرابة.

وقبل تبديل الموضوع والتحدث عن مبيعات مكيفات الهواء تقول :" سننتهي من هذا عاجلا يا عزيزي". من المفروض أن الماء هو الشيء المفضل الذي يعلي من شأن المنزل، ولكن كان دوج يرى أنه موضوع خانق. فكايب كود محاصرة بأربعة أحواض مائية ودوج يعيش برفقة أمه في مقاطعة صغيرة تحاصرها بحيرة سكوي وجزئيا ببركة ماء راكد وهي في عداد الملكيات الخاصة. يا لها من متاع عديم النفع. لا توجد هنا مياه جارية ، على الإطلاق.

سمع صوتا يقول:" ماذا تصنع؟". كان صوتا بشريا أجفل له من أعماقه فاستدار نحوه. إنها بيكي.

يا إلهي. في المدرسة يسمونها " فريسكي" وقد جمد منها. ها هو يلتقي الآن بزميلة الصف، زميلة مشهورة ومعروفة، ولكن ليس على مقعد الدراسة حاليا. رد يقول:" مرحباً يا فريسكي".

" آه، أنت تعرف لقبي". " كلنا نعرفه".

" على ما أعتقد هذا صحيح". سحبت فوطة خاصة بالشاطئ من حقيبتها وهزتها لمدة ثوان معدودات قبل أن تفرشها على الأرض، بحذر كأنها كوب من الشاي. وجلست عليها بأسلوب الهنود ولم يعلم هل من المفروض أن يجلس عليها برفقتها، أو يتركها لشأنها ويبتعد، أو يتسلق شجرة أو يقف بمكانه من غير حركة.

" اذا ، هل تعيش بالجوار ؟". " نعم، في أول الشارع".

" يا له من كلام مطمئن".

حملت زجاجة من ماء بولاند سبرنغ - نبع بولندا - ورمت برأسها للخلف. ثم وضعت الماء في الرمل وتثاءبت. بمقدوره أن يشاهد خطوط البكيني من خلال جذعها . بلع ريقه. وهنا انتبه أنه لا يزال واقفا في مكانه.

سأل:" هل تعيشين بالجوار؟". يا له من سؤال غبي. طبعا كلا. يمكنه أن يعرف ذلك. هزت رأسها بالنفي وتابعت بتسريح شعرها بشكل فطيرة. فوضع يديه في جيبيه ورغب لو أنه يرتدي حذاء خفيفا عوضا عن الخف الجلدي الأبيض.

و هنا قالت له " كلا" ثم أخرجت زجاجة طلاء الأظافر. رجتها ونظرت. كانت الشمس فوق رأسها، خلف أشجار الصنوبر. كانت تسد عليه نظره، وليس نظرها. تأملاتها كانت بلا معنى. دائماً تتسبب الفتيات لدوج بالاضطراب، سألها مجددا:" هل ترغبين أن أجلس معك". " ماذا؟".

شعر بالضيق فقال:" لا شيء. لا أعلم هل يجب أن أجلس أو..".

" و إذا، كيف حالك مع هذا الصيف؟". " بأطيب حال. كما ترين".

فتحت زجاجة دهن الأظافر وبدأت تلون أظافرها بلون قرمزي ناصع. وقالت له " اسمك سكوت ، أليس كذلك؟".

لم يتمكن من منع خديه من الاحمرار وهو يقول :" أنا دوج". فضحكت وقالت: " آه ، لسوء الحظ نسيت".

وتصور عليه أن يتحرك فورا وهكذا اقترب منها ووقف بجانب الملاءة. ها هو وحده على الشاطئ مع فتاة. وفي يوم صيفي حار. جاهزة بالبكيني . ورائحة طلاء الأظافر.تملأ الجو. ومن مسافة بعيدة، شاهد ولدا يقفز من المرفأ ورغب لو يراهما الولد ، صبي مع بنت، وهنا قالت له:" لماذا ليس معك ثوب سباحة؟".

" مصاب بالزكام" " هذا مريع".

" ولكن بمقدورك السباحة لو رغبت بذلك".

ضحكت ومدت يديها وقالت:" البرد. اللون البنفسجي".

" كم هذا غريب".

ودق قلبه بسرعة ثم أضاف :" لا بأس".

" سيحضر صديقي وكنا نعتقد لأن الشمس ترتعش أننا لن نلتقي بأحد هنا. أليس كذلك؟".

