نصوص أدبية

الحب الحقيقي / سلوى فرح

وفي هذا الصباح الملائكي الرائع مع عبق الجوري الأبيض الذي  ناجى روحي بعطره، وداعب أوتار قلبي بسحره، .. جلست لأستمتع وأبهج نظري.. و كل ما يوجد في شرفتي ينبض بالحياة بمناسبة عيد يوم  الحب الجميل!!يا لروعة هذا الصباح المقدس!!

بدأت أرتشف قهوة الصباح المنعشة، واستنشق بخارها المتعطش لعناق روحي شوقاً.. و نسيمات داعبت وجنتي كلمس الحلم للروح في المنام.. فأخذني الحنين إلى حضن أمي الليلكي، وحلقت روحي  هناك حيث حبيبي .

وأنا جالسة أحتسي قهوتي الطازجة لمحت هناك في الزاوية - من وراء أسلاك القفص الوردي المزركش بألوان قوس قزح- طائرين  الحب يتعانقان برأفة وعطف وعطاء متناهٍ، كأنهما لوحة فنية تألق فيها سحر امتزاج الأرواح.. ما أعظم تلك المحبة بينهما!! رأيتهما يذوبان في بعضهما البعض برقة عميقة كأنهما روح واحدة وجسد واحد.. كعاشق ومعشوقة.. لكن الحزن في نظراتهما حينئذ أدخلني في حيرة وتساؤل؟؟؟

بعدما هدأت ثورة شوقي للقهوة الصباحية قررت أن ألبي توسلات براعم الورد وأروي عطشها لماء الحياة.. وبينما أنا أتأمل سحر تفتح البراعم المبللة بقطرات الماء رويداً رويداً - كتفتح  صوت الله في ضمائرنا- سمعت زقزقة عذبة كعذوبة نغمات الكمان لكنها حزينة.. نظرت إلى الخلف كي أتحقق من مصدر الصوت، وإذا بالعاشق يحدق في عيني عشيقته ويرمقها بنظرات ودية غزلية،ويداعب رموشها بدفء ناعم، ويناجيها في حوار موسيقي متناسق..

كأنه يقول لها بزقزقته: هدئي من روعك يا مُنية القلب.. إنني أتعذب على حزنك وأنا عاجز.. لا حيلة في يدي لإخراجك من هذا القفص المشؤوم.. لكن لا يجب فقد الأمل.. فهو دليلنا.. ربما نجد طريقة للتحرر من هذا القفص اللعين الذي حرمنا طعم الحرية، و ألهرب معا..  أعدك أنني سأبذل قصارى جهدي.. اهدئي يا نور العين..

تنهدت المعشوقة متألمة وأجابت: كيف أهدأ يا روحي وذكرى عيد الحب تدغدغ خواطري ..ألا تذكر في العيد الماضي ونحن نحلق معاً أحراراً في سماء الله.. نتسابق والطيور الأخرى إلى ما وراء الأفق .. نملك الكون بأحاسيسنا الحرة.. دون قيود أو حدود.. أما اليوم فنحن  أسرى أسلاك القفص ألخرساء .. هل يعتقد البشر أنهم يشترون حريتنا بقفص باذخ الألوان ؟؟؟؟

ألا يكفي أنهم ظلموا أرواحهم وسجنوا ذواتهم في أقفاص التخلف والوهم  وقيدوا أنفسهم بسلاسل صدئة..

ألا يكفي أنهم حجزوا حريتهم داخل  دوائر مغلقة فارغة فحكموا على أرواحهم بالإعدام..

لماذا لا يتركوننا وشأننا ونحن رموز الحب الحقيقي والحرية؟؟؟؟

بدأ العاشق يهدئ من روع معشوقته، وهو يقول: نعم يا مهجة النفس معك كل الحق.. معظم البشر يمارسون أفظع أساليب التسلط والسيطرة على بعضهم البعض غافلين أن الله خلقهم أحراراً.. ويعلقون فشلهم وإحباطاتهم على شماعات القدر والزمن..  والحقيقة تكمن في بعدهم الروحي عن الله وهجرانهم للمحبة .. يلهثون في سباق حثيث لجمع ثرواتهم وزيادة أرصدتهم في البنوك.. متناسين أن الحياة رحلة قصيرة.. ويجب إدراك معنى المحبة، والاستمتاع بسحر الحب !!! و الحياة لا تستحق كل هذا الجهد الخاطئ.. لقد أصاب  سليمان الحكيم  حيث قال: الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس..

تتابع المعشوقة بحرقة: آه يا حبيبي لقد سئمت من التنقل بين بيوت البشر وسماع قصصهم متكررة المعاني.. فوجدتهم يتعاملون مع الحب بأسلوب المقايضة التجارية(العطاء لقاء مقابل)، لكن  قداسة الحب الحقيقي  تتجلى في العطاء فقط مقابل العطاء دون التفكير في الحصول على مقابل أو منفعة.. وإلا يفقد العطاء قيمته الإنسانية الثمينة.. لقد مللت طريقتهم الخاطئة في فهم الحب فغدا الحب في مفاهيمهم تهديداً و أنانية..

