نصوص أدبية
تفاصيـل ليسـت هامـة ليوم عادي من حياة غير استثنائية
زحام وحركة دائمين، لو يكون الطابور طويلا عند شباك التذاكر، أقطع تذكرة من ماكنة آلية، يتحاشى استخدامها مسنّون بحجة التلذذ بحديث عابر مع ناس آخرين ينتظرون مثلهم، ومع قاطع التذاكر، أجلس أمام لوحة كبيرة مثبتة على الجدار، تتحرك معلوماتها وفقاً لأماكن توجه القطارات وأرقام أرصفتها وأزمنة انطلاقها، يحتشد مقابلها ناس كثيرون في الانتظار، رافعين أبصارهم نحوها، وهم يتناولون رقائق بطاطس مصنّعة بتثاقل، أو يحتسون قهوة حارة في أقداح ورقية، تملأ المكان روائح مطاعم الوجبات السريعة والفطائر المحشية، تسعُ الصالة ناساً أكبر واقفين، يواظبون التركيز على اللوح الألكتروني، سرعان ما تنسحب منهم مجموعة إثر ظهور رقم رصيف عليها، ليقترب آخرون بحقائب سفر أو بدونها ويقفون مكانهم، يهرع بعضهم لدى سماعهم نداء يهيب بهم للاسراع نحو قطارهم المغادر قريباً. أسير وسط جمع غفير من المسافرين، يأخذ بعضهم جريدة المساء المجانية من أماكن مخصصة لها، كما أفعل أنا، موظفون وموظفات، شباب وكهول، ببدل وحقائب وحواسيب محمولة وهواتف خلوية وسندوتشات يقضمونها ببطئ. أختار عربة في نهاية القطار، أجلس بمفردي كما يفضل من هم حولي، غير آبهين، يتأملون في الفراغ الثقيل أو يتصفحون الجريدة، يتطلعون بحيادية باردة من النافذة الى المروج والمراعي الخضراء وقت الربيع، والمكسوة بالثلج شتاءً. يقف القطار في محطات معينة، ينزل منها راكبون صامتون، ويصعد آخرون مثلهم، أنزل برتابة في محطتي مثل بقية الراجلين. أركب السيارة، زوجة ابني تنتظرني وفي بالها يوم عمل طويل في الغد. حين أصل الدار، أصعد الى غرفة أعدّت لي سلفاً. بعد تناول وجبة العشاء ينام الأطفال وأدخل غرفتي وأطلّ من النافذة على الحديقة، ومن بعدها مدى غامض اللون. أقرأ قليلاً وأستعد لنهوض مبكر في اليوم التالي. أصطحب حفيدي في الصباح الى مدرسته، نجتاز دروباً ريفية ضيقة، نطأ بأقدامنا على جذور أشجار معمرة تنتأ من تحت الأرض، نمرّ جِوار مزرعة واسعة فيها حصانين يقتربان من سياجها الخشبي كلما يحسّان بخطوات عابرة، يلوكان طعامهما بتؤدة، ويطلع زفيرهما على شكل بخار في صباحات الشتاء الباردة. أتطلع الى كوخ الطاحونة القديم بشبابيكه الصغيرة وستائر لها منقوشة بزهور ريفية ملونة، وفي أسفلها أصص فخارية لنباتات متناسقة، تحيط بالكوخ سنادين كبيرة لزهر بنفسج وسرخسيات. قرب تلّة صغيرة تقع عليها بناية المدرسة، هناك غدير صغير، علمتُ لو وشوش العابر اليه بأمنية ما، يتحقق ما يصبو اليه، أمرّ بجواره صامتة، ينتابني ندم خفي لخرس يصيبني، يجعلني أتلفت للوراء ثم أتراجع، تلافياً لخسارة قد تأتي.
من الصعب أن نعجز عن التمني.
تلبث في عقلي صورة الماء الجاري، وكأنني أسمع خريره يراودني على البوح. عند بوابة المدرسة ألمح أولياء أمور طلاب وطالبات، تنمّ ملامحهم عن ليلة قلقة وقلة نوم، نساء يفكرّن بشرب القهوة الصباحية دون ضجيج لأطفال، جد (جوليانا) المريض بالسرطان يُحضر حفيدته كل يوم، يؤدي فرضه اليومي بهمّة وبشعور عال بالجدوى، لا يرتاح في داره انتظاراً لموت حتمي، بل يمارس حياة طبيعية دون كلل، مؤجلاً التفكير فيما يعكّر صفو اللحظة. أقابله حينما نستلم الأطفال عند نهاية اليوم، نتبادل تحايا مألوفة، يكون وقتها مشغولاً بإلباس حفيدته قفازات ولفاف صوفي. أعود عبر المزرعة وكوخ الطاحونة وشبابيكه الصغيرة و شجيرات التوت البري اليابسة، أتلفت نحو الغدير الصغير، هل الخلل فينا أم في أمانينا؟ أعرض عنه، مثلما لايعبأ جد (جوليانا) بمرضه. في اليوم التالي أستقلّ قطاراً ذاهباً الى لندن، أجلس في العربة على مقعد منفرد، أنظر الى المروج من النافذة، يلوح لي ماء الغدير من خلالها، أفعم برغبة الإفصاح عن أمنيات عجوز عاجزة، تأخرت عن أوانها، كما الكثير من الأشياء، يصل قطاري الى محطة (كنز كروز)، أجد نفسي في باص ينقلني الى سكني.
سيدة غدير الأماني (6)
(سيدات الخريف الأخضر)
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2032 الخميس 16 / 02 / 2012)