تراجع دوج، وهو يلتقط آخر أنفاسه بجوارها وقال:" افترضي أنني رحلت. بكل تأكيد".

" يا لك من شخص لطيف" " شكرًا".

تثاءبت وبدأت تهز يديها المصبوغتين بالطلاء مؤخراً وقالت: " من المستغرب جداً أن تفكر بغطسة في منتصف اليوم، ولكن أي شيء يبدو أفضل ؟". " نعم، ولكن أين الأفضل؟".

في طريق العودة إلى البيت التقط دوج أوراقا مهملة وواحدة بعد أخرى. ولم يكن بوسعه أن لا يبتسم. كان هناك شيء خاطئ يستحوذ عليه. وهو يشعر بالضيم و بالعزلة. واعتقد أن هناك فرصة له مع فريسكي، ولكن كان هذا نوعا من الإحراج له. وفي نفس الوقت، خطر له لقد تحدث معها ولم يكن أمامه غير أن يكون ممتنا. كان الأمر يشبه حفل عيد ميلاده عندما أرسل له والده بطاقة لم يرفق بها النقود ولذلك صاحت أمه ومزقت البطاقة. فانتظر ساعة نومها ثم وضع يديه في علبة المهملات وجمع الأجزاء الممزقة. البطاقة برأيه تكفي. وكذلك التهنئة بالكلام.

والآن يسمع صوتها يقول: " يا عزيزي هل رأيت جزداني؟".

كانت تنادي عليه حتى قبل أن يفتح الباب وبمجرد أن سمع الصوت ارتبكت روحه فرد يقول:" كلا لم أر شيئاً".

اقتربت من المدخل وأشارت لحذائه وقالت:" اخلع نعليك من فضلك. لا أريد أن يأكل الرمل مكنستي الكهربائية. آه أين هو جزداني اللعين؟".

ابتعدت مجددا فتخلص من نعليه ونظر من النافذة باتجاه بحيرة سكوي. أراد أن يخبر أمه عن فريسكي، وعن عدم تعرفها حتى على اسمه، ولكن فكرة إخبارها عن الموضوع جعله يشعر بالضيق. جلس على الكنبة.

فقالت له:" دوج! أنا لا أرى جزداني القديم في أي مكان!".

" يا للبشاعة". أخرج ألبوم صور قديم وكان فيه والده، ومعه إناء ماء طازج. وكان يبتسم مثل رجل تافه. وفي زاوية الصورة شاهد دوج نفسه في مرحلة الطفولة. ولم يتمكن من تذكر تاريخ اليوم.

كانت تقول:" ذات يوم سأربط الجزدان الحقير . آخ".

ذات مرة سأل أمه عن الصورة وقالت له إنها المرة الوحيدة التي سمح لهم فيها الرجل اللعين بالصعود على " متن قارب الصيد الثمين". أغلق ألبوم الصور. إنه شهر تموز. ولسبب ما شعر بالحنين للمدرسة. ولكن صوت صنبور الماء في المطبخ أصابه بالجمود والشلل.

" يا للجزادين التافهة. أين اختفت؟".

" هل بمقدورك إغلاق صنبور الماء؟".

" كلا. لا يمكنني إغلاق الماء. ولا زلت لا أجد جزداني. هذا لمعلوماتك فقط".

لم يعرف ماذا منعه من مساعدتها في البحث. كان مغرما بفريسكي. وكان يتألم بحرقة لأنهما لا يستيقظان معا كل صباح ويسرعان إلى واحد من الشواطئ المالحة. ولو أن والده لم يرحل منذ سنوات حينما كان صغيرا ولا يستطيع أن يوقفه ، كان بمقدوره آنذاك أن يبكي وأن يرتدي الأفرولات وأن يصور بالكاميرا وجوها قليلة الاهتمام ومبلولة بالماء، وإلا لما اضطر لأن يكون هنا في هذه الحال ، جافا ومحاصرا بالبحار والبحيرات والجداول وصنابير المياه. مياه في باحته الخلفية، مياه منعشة في قارعة الطريق، مياه يلهو بها، مياه للحب والغرام، مياه تسيل من رشاش الماء، ومن خلاله يمر بسرعة ويقفز ويجد الراحة مع الرطوبة بما أنه ليس بدينا وليس عجوزا ويمكن له أن يلهو كالأولاد، لقد كان شريرا بما فيه الكفاية ليخفي صور أبطال جي آي جو تحت سريره مع الخشية من جيرانه الذين قد يسخرون من بطنه المستوية. يا للماء، إنه في كل مكان، تغرقه بينما تسمح لغيره بأن يطفو مثل أشخاص سعداء وقليلي الإحساس. مياه للتخيل ومياه مالحة، ومياه راكدة في الطريق، مياه العمر، مياه العمر المتقدم، ومياه الأفلام السخيفة التي تحمل علامات لا معنى لها تشبه عالمه. مياه كما نراها في لوحات قديمة محفوظة في المتاحف، في بيوت كبار السن الذين يحتضرون، وكلها متألقة وتلفت الانتباه من مسافة بعيدة، وتعتبر مصدرا للقلق والعبث مثل قصة لهمنغواي من أيام المدرسة، مثل يومنا الأخير في المدرسة حينما لا نجد ولدا واحدا يهتم بدوج الذي لا يمتلك خطة لتمضية الصيف.