الزوج يتوعد زوجته بالطلاق إن لم تتخلَ عن مبادئها ضارباً أمالها وذاتها الحقيقية في سر الوجود بعرض الحائط.. وتثقل الزوجة الرجل برغباتها غير المحدودة، ولا تقبله كما هو، وتقارنه بالرجال الآخرين، فتخدش ثقته ورجولته فيضيع الحب..

ناهيكم عن أولياء الأمور الذين يطمحون إلى تحقيق أحلامهم الراحلة من خلال شخصيات أولادهم.. فيشوهون الحلم في عالم فلذات أكبادهم، فيضيعون على قارعة الطريق، ويتبعثرون هنا وهناك يبحثون عن معنى وجودهم و حياتهم ..

الحب الحقيقي هو أسمى من ذلك بكثير.. هو حب غير مشروط ، ويوجد فرق كبير بين أن نحب الشخص لذاته كما هو، وبين أن نحب ذواتنا عبر ذلك الشخص ونحلم بتغيره وفق الأهواء والأمزجة..

العاشق يضيف: صحيح يا غاليتي أن الله أعطانا الهواء والشمس والماء، وهذه العطايا غير محدودة، وبدون شروط..  لقد أحبنا جميعا محبة شاملة دون تمييز أو تفريق.. وأنا  أتعجب لحال البشر كيف يميزون ويفرقون بين بعضهم حسب الدين، واللون، والعرق والفوارق الطبقية وغيرها.. ولا يدركون أن الإنسان قيمة عظيمة، وأن الأرواح الصادقة تتلاقى في سماء واحدة بغض النظر عن الاختلافات الشكلية المصطنعة بينها، وأن الحب الحقيقي شامل ويغمر الجميع..

أيضاً تعجبت كثيراً من كيفية صهر معاني الحب الراقية في المصالح الشخصية الهابطة.. و كيف غدت المشاعر البشرية النبيلة تُشترى بالمال كالسلع التجارية.. وأضحت تقام أفخم الأعراس وكل شيء متوفر فيها  إلا الحب غير موجود! وكذلك تُقام الولائم تحت شعار الكرم الحاتمي بهدف الحصول على مآرب دفينة..

همست العاشقة بصوت مبحوح: إن الحب الحقيقي هو رسالة سماوية، وثقافة أزلية طاهرة ترفل بالغفران والتسامح، وإن سبب دمار الإنسان هو محبته الخاطئة لذاته، وعدم قناعته وثقته  بقدراته وبقدرته على الغفران لنفسه وللآخرين وترفعه عن الحقد، وحسده  الآخرين على ما يملكون من صفات، متجاهلا عطايا الله في شخصه أيضا.

العاشق ينادي معشوقته: تعالي يا حياة الروح أخبئك بين رموش عينيّ، وأمسح دموعك العزيزة.. أحبك كما أنت.. ولأنك أنت ورغبتي فيك كما ترغبين نفسك.. لأجلك أضحي بروحي وحياتي فداكِ حتى أراك حرة طليقة..

العاشقة قالت للمعشوق: لا اخرج إلا معك.. وروحي لا تحلق إلا حيث روحك.. ولا أموت إلا في حضنك.. يا نبض القلب وبلسم الروح.. أحبك فقط لأجل الحب.. ولا حياة بدون وجودك..

انتهى الحوار.. شعرت أن أنفاسي انتهت معه.. تمنيت لو  أن الأرض انشقت وابتلعتني للحظات فأتوارى خجلا عن نظريّ الطائرين.. وشعرت كم نحن البشر جُهال أمام عظمة الطائرين.. انتابتني صحوة غريبة، وكم شعرت بالندم لحبس طائريّ المحبة ..

ارتبط لساني وأنا أتابع حوارهما.. رأيتهما كتلة واحدة.. كأنهما ينبضان بقلب واحد.. وطفقاً يودعان بعضهما البعض الوداع الأخير..

هرعت نحو القفص.. كان جسدي يرتجف.. فتحت باب القفص.. أخذتهما في حضني ونظراتهما الاستعطافية المطالبة بالرحمة الممزوجة  بالألم كادت تقتلني.. قبلتهما..  شكرتهما على هديتهما التي لا تقدر بثمن وتوضيحهما لي معنى الحب الحقيقي.. ثم أطلقت سراحهما.. فحلقا عالياً نحو السماء ليحققا رغبتهما في عيد الحب معا..

لقد أدمعني رحيلهما.. لكنني شعرت بسعادة داخلية، لسماع زقزقتهما الفرِحة بحلاوة الحرية.. ثم غابا عن نظري بين الغيوم وزرقة السماء.. وكم أشكر الله أنني لم أغب عن نفسي..

هذه عبرة و حكمة من الطيور.. فلماذا لا نتعلم ولو أن كل الحكمة فيما قاله السيد المسيح: انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها، ألستم أنتم أفضل منها؟؟

 

هذه الخاطرة هي هديتي لكل الناس  في عيد الحب..  وكل عام وأنتم أحباء حقيقيون، وبألف خير وسعادة.

خاطرة


العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2029 الاثنين 13 / 02 / 2012)


 

*كندا

في نصوص اليوم