قالت: " يا عزيزي، هل من المفروض أن أترك ذلك الشيء البغيض على سريرك؟".

عندما يبارك الماء الملح ويغلف بشرتك ويجففها ويسمح للأم أن تتباهى لأنه يمنحك قسمات تبدو بها لعين الناظر رصينا، إنها تقسم أن هذا صحيح، الماء يمكنه أن يوفر حماما لبشرة الصبي الصغير ويغطيه بمعطف من الغبار الخيالي ويلطف جوه كلما امتطى دراجة هوائية في طريق العودة من الشاطئ، هذا إن لم يكن يشعر بالخشية من الدراجات وإن كانت فكرة قميص خفيف رطب تلفت نظره لعيوبه ونقائصه ولكن لا تسبب له النفور. الماء برهان على الحياة، المياه تقدم لنا الحياة ثم إنها تنفجر عندما تكون طفلا وقبل أن تصبح لك ذاكرة وتلفظك من رحم أمك، نفس الأم التي لا تعرف أين وضعت جزدانها.

الآن تسأله : " هل هو في الحمام؟ يا له من جزدان لعين؟".

قال بصوت خافت:" لا أعلم". ودفعه صوت قطرات الصنبور ليفكر بالاحتمالات.

قالت :" المطبخ!. يا عزيزي لقد كنت في المطبخ للتو. هل هو هناك؟. على الأقل انظر لو أن المفاتيح القذرة هناك!".

لو أنه كان صديقا لذلك الولد الصغير الذي انتسب للمدرسة في أيار، لربما كان لديه صديق. ولو نجح في امتحان دروس السباحة لربما أصبح الأول وهكذا لن يرتطم فخذاه ببعضهما، ولو أن والده لم يرحل ربما لن يتريث في المنزل ويلهو بلعبة إلكترونية بينما مكيف الهواء يعمل بأعلى طاقته أو يقرأ من كتب المغامرات التي اختارها. ولو أنه كان يسبح حينما وصلت فريسكي إلى البحيرة، ربما انضمت إليه. ولكن هل كان الجو لطيفا ويسمح بالسباحة في البحيرة؟. لم يكن متأكدا من ذلك.

سمعها تسأل:" دوج! هل تسمعني؟".

لم يرد عليها وحينما انتبه أنها أصبحت بعيدة عن مرمى بصره، تسلل عبر غرفة المعيشة إلى بسطة السلم وتقدم على أصابع قدميه إلى القبو. أن تكون هنا يعني الجحيم، أليس كذلك؟. أن تكون شاحبا مثل الآخرين في سيارات تقودها العتمة. أن ترى الحياة و تهجرها ثم تتهم الحياة أنها تقسو عليك ثم لا تميز أثناء الانتقال المفاجئ بين برودة النفس و لهب نيران الواقع وأن لا تتذكر أنك كنت حانقا من العالم أو أن العالم كان حانقا منك. أن تكون دوج، وأن تجيب على الفزورة بالتهام مثلجات بوبسيكل، وحلويات بوب غير الناضجة، وحفنة من رقائق البطاطا، والطعام السريع، وبصمت مطبق ثم تستمع للأم وهي تضع واقيات الشمس والزينة ، وتشعل رشاش الماء، ثم تمر من خلاله، رشاشات تطلق حبات من مياه الصنبور، مياه رفيعة، مياه للصبيان الذين لم يذهبوا إلى الشاطئ، ولم يرغبوا بذلك، ولم يتمكنوا من ذلك، الذين تركوا الستائر مغلقة وتخيلوا عالما من غير ماء، وكبروا وهم يشعرون بالغيرة ممن يعيشون في مدن واسعة وتافهة وقذرة، لأنه انتبه هناك ، هناك في حقول الذرة ،في الأزقة، أزقة مناسبة، وأزقة متهدمة وتعيسة، حيث الماء لا يحجزك بداخله، وحيث توجد تعاسة، ولكنها تعاسة جافة، وهذا بالنسبة لدوج أقل مأساوية حيث الجدران الرطبة التي تحيط به تسحبه أيضاً.

سألته: " هل ترغب بمرافقتي إلى مركز التسوق؟. يجب أن أشتري بعض المثلجات الجافة. آه. ها هو. جزدان شرير، جزدان شرير".

نظر إلى سقف القبو. ماذا لو جاءت إلى هنا؟. وارتجف.

و عادت تقول: " أجبني يا دوج! لا زلت لا أجد مفاتيحي. يا لهذه المفاتيح السيئة".

قال:" ثانية واحدة".

"وأضافت تقول له :"وجدتها، وجدت المفاتيح، هل ترغب بمرافقتي يا عزيزي؟" . فتضرج لونه بالأحمر و قال:" أنا في الطابق الأسفل". " حسنا. اصعد إذا".

" قلت أنا في الأسفل".

كان من المفروض أن تعلم ماذا تعني كلمة " في الأسفل". سوف يعيقها عدم فهم ذلك حتى الآن. وفي النهاية، تغلب على نفسه وتحرك لكنه سقط على السلالم مرتين عمدا ليسمح لها بالخروج من الحمام وهي بحمالة الأثداء. بسبب أمور من هذا النوع، كان متأكدا عليه أن يذهب إلى الجحيم.

قالت له:" دوج! أغلق ذلك الصنبور اللعين ورافقني إلى مركز التسوق". " انتظري".

كان القبو مكانه المقدس الوحيد. هنا بمقدوره أن يتحرك وأن يراقب التلفزيون وهو يؤمن أنه لديه أسلوبه مع الماء في كايب كود. وذات يوم سيشعر أنه في بيته، ولن يكون في هذا القبو إلى الأبد. هنا أدرك حينما توقف جسده على التحرك بعكس إرادته، وحينما أصبح أكثر تدفقا، وحينما تخلص من قيوده، وحينما أصبح شعر إبطه أغزر، أكثر رجولة، سوف يتمكن من الخروج مثل فراشة ومثل فريسكي الرومنسية وهي تقف عند الشاطئ.

قالت له:" يا عزيزي سأعد حتى الخمسة ثم أهبط على السلالم إلى أسفل".

الخطيئة تقتل ومن الصعب أن تعلم ماذا يحصل أولا، الخطيئة أم العزلة، وختاما كانت شكواه ليست من النوع الذي يود أحد أن يسمع به.

لم يكن يعاني من اللوكيميا أو من كاحل القدم أو من صدع في الأضلاع مثل الأبله في أول الشارع. إنه مجرد ولد لم يحصل على فرصة ولو بسيطة مع فريسكي، وهنا بدأ يفكر بأمه ثانية، أمه الغبية ذات الصدر الكبير واختيارها الأحمق للزوج رقم " إثنان" الذي لا يروق له والقميص الخفيف الذي كان يحب أن يلعنه، قميص خطط أن يرتديه في المدرسة، بعد أن أصابه الهزال في نهاية الصيف.

سألته: " هل ترغب بأن تحصل مثلي على مثلجات جافة، قل نعم أو لا؟".

وقفت هنا بلا أية فكرة أنه للتو تقيأ. و إفرازات تغطي حضنه. حمل القميص و لكنها رفضت أن تنظر بعينه.

" أعطني ذلك القميص يا ولدي" " كلا".

" ولكنه متسخ ، أليس كذلك".

" قلت كلا".

استدارت نحو السلالم، وقالت:" حسنا، الحق بي ثم نذهب معا إلى مركز التسوق. بمقدورك أن تشتري لي كل الثياب المناسبة. يمكن أن تكون أميري".

وقف وألقى القميص على الكنبة. وقال:" نعم ، كما ترغبين".

فقالت:" سوف أطهو الحلويات فيما بعد. ألا يبدو هذا رائعا؟". " هل أنا بدين يا أمي".

تمهلت طويلا قبل أن ترد، وقالت:" يا ربي، كلا. أنتم يا أولاد اليوم كلكم مرضى. أقسم على ذلك. هل تتذكر مارلين مونرو؟".

" نعم؟".

" حسنا، هل كانت بدينة؟".

" كلا ".

" حسنا إذا، أنت أيضاً لست بدينا. أنت صبي كبير فقط. أنت دوج الأهبل. أقسم على ذلك".

وعندما ربتت على ظهره كانت كلماتها آخر المحفوظات التي تجمدت في رأسه العاجز عن التفكير. كيف لا يكون بوسعك أن تقبض عليها وتغلق الباب وتلتهمها بخمس لقمات كبيرة؟.

" والآن لنذهب لمركز التسوق من أجل الجليد الجاف. والبيتزا. أشعر بالرغبة في البيتزا. هل تشعر بالرغبة بالبيتزا؟".

وقادته على السلالم إلى أعلى، وحافظت على نفسها وراءه، وتركت إحدى يديها على كتفه، كما لو أنه ولد صغير، كما لو أنها لا تعلم الفرق بين قميص خفيف مبقع بعصير للصغار وقميص مثله متسخ من تلقاء نفسه.

لو أن السلالم تستمر إلى ما لا نهاية لن يكون بدينا، ولن يصلا إلى مركز التسوق ولن يطلب بيتوا بيبيروني ويلتهمها مع أنها قالت إنه غير بدين وسيدين نفسه بشكل أعمق في تأملاته حول المستقبل، والعودة إلى عصر الماء. ولو أمكن للسلالم أن تستمر لأميال بعيدة سيواصلان المسير ، هي من خلفه تهمهم حول المثلجات الجافة وعبوات الصودا المجانية وتوظيفات الأسعار في ماسي، وسيكفي الحصول على إذن بأكل البيتزا ولن يضطر لأن يقوم بالتهامها. ولكن بعد 14 سلمة وصلا إلى الطابق الأرضي وأصبح صوت لعبة الزورق السريع مع التزلج على الماء مسموعا ولكن كان دوج بدينا بحيث يتعذر عليه الذهاب إلى مركز التسوق والهجوم على البيتزا. ولكن ذات يوم، سيقسم أغلظ الأيمان لأي رب يصغي له، إنه سوف يمتطي تلك الموجات اللعينة. إنه متيقن من ذلك.

في مركز التسوق شرب ما تبقى من صودا الحمية، كأن الشرب بالماصة سوف يخرج فريسكي من ذهنه. كانت قطع المثلجات الرقيقة تطير بعكس الجاذبية. وتسقط في حنجرته. انتهى من محتويات الكوب وسألته هل يرغب بالمزيد. بمقدوره أن يبقى هنا حتى نهاية الزمن مشغولا بشرب صودا الحمية فالنافورة لن تجف. ولو جفت سوف يأتي الصغير الذي له نمش و الذي يجلس خلف الكونتور وسيكون معه صفيحة من ثاني أكسيد الكربون وسيمزج ذلك مع الصودا. ضغط الكوب بقبضته. وقال:" كلا . أنا متخم". إنه متخم لأن رئتيه تنهاران وهو يستطيع أن يمسك الكوب وينظر إليه فقط، كوب الورق المبتل ، ومع ذلك تواصل الحديث معه، وها هي تقف ثم تلمسه من ذراعه وتقول:" دوج، هل أنت على ما يرام يا دوج؟".

كم الطقس حار في بابا فينوس. الأفران تحترق و أكواب الورق تتحلل والحر يتوهج في الداخل مثل موجات تهطل من سماء فوق رأسه. قالت له:" يئست يا دوج. لا أعلم ماذا أقول لك بعد. لقد يئست. من الواضح أنك تكرهني. أنت متعلق بأبيك. وتكرهني". لمست كتفه بالسبابة. وأضافت:" يكفي. يجب أن تحقق ذاتك. وأنت لا تحب ذلك؟. ولكن حسنا يا صغيري يجب أن أكون نفسي. وحياتي ليست سفينة الحب اللعينة". وقاطعت ذراعيها وقرصت الشعر القصير الأشقر. ثم توعدت وقالت:" تكلم معي يا دوج".

نظر لها. كانت تبدو حزينة وتعيسة. كانت تجاعيدها ولمسات الكحل قد اختلطت برموش عينيها. لم يخطر على باله شيء يقوله لها. كل ما بمقدوره أن ينظر لها.

كانت فعلا تبدو أفضل حالا لو أنها مصبوغة لسمرة الشمس ولكنه سرق ذلك منها ، أليس كذلك؟. لن تذهب بعد الآن إلى الشاطئ وحدها. قالت هذا محرج لها. ثم أطلقت الريح بصوت مرتفع وغمغمت.

" يا للفظاعة يا أمي". " وماذا في ذلك".

" كم هذا شيء فظيع".

" ولكن لا يوجد هنا أحد سوانا" " بالضبط".

" الرائحة هنا مقززة على كل حال ولا يجب عليك أن تفرض علي كيف أتصرف".

يمكنه الآن أن يرى كل جزء ولو صغير من وجهها تحت هذه الإضاءة وربما تستطيع أن ترى كل خرم إبرة من وجهه وهما غير مكشوفين لأحد حاليا ولكن أمام بعضهما فقط، ويمكن للحر أن يدفع أي شخص للجنون وبالأخص أنهم بلا ثياب رسمية، لا يتوجب عليهما أن يكونا هنا. ولكن هذا قد حصل والروائح تعلو حولهما مثل البعوض.

قالت له:" لنذهب إلى الشاطئ"." كنت هناك للتو".

نظرت له بإمعان وقالت:" كلا يا عزيزي. أقصد الشاطئ الحقيقي، شواطئ المحيط".

لحظة الوصول إلى شاطئ كريغفيل كان معظم الناس قد انصرفوا. فالوقت تجاوز الخامسة ولم يتبق سواهما مع عدد محدود من الأزواج المسنين وعائلات من النوع الكسول الذي لا يحتمل حتى مشقة العودة إلى السيارات. شعر بالذنب، كأنه يفكر بأفكار ممنوعة ، ولكنه لا يفكر بهذا الشكل. إنه هنا فقط، على شواطئ المحيط، بعيدا عن البحيرة، وهو يفضل عليها هذا المكان، حيث الأمواج المرتفعة، وموقف السيارات الفسيح، وشعور المحبة الذي يشمل كل العالم. اقتربا معا من الماء، كانت هنا ترتدي قطنة استحمام واحدة وهو بالسروال والقميص الخفيف. غاص في الماء المالح وسبح بعيدا عنها بأسرع ما يمكن، وخيل له أنها سمكة قرش، وعندما أبعدت أوزارها عنه، تخلص من قميصه المبتل وألقى به إلى الأمواج. واعتقدت نوارس لبحر أنه يؤكل، وعندما خرج أخيرا من الماء اقترب من الشاطئ حيث كانت تجلس بنظاراتها الشمسية وكانت ترتعش وتبحث عن سيغارة لتدخنها. وعلى الفور صاحت به بصوت خافت:" ماذا بك؟".

قال:" دائماً أكره غروب الشمس".

وشرع يفكر بفريسكي. وبالغطس من غير ثياب. وتمنى لو لديه شيء يستحق القول ليخبرها به ، شيء يمكن له أن يسحبها بعيدا عن الماضي. قالت: "من المفروض أن تفكر كم هن جميلات. لا زلت أتذكر هذا ، أنا وأبوك هنا وهو يريد مني أن أراقب غروب الشمس ولم أكن أحب هذا، كنت لا أريد ذلك. وكان يبدو أنه يسأل نفسه" هل هذه امرأة"، فنظرت له، وعلى وجهي قسمات تشبه من يقول" هيه، كيف الحال" كنت أجلس هنا وأنا حامل بابنه، ولم أكن أعرف أنه أنت دوج. وعلى ما أعتقد خطر لي هل النساء مغرمات بغروب الشمس، ولكن أنا لست منهن. ربما أنا مجرد نصف امرأة وجزء مني...". ثم توقفت عن الكلام ونظردوج إلى المحيط كأنه أزمع على إخبارها حول هذا الجزء الآخر الغامض.

لم ينطق بكلمة لفترة من الوقت وأصبح كل شيء مقبولا. الماء المالح جيد بطبعه، صاخب، ويضرب بقوة حتى ينكسر على الرمال وهذا شيء يطيب معه أن تجلس هناك وتلتزم بالصمت. ولهذا السبب يأتي الناس ويجلسون بمحاذاة الشاطئ، وهديره يجعل الالتزام بحبال الصمت أقرب للقلب. وهذا غير ممكن عند البحيرة. سألت : " كم حريرة تعتقد سوف أستهلك بالسباحة"؟.

وقفت وتمطت و قال " القليل. في الغد سنأتي بوقت أبكر وستستهلكين المزيد. هذه أنباء مريحة أليس كذلك؟".

" معنى ذلك أنك تعتقد أنني بدينة؟".

" آه، ما هذه الأسئلة التي لا تملين منها؟". وسحب المنشفة حول كتفيه.

" آه يا عزيزي. لا يوجد ضرر في أن يكون لديك ما تود أن تفقده. هذا يعني أنك تمتلك فائضا منه، كما ترى؟".

لو تتوفر البيتزا هنا، يمكن له أن يأكلها بلقمة واحدة. ولكن كشك النقانق مغلق وأمه بدأت تأكل قطعة الحلوى التي في محفظتها.

" خيل لي أنه ليس من المفترض على الأمهات أن يتكلمن هكذا مع أبنائهن".

" وليس من المفروض على النساء أن تبغضن غروب الشمس. لا تنقل هذا الكلام لوالدك. هل تتذكر متى اتصل بنا لآخر مرة؟".

يتذكر ذلك. من ثلاث شهور مضت، ليلة الأحد. ولكن قال:" كلا".

" أنت تجلس في ذلك القبو وتفكر به وتتصرف كأنما عليه أن يجد الحل لكل شيء. ولكن هذه هي طبيعته يا دوج. لقد قرر أن يهجرنا. ووضع كل مدخراتنا باسم خليلته وهكذا ألحق الضرر بي. مهما كان اختيارك لا تتزوج من محاسبة".

" ولكنه والدي".

" نعم ، وأنا أمك. الحياة كلبة رعناء".

جاء نورس البحر من مكان مجهول. وعندما تذكرا القصة بعد سنوات، وافق كلاهما أن نورس البحر جاء من الفضاء الفسيح. تمسك برأس أمه وانتظر هناك ليلتقط أنفاسه. صاح دوج بالطائر ولكن الطائر زعق وأنشب مخالبه فيها، كما لو أنها أمه تسريحة شعرها عشه. وعندما طار أخيرا كان شعر أم دوج مغطى ببراز الطائر.

كان الليل قد خيم عليهما حينما شعرا بالسكينة، وكان الليل قد أوغل فيهما عندما تماسكا أيديهما وتسللا على أطراف الأصابع من بين طيات الظلام حتى وصلا إلى مياه الليل الداكنة. تعبت قبله وقالت إنها لا تريد أن تبلل كل ثوب الاستحمام، وتبعها وتخلص من سرواله الرطب. كانت العتمة كثيفة وعلما أنه لا يوجد شيء آخر سوى ذلك في هذا الوجود. كانت هذه العلاقة التفاعلية مع فريسكي متخيلة. ولكن السباحة في المياه العميقة هو الأمر الحقيقي. قال لها:" تكون المياه أبرد في الليل".

ضحكت ولم يكن بإمكانه تمييز شكلها إلا بخطوطه العريضة. و قالت له:" حاذر من السمك الهلامي . هذا كل ما يمكن أن أقوله لك".

وعندما تلامست سيقانهما صدفة صاحا وبدأت تعيد على مسامعه الآهات التي سمعها في فيلم الفك المفترس. تعامل دوج مع الماء بنفس الطريقة التي تعلمها من دروس السباحة. كأنه يدهن زبدة الفستق ويمتطي الدراجة. لم يكن متفوقا في تمريناته. وكان دائماً يشعر بيقظة الضمير والانتباه تحت الشمس الساطعة، ويمسك أنفاسه، بينما كل الأولاد الآخرين يحيطون به. ولكن مع أنفاس أمه الثقيلة التي تتردد مثل موسيقا مرعبة ورائحة طلاء أظافر فريسكي تعصف برأسه كل لحظة، وهكذا وجد أنه في الواقع يعرف كيف يتعامل مع الماء.

 

* الترجمة بإذن من الكاتبة.

 

.......................

المصدر: The Blue Penny Quarterly  - 2006 .

كارولاين كيبنيس Caroline Kepnes : كاتبة قصة و سيناريو أمريكية من كايب كودر. تعيش حاليا في لوس أنجلس. حازت على المرتبة الثالثة في مسابقة نادي همنغواي للقصة القصيرة.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2028 الاحد 12 / 02 / 2012)

 

 

في نصوص اليوم